(صفحه 63)
هذا العنوان عليه يكون من باب المسامحة.
ولكنّ المحقّق النائيني رحمهالله بعد الجواب عمّا ذكره الشيخ الأنصاري رحمهالله ذكرطريقين للتخلّص عن إشكال تخصيص الأكثر.
الطريق الأوّل: أنّ بعد مقايسة قوله: «لا ضرر» مع الأدلّة الأوّليّة نلتفت إلىتخصيصه لها بعنوان الحكومة، فإنّ لسانه بالنسبة إليها لسان التوضيحوالتفسير، ولكنّ الحكومة فيما كان الحكم بمقتضى طبعه مستلزما للضررأحيانا لا دائما مثل حكومته على دليل وجوب الوضوء؛ لأنّه قد يكونضرريّا، وقد يكون غير ضرري وصار محدودا بمورد غير ضرري بواسطةحكومته عليه، بخلاف ما إذا كان الحكم بمقتضى طبعه متمحّضا في الضرر، فلتتحقّق هنا حكومة، بل النسبة بينهما عبارة عن التعارض، وكان سائر الأدلّةمقدّما عليه.
الطريق الثاني: أنّ أكثر الموارد المذكورة بعنوان المتمحّض في الضرر ليسبصحيح، كالحكم بالضمان في مورد إتلاف مال الغير، فإنّ جبران ما أتلفباختياره ومباشرته لايكون ضرريّا، وكذا الحكم بالدية في مورد القتلالعمدي أو الخطائي، والحكم بإعطاء الزكاة بعد ما جعل الشارع سهما للفقراءفي الأموال، فكيف يكون الحكم بإعطاء الشريك سهم شريكه ضرريّا؟ نعم،في مثل باب الجهاد والحجّ مستلزم للضرر وتحمّل المشقّات الكثيرة بدون أيّعنوان آخر، ولكنّه لايكون موجبا لتحقّق عنوان تخصيص الأكثر(1).
وأجاب سيّدنا الاُستاذ الامام رحمهالله عن الطريق الثاني بجوابين:
الأوّل: أنّه سلّمنا أنّ بعد فرض كون الفقراء شركاء في باب الزكاة لايكونإعطاء سهم الشريك ضرريّا، إلاّ أنّ أصل جعل الحكم بشركة الفقراء
- (1) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم النائيني: 152 ـ 153.
(صفحه64)
ضرري، وهكذا الحكم بالضمان في مورد إتلاف مال الغير عالما عامدا ليسبضرري، ولكنّ الحكم بالضمان على النائم المتلف وغير الملتفت عن غيراختيار لا إشكال في كونه ضرريّا، فلا يكون أكثر الموارد خارجا عن عنوانالضرر.
الثاني: أنّ العموم قد يكون قابلاً وصالحا للتخصيص، وتخصيص الأكثرفيه يكون مستهجنا، وقد يكون آبيا عن التخصيص، كالقواعد الواردة في مقامالامتثال، مثل حديث الرفع، وقاعدة لاحرج، وغير ذلك؛ لمنافاتها مع أصلالتخصيص، وقاعدة لا ضرر أيضا من هذا القبيل، وكلمة «على مؤمن» فيبعض الروايات شاهد على ورودها في مقام الامتنان، فيكون سياقها آبيا عنتخصيص فضلاً عن تخصيص الأكثر(1).
أمّا الجواب عن الطريق الأوّل، فإنّ نتيجته الوقوع فيما فُرر منه؛ إذ بعدوقوع التعارض بين دليل نفي الضرر ودليل وجوب الزكاة والخمس بلحاظنفي الأوّل جنس الحكم الضرري بعنوان المطلق، وإثبات الثاني الحكمالضرري الخاصّ في مورد، فلابدّ من كونه مخصّصا له، فيعود الإشكال بقوّته،فإذا كان معنى قوله: «لا ضرر» نفي الحكم الضرري يكون مستلزما لإشكالتخصيص الأكثر، وهو غيرقابل للجواب، كما لا يخفى.
وأسند الشيخ الأنصاري رحمهالله معنى آخر لقوله: «لاضرر» إلى بعض الفحول،وقال: «هذا أردء الاحتمالات وأضعفها، وهو: أنّ معناه نفي الضرر، لا نفيالضرر المطلق، ولا نفي الحكم الضرري، بل الضرر الموصوف بوصف والمقيّدبقيد، وهو كونه غير متدارك، فإن كان الضرر متداركا مثل تدارك العباءالمغصوب بالمثل أو القيمة، فلا يتحقّق الضرر، فكلّ ضرر غير متدارك في
- (1) بدائع الدّرر في قاعدة نفي الضرر: 89 ـ 90.
(صفحه 65)
الإسلام منفي لتداركه بالمثل أو القيمة أو الأرش.
ثمّ استشكل عليه بأنّ مجرّد إيجاب المثل أو القيمة أو الأرش لايوجبتدارك الضرر في الخارج، وما يتدارك به الضرر واقعا يمكن أن لايتحقّقللعصيان والنسيان، فكيف يمكن نفي حقيقة الضرر(1)؟!.
