(صفحه 65)
الإسلام منفي لتداركه بالمثل أو القيمة أو الأرش.
ثمّ استشكل عليه بأنّ مجرّد إيجاب المثل أو القيمة أو الأرش لايوجبتدارك الضرر في الخارج، وما يتدارك به الضرر واقعا يمكن أن لايتحقّقللعصيان والنسيان، فكيف يمكن نفي حقيقة الضرر(1)؟!.
وقال المحقّق شيخ الشريعة الاصفهاني رحمهالله : إنّ قوله: «لا ضرر» يدلّ على النهيعن الضرر، كأنّه قال: «لايجوز في الإسلام أن يضرّ رجل رجلاً»، وهذا المعنىيستفاد من الأذهان العرفيّة الخالية عن الشبهات ومن الاستعمالات الكثيرة،مثل قوله تعالى: «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الْحَجِّ»(2)، والمعنى: أنّهلايجوز الرفث ولا يجوز الفسوق، ولا يجوز الجدال في الحجّ، ومثل الروايةالواردة في باب السبق والرماية أنّه: «لا سبق إلاّ في خفّ أو حافرٍ أو نصل»(3)،يعنى لاتجوز المسابقة في غير هذه الثلاثة، ومثل قوله: «لا غشّ بينالمسلمين»(4)، ونحو ذلك، مضافا إلى أنّ كلمة «على مؤمن» في ذيل بعضالروايات لايكون متناسبا مع النفي، وإلاّ يكون معناه جواز المعاملة الغبنيّة إذكان المغبون كافرا ذمّيّا، والحال أنّ اشتراك الكافر والمسلم في الأحكام لإشكال فيه، وهذا دليل على كون «لا» ناهية.
ومضافا إلى أنّ ترتيب الصغرى والكبرى في بعض الروايات، مثل: قوله:«إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار» يناسب هذا المعنى.
على أنّه يستفاد من الكتب اللّغويّة كما ذكر في النهاية، والمعنى: «لايضرّالرجل أخاه شيئا»، فالمراد من «لاضرر» هو النهي إمّا لكون «لا» ناهية، وإمّ
(صفحه66)
للانتقال من النفي إلى النهي، فلا فرق بينهما.
ونتيجة هذا البيان كونه من الأحكام الأوّليّة المحرّمة في قبال سائرالمحرّمات، فلا قاعدة في البين.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ كثرة استعمال «لا» في النهي من استعماله في النفيلايكون قابلاً للقبول، بل الأمر بالعكس في الاستعمالات الفقهيّة والمحاوراتالعرفيّة، كما لا يخفى على المتتبّع، مضافا إلى عدم تناسب كلمة «على مؤمن» معالنهي أيضا؛ لعدم جواز الإضرار بغير المؤمن أيضاً في كثير من الموارد.
وثانياً: أنّ دخول «لا» الناهية على الاسم بصورة الاستعمال الحقيقى ليسبتامّ، وهكذا استعمال «لا» في النفي وإرادة النهي منه استعمالاً حقيقيّا لايكونقابلاً للتصوّر، وأمّا الاستعمال بصورة المسامحة والمجاز فلا مانع منه، ولكنحمل قوله: «لا ضرر» ـ مع أهمّيّته ـ على المعنى المجازي لايكون قابلاً للالتزام.
وكان لاُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله تحقيق آخر في معنى قوله: «لاضرر»، وهو:أنّ «لا» ناهية والنهي مولوي نبوي صادر من مقام الحكومة، لايرتبطبالنواهي الالهيّة، ولا بدّ لتوضيح ذلك من بيان اُمور:
الأمر الأوّل: أنّه كان لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله ثلاثة مناصب ومقامات، وكان لكلّمنها أحكام خاصّة:
المقام الأوّل: هو مقام النبوّة والمخبريّة عن اللّه تعالى، وليس له في هذهالمرحلة أمرا ونهيا مستقلاًّ، بل كلّ ما يقول به هو من ناحية الباري تعالى،ومخالفته مخالفة اللّه تعالى، وأوامره إرشاديّة، فالعقوبة والمثوبة من خصوصيّاتالمرشد إليه، فالجعل والتقنين والتشريع لايرتبط به صلىاللهعليهوآله ؛ «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌيُوحَى»(1).
(صفحه 67)
المقام الثاني: هو مقام الحكومة، والدليل عليه قوله تعالى: «أَطِيعُواْ اللَّهَوَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَ...»(1) ومعلوم أنّ الأمر في «أَطِيعُواْ اللَّهَ» إرشادي إلىحكم العقل، بخلاف الأمر في «أَطِيعُواْ اللَّهَ» فإنّه من الأحكام المولويّة الإلهيّةالثابتة في الشريعة، كأنّه يقول: أيّها المسلمون، يجب عليكم إطاعته في أوامرهونواهيه الصادرة منه صلىاللهعليهوآله بما أنّه رسول، ويستفاد منه أنّ اللّه جعل له مقامالحكومة والسلطنة بالنسبة إلى المسائل الاجتماعيّة، مضافا إلى مقام النبوّة.والشاهد عليه تكرار كلمة «أطيعوا» في الآية، وجعله في مقابل إطاعة اللّه يعنيإطاعة الرسول في الشؤون المربوطة بنفسه صلىاللهعليهوآله ، لا في الأوامر والنواهي الإلهيّة؛لعدم ارتباطها برسول اللّه، بل ترتبط مستقيما باللّه تعالى، فهو يدلّ بصورةالأمر المولوي على وجوب إطاعة الرسول، فتارك حفر الخندق ـ مثلاً ـ بلعذر يعاقب لا بما أنّه خالف اللّه تعالى مستقيما، بل بما خالف الرسول، مع أنّهكان واجب الإطاعة بمقتضى قوله: «أَطِيعُواْ الرَّسُولَ» فالمأمور به هو نفسإطاعة الرسول.
