(صفحه90)
فلأنّ دعوى كون كلّ خصوصيّة أخذها العقل في موضوع حكمه لابدّ وأنيكون لها دخل في مناط حكمه واقعا ممنوعة؛ بداهة أنّه ربّما لايدرك العقلدخل الخصوصيّة في مناط الحسن والقبح واقعا، وإنّما أخذها في الموضوعلمكان أنّ الموضوع الواجد لتلك الخصوصيّة هو المتيقّن في قيام مناط الحسنأو القبح فيه، مع أنّه يحتمل واقعا أن لايكون لها دخلٌ في المناط.
مثلاً: يمكن أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضارّ الذي لايترتّب عليهنفع للكاذب ولا لغيره، إنّما هو لأجل أنّ الكذب المشتمل على هذهالخصوصيّات هو القدر المتيقّن في قيام مناط القبح فيه، مع أنّه يحتمل أنلايكون لخصوصيّة عدم ترتّب النفع دخل في القبح، بل يكفي في القبح مجرّدترتّب الضرر عليه وإن لزم منه حصول النفع للكاذب أو لغيره؛ والحكمالشرعي المستكشف من حكم العقل إنّما يدور مدار ما يقوم به مناط القبحواقعا، فيمكن بقاء الحكم الشرعي مع إنتفاء بعض الخصوصيّات التي أخذهالعقل في الموضوع من باب القدر المتيقّن؛ لإحتمال أن لايكون لتلك الخصوصيّةدخل فيما يقوم به الملاك واقعا فيكون وزان الحكم الشرعي المستفاد منالحكم العقلي وزان الحكم الشرعي المستفاد من الكتاب والسنّة، يصحّاستصحابه عند الشكّ في بقائه؛ لأجل زوال بعض خصوصيّات الموضوع التيلاتضرّ بصدق بقاء الموضوع واتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة عرفا.
والتحقيق: أنّ المراد من العقل هنا ليس عقول الأنبياء والأولياء المحيطةبكلّ الأشياء، بل المراد منه العقول البشريّة العاديّة الناقصة التي تدرك بعضالأشياء، وبالنسبة إلى بعض الأشياء، لها حالة الإبهام والإجمال، ومع فقدبعض الخصوصيّات من الموضوع يحصل لها الشكّ في البقاء، فيتحقّق مجرى
(صفحه 91)
الاستصحاب، كما قال به المحقّق النائيني رحمهالله .
والإشكال الثاني الذي أورد عليه هو ماذكره بقوله: «وثانياً: سلّمنا أنّ كلّخصوصيّة أخذها العقل في موضوع حكمه لها دخل في مناط الحكم بنظرالعقل ويكون بها قوام الموضوع، إلاّ أنّه يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعيقائما بالأعمّ من الواجد لبعض الخصوصيّات والفاقد لها؛ فإنّ حكم العقل بقبحالواجد لجميع الخصوصيّات لاينحلّ إلى حكمين: حكم إيجابي، وهو قبحالكذب الضارّ الغير النافع، وحكم سلبي، وهو عدم قبح الكذب الفاقد لوصفالضرر؛ فإنّه ليس للحكم العقلي مفهوم ينفي الملاك عمّا عدا ما استقلّ به،فيمكن أن يكون لخصوصيّة الضرر دخل في مناط حكم العقل بقبح الكذب؛من دون أن يكون لها دخل في مناط الحكم الشرعي بحرمة الكذب؛ إذ منالممكن أن يكون موضوع الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أوسعمن موضوع الحكم العقلي.
وحاصله: أنّه من الممكن أن يكون مناط الحكم بنظر الشارع أوسع منمناطه بنظر العقل بحيث يبقى حكم الشرع بحاله مع انتفاء بعض خصوصيّاتالمستصحب بخلاف حكم العقل؛ فإنّه يدور مدار الخصوصيّات المشخّصةعنده بقاءً وعدما، ونحن نستصحب الحكم الشرعي لاالعقلي، فلا منافاة بينبقاء الحكم شرعا وانتفائه عقلاً.
ويرد عليه: أنّ فرض الكلام فيما استكشفنا الحكم الشرعي من الحكمالعقلي بقاعدة الملازمة، ومعلوم أنّ الخصوصيّة دخيلة في حكم العقل بقاءًوعدما، ومع انتفائه ينتفي حكم العقل، فكيف يتصوّر بقاء الحكم الشرعيالمستفاد منه بقاعدة الملازمة مع القطع بانتفاء حكم العقل لانتفاء الخصوصيّة؟فلا يحتمل أن يكون مناط الحكم الشرعي الكذائي أوسع من مناط الحكم
(صفحه92)
العقلي.
نعم، يمكن أن يتحقّق هنا حكم شرعي آخر ذا مناط أوسع غير مناطالحكم العقلي، ولكنّه مشكوك الحدوث، فلا مجال للاستصحاب هنا.
وكان لاُستاذنا السيّد الإمام قدسسره تحقيق جامع في المقام، وهو قوله(1):«والتحقيق في المقام أن يقال: إنّه لو سلّمنا أنّ العناوين المبيّنة المفصّلة ـ التييدرك العقل مناط الحسن أو القبح فيها ـ إنّما تكون في نظر العقل مع التجرّدعن كافّة اللواحق والعوارض الخارجيّة، حسنة أو قبيحة ذاتا، فلا يمكن أنيشكّ العقل في حكمه المتعلّق بذلك العنوان المدرك مناطه.