وقال المحقّق شيخ الشريعة الاصفهاني رحمهالله : إنّ قوله: «لا ضرر» يدلّ على النهيعن الضرر، كأنّه قال: «لايجوز في الإسلام أن يضرّ رجل رجلاً»، وهذا المعنىيستفاد من الأذهان العرفيّة الخالية عن الشبهات ومن الاستعمالات الكثيرة،مثل قوله تعالى: «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الْحَجِّ»(2)، والمعنى: أنّهلايجوز الرفث ولا يجوز الفسوق، ولا يجوز الجدال في الحجّ، ومثل الروايةالواردة في باب السبق والرماية أنّه: «لا سبق إلاّ في خفّ أو حافرٍ أو نصل»(3)،يعنى لاتجوز المسابقة في غير هذه الثلاثة، ومثل قوله: «لا غشّ بينالمسلمين»(4)، ونحو ذلك، مضافا إلى أنّ كلمة «على مؤمن» في ذيل بعضالروايات لايكون متناسبا مع النفي، وإلاّ يكون معناه جواز المعاملة الغبنيّة إذكان المغبون كافرا ذمّيّا، والحال أنّ اشتراك الكافر والمسلم في الأحكام لإشكال فيه، وهذا دليل على كون «لا» ناهية.
ومضافا إلى أنّ ترتيب الصغرى والكبرى في بعض الروايات، مثل: قوله:«إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار» يناسب هذا المعنى.
على أنّه يستفاد من الكتب اللّغويّة كما ذكر في النهاية، والمعنى: «لايضرّالرجل أخاه شيئا»، فالمراد من «لاضرر» هو النهي إمّا لكون «لا» ناهية، وإمّ
(صفحه66)
للانتقال من النفي إلى النهي، فلا فرق بينهما.
ونتيجة هذا البيان كونه من الأحكام الأوّليّة المحرّمة في قبال سائرالمحرّمات، فلا قاعدة في البين.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ كثرة استعمال «لا» في النهي من استعماله في النفيلايكون قابلاً للقبول، بل الأمر بالعكس في الاستعمالات الفقهيّة والمحاوراتالعرفيّة، كما لا يخفى على المتتبّع، مضافا إلى عدم تناسب كلمة «على مؤمن» معالنهي أيضا؛ لعدم جواز الإضرار بغير المؤمن أيضاً في كثير من الموارد.
وثانياً: أنّ دخول «لا» الناهية على الاسم بصورة الاستعمال الحقيقى ليسبتامّ، وهكذا استعمال «لا» في النفي وإرادة النهي منه استعمالاً حقيقيّا لايكونقابلاً للتصوّر، وأمّا الاستعمال بصورة المسامحة والمجاز فلا مانع منه، ولكنحمل قوله: «لا ضرر» ـ مع أهمّيّته ـ على المعنى المجازي لايكون قابلاً للالتزام.
وكان لاُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله تحقيق آخر في معنى قوله: «لاضرر»، وهو:أنّ «لا» ناهية والنهي مولوي نبوي صادر من مقام الحكومة، لايرتبطبالنواهي الالهيّة، ولا بدّ لتوضيح ذلك من بيان اُمور:
الأمر الأوّل: أنّه كان لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله ثلاثة مناصب ومقامات، وكان لكلّمنها أحكام خاصّة:
المقام الأوّل: هو مقام النبوّة والمخبريّة عن اللّه تعالى، وليس له في هذهالمرحلة أمرا ونهيا مستقلاًّ، بل كلّ ما يقول به هو من ناحية الباري تعالى،ومخالفته مخالفة اللّه تعالى، وأوامره إرشاديّة، فالعقوبة والمثوبة من خصوصيّاتالمرشد إليه، فالجعل والتقنين والتشريع لايرتبط به صلىاللهعليهوآله ؛ «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌيُوحَى»(1).
(صفحه 67)
المقام الثاني: هو مقام الحكومة، والدليل عليه قوله تعالى: «أَطِيعُواْ اللَّهَوَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَ...»(1) ومعلوم أنّ الأمر في «أَطِيعُواْ اللَّهَ» إرشادي إلىحكم العقل، بخلاف الأمر في «أَطِيعُواْ اللَّهَ» فإنّه من الأحكام المولويّة الإلهيّةالثابتة في الشريعة، كأنّه يقول: أيّها المسلمون، يجب عليكم إطاعته في أوامرهونواهيه الصادرة منه صلىاللهعليهوآله بما أنّه رسول، ويستفاد منه أنّ اللّه جعل له مقامالحكومة والسلطنة بالنسبة إلى المسائل الاجتماعيّة، مضافا إلى مقام النبوّة.والشاهد عليه تكرار كلمة «أطيعوا» في الآية، وجعله في مقابل إطاعة اللّه يعنيإطاعة الرسول في الشؤون المربوطة بنفسه صلىاللهعليهوآله ، لا في الأوامر والنواهي الإلهيّة؛لعدم ارتباطها برسول اللّه، بل ترتبط مستقيما باللّه تعالى، فهو يدلّ بصورةالأمر المولوي على وجوب إطاعة الرسول، فتارك حفر الخندق ـ مثلاً ـ بلعذر يعاقب لا بما أنّه خالف اللّه تعالى مستقيما، بل بما خالف الرسول، مع أنّهكان واجب الإطاعة بمقتضى قوله: «أَطِيعُواْ الرَّسُولَ» فالمأمور به هو نفسإطاعة الرسول.
وهكذا قوله تعالى: «النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ...»(2) ومعنى الأولويّة المجعولةمن ناحية اللّه تعالى له: وجوب إطاعة أوامره في المسائل الاجتماعيّةوالشخصيّة فإذا أمر زيدا أن يطلّق زوجته أو يبيع داره يجب عليه إطاعة أمرهبمقتضى الآية وكونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأشار إليه في حديث الغديربقوله: «ألست أولى بكم من أنفسكم»(3).
المقام الثالث: هو مقام القضاوة وفصل الخصومة، وهذا واضح، فإنّه صلىاللهعليهوآله كان ينصب القاضي ويرسله إلى البلاد، إذا كان النصب من وظائفه فيستفاد