وهكذا قوله تعالى: «النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ...»(2) ومعنى الأولويّة المجعولةمن ناحية اللّه تعالى له: وجوب إطاعة أوامره في المسائل الاجتماعيّةوالشخصيّة فإذا أمر زيدا أن يطلّق زوجته أو يبيع داره يجب عليه إطاعة أمرهبمقتضى الآية وكونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأشار إليه في حديث الغديربقوله: «ألست أولى بكم من أنفسكم»(3).
المقام الثالث: هو مقام القضاوة وفصل الخصومة، وهذا واضح، فإنّه صلىاللهعليهوآله كان ينصب القاضي ويرسله إلى البلاد، إذا كان النصب من وظائفه فيستفاد
(صفحه68)
ثبوته له بطريق أولى.
الأمر الثاني: أنّ تعبيرات الروايات المنقولة عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مختلفة؛ إذيعبّر في بعضها بكلمة «قال»، وفي بعضها بكلمة «أمر»، وفي بعضها بكلمة«قضى أو حكم»: فإذا كان التعبير بكلمة «قال» فلا ظهور له بارتباط مقولةالقول بمقام النبوّة أو الحكومة والسلطنة، بل محتمل الوجهين، وإذا كان التعبيربكلمة «أمر بكذا» أو «نهى عن كذا» أو «قضى وحكم بكذا» في غير موردفصل الخصومة، والظاهر أنّه يرتبط بمقام الحكومة وبما أنّه حاكم بينالمسلمين.
إذا عرفت ذلك فنقول: أنّه قد مرّ ما ذكره شيخ الشريعة في المقام من وحدةالروايات المنقولة من طرق الإمامّية في باب أقضية رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لكونالراوي في أكثرها عبارة عن عقبة بن خالد، مثل: ما نقله أهل التسنّن عنعبادة بن صامت، ولكن لمنلتزم بذلك لبعض الشواهد، إلاّ أنّ التعبيراتالموجودة في رواية عقبة بن خالد يتحقّق أكثرها في رواية عبادة بن صامتالجامع لأقضية الرسول، وهذايوجب الوثوق والاطمئنان لأن تكون روايةعبادة بن صامت مطابقة للواقع وإن لم تكن منقولة من طرق الإماميّة، فإنّتطابق مفادها وأكثر ألفاظها وتعبيراتها مع ما نقل عن عقبة بن خالد لبرواية واحدة، ومع كون عبادة بن صامت إماميّا موثّقا يوجب الوثوق بذلكبيننا وبين وجداننا، ونرى في رواية عبادة بن صامت استعمال كلمة «قضى» فيمورد «لاضرر»، وقد عرفت ظهورها في مقام الحكومة والولاية إن لم تكنقرينة على الخلاف، فالظاهر أنّه مع قطع النظر عن قضيّة سمرة بن جندبيرتبط بمقام الحكومة لا بمقام النبوّة.
وأمّا قضيّة سمرة بن جندب فلابدّ من ملاحظة خصوصيّاتها، ومن المعلوم
(صفحه 69)
أنّ مراجعة الأنصاري إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بعد النزاع والمكالمة مع سمرة بنجندب يكون بعنوان الاستمداد وإحقاق الحقّ عند الحاكم بما أنّه حاكم علىالمسلمين، لا بعنوان الاستفهام والسؤال عن الحكم الشرعي.
وأمّا قوله: «إذا أردت الدخول فاستأذن» ومكالمته معه في مقام المساومةوامتناعه من الاستيذان والمعاملة الدنيويّة والاُخرويّة ثمّ الأمر بالقلع، فهولكونه نبيّ الرحمة ومظهر رحمة اللّه تعالى وعطفه، ولكنّ إباء سمرة صار مانععن شمولها له، فالمراجعة مربوطة بمقام الحكومة، ولا محالة يكون قوله: «لضرر ولا ضرار» مربوطا بهذا المقام؛ فإنّ الأمر بالقلع لا شكّ في كونه حكمحكومتيّا وقوله: «لا ضرر» يكون بمنزلة التعليل له، ومقتضى قاعدة السنخيّةأن يكون التعليل أيضا حكما حكومتيّا.
والإشكال على علّيّة قوله: «لاضرر» لقوله: «اقلعها وارم بها إليه» أنّ القلعوالرمي يدفع الضرر عن الأنصاري، ولكن يتوجّه إلى سمرة بن جندب، وهولا يتناسب مع نفي جنس الضرر.
وقال الشيخ الأنصاري رحمهالله في رسالة لا ضرر في آخر المكاسب: إنّالاستدلال بقوله: «لا ضرر ولا ضرار» والاستفادة منه في المقام باقٍ بحاله وإن لميمكن لنا حلّ الإشكال فرضا.
ولكنّه ليس بصحيح، فإنّ خروج مورد التعليل عن الحكم العامّ المعلّل أمرمستهجن.
وهذا يهدينا إلى الالتزام بالمعنى الذي كان قابلاً للانطباق على مورد العلّة،فإن كان «لا ضرر» حكما إلهيّا لا مجال لدفع الإشكال؛ لعدم الفرق في الأحكامالإلهيّة بين رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وغيره وإن كان حكما حكومتيّا صادراً عنه صلىاللهعليهوآله ـ كمهو التحقيق ـ فلا معنى لشموله للحاكم بما أنّه حاكم، فكما أنّ الأحكام الإلهيّة