ولكن تلك العناوين الحسنة والقبيحة قد تصدق على موضوع خارجي؛لأنّ الوجود الخارجي قد يكون مجمع العناوين المتخالفة، فالعناوين المتكثّرةالممتازة في الوجود العقلي التحليلي قدتكون متّحدة غيرممتازة في الوجودالخارجي، ويكون الوجود الخارجي بوحدته مصداقا للعناوين الكثيرة،وتحمل عليه حملاً شايعا، فإذا صدقت عليه العناوين الحسنة والقبيحة يقعالتزاحم بين مناطاتها، ويكون الحكم العقلي في الوجود الخارجي تابعا لما هوالأقوى بحسب المناط، مثال ذلك: أنّ الكذب بما أنّه كذبٌ ـ مع قطع النظر عنعروض عنوان آخر عليه في الوجود الخارجي ـ قبيح عقلاً، وإنجاء المؤمن منالهلكة حسن، وكلّ من الحسن والقبح ذاتي بالنسبة إلى عنوانه بما أنّه عنوانه،ولكن قد يقع التزاحم بينهما في الوجود الخارجي إذا صدقا عليه، فيرجّح مهو الأقوى ملاكا وهو الإنجاء، فيحكم العقل بحسن الكلام الخارجي المنجيمع كونه كذبا.
وكذا إيذاء الحيوان بما أنّه حيوان قبيح عقلاً، ودفع المؤذي حسن لازم
(صفحه 93)
عقلاً، وفي صورة صدقهما على الموجود الخارجي يكون الحسن والقبح تابعلما هو الأقوى مناطا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قد يصدق عنوان حسن على موجود خارجيمن غير أنيصدق عليه عنوان قبيح، فيكون الموضوع الخارجي حسنا محضحُسنا ملزما، فيكشف العقل منه الوجوب الشرعي، ثمّ يشكّ في صدق عنوانقبيح عليه ممّا هو راجح مناطا، فيقع الشكّ في الموضوع الخارجي بأنّه حسنأو قبيح، وقديكون بعكس ذلك.
مثال الأوّل: أنّ إنقاذ الغريق حسن عقلاً، فقد يغرق مؤمن فيحكم العقلبلزوم إنقاذه، ويكشف الحكم الشرعي بوجوبه، ثمّ يشكّ في تطبيق عنوانالسابّ للّه ورسوله عليه في حال الغرق، وحيث يكون تطبيق هذا العنوانعليه ممّا يوجب قبح إنقاذه، ويكون هذا المناط أقوى من الأوّل أو دافعا له،فيشكّ العقل في حسن الإنقاذ الخارجي وقبحه، ويشكّ في حكمه الشرعي.
مثال الثاني: أنّه قديكون حيوان غير مؤذٍ في الخارج، فيحكم العقل بقبحقتله، ثمّ يشكّ بعد بلوغه في صيرورته مؤذيا، فيشكّ في حكمه الشرعي،فاستصحاب الحكم العقلي في مثل المقامات ممّا لامجال له؛ لأنّ حكم العقلمقطوع العدم، فإنّ حكمه فرع إدراك المناط، والمفروض أنّه مشكوك فيه.
وأمّا الحكم الشرعي المستكشف منه ـ قبل الشكّ في عروض العنوانالمزاحم عليه ـ فلا مانع من استصحابه إذا كان عروض العنوان أو سلبه عنالموضوع الخارجي لايضرّان ببقاء الموضوع عرفا، كالمثالين المتقدّمين، فإنّعنوان السابّ والمؤذي من الطوارئ التي لايضرّ عروضها وسلبها ببقاءالموضوع عرفا.
فتلخّص ممّا ذكرنا: جواز جريان الاستصحاب في الأحكام المستكشفة من
(صفحه94)
الحكم العقلي».
وحاصل كلامه قدسسره : أنّه لامانع من جريان الاستصحاب في الحكم الشرعيالمستكشف من الحكم العقلي ولولميكن للعقل من حيث البقاء حكمٌ، كما أنّهقد يثبت الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة أو الإجماع حدوثا، ويثبتبالاستصحاب بقاءً، كذلك في الحكم المستفاد من العقل، فماذكره الشيخالأنصاري قدسسره من عدم وجدان الشكّ في البقاء في الأحكام الشرعيّةالمستكشفة من العقل بعنوان السالبة الكلّيّة ليس بتامّ، فإنّا وجدناه موجبةجزئيّة. هذا كلّه بالنّسبة إلى التفصيل الأوّل للشيخ الأنصاري قدسسره .
والمهمّ التفصيل الثاني الذي التزم به الشيخ الأنصاري قدسسره (1)، وهو التفصيلبين كون الشكّ من جهة المقتضي وبين كونه من جهة الرافع، فأنكر جريانالاستصحاب في الأوّل دون الثاني، وتتحقّق ثلاثة احتمالات في مراده منالمقتضي والرافع في بادئالنظر:
الأوّل: أن يكون المراد من المقتضي هو مناط الحكم وملاكه الذي اقتضىتشريع الحكم على طبقه، والمراد من الرافع هو الحائل والمانع من تأثير الملاكفي الحكم بعد العلم بأنّ فيه ملاك التشريع، فيكون الشكّ في المقتضي عبارةعن الشكّ في ثبوت ملاك الحكم عند انتفاء بعض خصوصيّات الموضوع؛لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصيّة دخل في الملاك، والشكّ في الرافع عبارةعن الشكّ في وجود مايمنع من تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بثبوته؛ لاحتمالأن يكون لتلك الخصوصيّة المنتفية دخل في تأثير الملاك.
الثاني: أن يكون المراد من المقتضي ماجعله الشارع سببا، إمضاءً أوتأسيسا، مثل جعل عقد النكاح سببا للزوجيّة، والمراد من الرافع ماجعله