(صفحه 139)
الطهارة والحلّيّة، والغاية على الاستصحاب.
فقال في بيان الأوّل ما حاصله: أنّ الصدر ظاهر في بيان حكم الأشياءبعناوينها الأوّليّة، لا بما هي مشكوكة الحكم، والغاية تدلّ على استمرار محكم على الموضوع واقعا من الطهارة والحلّيّة ظاهرا، مالميعلم بطروّ ضدّه أونقيضه. ومعناهما أنّ كلّ شيء محكوم بالطهارة والحلّيّة الواقعيّتين، وهممستمرّان بالاستمرار الظاهري إلى زمان العلم بحصول النجاسة والحرمة،فالغاية قيد لقوله: «طاهر» وقوله: «حلال»، ويستفاد منها حكمان: الطهارةوالحلّيّة الواقعيّتان واستمرار الطهارة والحلّيّة الظاهريّتين، وهذا المعنى ينطبقعلى الاستصحاب(1).
وفي الثاني: أنّ الصدر بعمومه يدلّ على الحكم الواقعي وبإطلاقه علىالمشكوك، بل يمكن أن يقال: بعمومه يدلّ على الحكم الواقعي وعلى المشكوكفيه؛ فإنّ بعض الشكّوك اللازمة للموضوع داخلة في العموم، ونحكم في البقيةبعدم القول بالفصل، والغاية تدلّ على الاستصحاب كما ذكر(2).
الاحتمال الثالث: مايستفاد من كلام صاحب الفصول(3) من عدم تعرّضالروايات للأحكام الواقعيّة، ودلالتها على الأحكام الظاهريّة من قاعدتيالطهارة والحلّيّة والاستصحاب.
الاحتمال الرابع: أن يقال بدلالتها على الاستصحاب فقط في مقابلالمشهور. هذا خلاصة الأقوال والاحتمالات في الروايات، والمهمّ منها ما ذكرهصاحب الكفاية قدسسره .
وأشكل عليه الأعاظم منهم اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره وقال(4): «وفيما أفاده
- (1) كفاية الاُصول 2: 298.
- (2) اُنظر: حاشية الآخوند على الرسائل: 185، السطر 25.
(صفحه140)
نظر: أمّا أوّلاً فلأنّ الطهارة والحلّيّة الواقعيّتين ليستا من الأحكام المجعولةالشرعيّة؛ للزوم إمكان كون شيء بحسب الواقع لا طاهرا ولا نجسا، ولحلالاً ولا حراما؛ لأنّ النجاسة والحرمة مجعولتان بلاإشكال وكلام، فلوفرض جعل النجاسة والحرمة لأشياء خاصّة، وجعل الطهارة والحلّيّة لأشياءاُخرى خاصّة يلزم أن تكون الأشياء غيرالمتعلّقة للجعلين لا طاهرةولا نجسة، ولا حلالاً ولا حراما، وهذا واضح البطلان في ارتكاز المتشرّعة.
مضافا إلى أنّ الأعيان الخارجيّة على قسمين:
الأوّل: مايستقذره العرف. والثاني: ما لايستقذره، وإنّما يستقذر الثانيبملاقاته للأوّل وتلوّثه به، والتطهير عرفا عبارة عن إزالة التلوّث بالغسل،وإرجاع الشيء إلى حالته الأصليّة غيرالمستقذرة، لإيجاد شيء زائد على ذاته،بل يكون طاهرا، والظاهر أنّ نظر الشرع كالعرف في ذلك، إلاّ في إلحاق بعضالاُمور غيرالمستقذرة عرفا بالنجاسات، وإخراج بعض المستقذرات عنها.
وكذا الحلّيّة لمتكن مجعولة، فإنّ الشيء إذا لميشتمل على المفسدة الأكيدةيكون حلالاً، وإن لميشتمل على مصلحة فلا تكون الطهارة والحلّيّة منالمجعولات الواقعيّة. نعم، الطهارة والحلّيّة الظاهريّتان مجعولتان.
فحينئذٍ نقول: إنّ قوله: «كلّ شيء حلال» أو «طاهر» لو حمل على الواقعيّتينمنهما يكون إخبارا عن ذات الأشياء، لا إنشاء الطهارة والحلّيّة، فالجمع بينالقاعدة والحكم الواقعي يلزم منه الجمع بين الإخبار والإنشاء في جملةواحدة، وهو غيرممكن، هذا أوّلاً».
والتحقيق: أنّ ما ذكره ـ من عدم قابليّة الطهارة الواقعيّة والحلّيّة الواقعيّةللجعل الشرعي؛ للزوم أن تكون بعض الأشياء لا طاهرة ولا نجسة، لا حلال
(صفحه 141)
ولا حراما، وهذا واضح البطلان في ارتكاز المتشرّعة ـ ليس بتامّ؛ إذ المفروضجعل الشارع القاعدة الكلّيّة بلفظ «كلّ» المضاف إلى لفظ «شيء» بقوله: «كلّشيء حلال»، وبقوله: «كلّ شيء طاهر»، فإن قام الدليل الشرعي على نجاسةشيء أو حرمته فهو خارج عن عموم القاعدة بعنوان التخصيص، وإن لم يقمدليل عليهما فهو باق تحت عموم قوله: «كلّ شيء طاهر وكلّ شيء حلال»، وفيالموارد المشكوكة نرجع إلى عموم القاعدة نظير ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره فيمقام الجمع بين العامّ والخاصّ بالفرق بين الإرادة الجدّيّة والإرادة الاستعماليّة،فما ذكره قدسسره ليس بوارد على كلام صاحب الكفاية قدسسره .
والإشكال الثاني من اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره ـ على ما ذكره في الحاشية مندلالة الصدر على الحكم الواقعي والظاهري، والغاية على الاستصحاب ـ قوله:
«وأمّا ثانيا فلأنّ معنى جعل الطهارة والحلّيّة الظاهريّتين هو الحكم بالبناءالعملي عليهما، حتّى يعلم خلافهما، ومعنى جعل الواقعيّتين منهما هو إنشاءذاتهما، لا البناء عليهما، والجمع بين هذين الجعلين ممّا لايمكن».
والحقّ أنّ هذا الإشكال وارد وغير قابل للردّ.
والإشكال الثالث ماذكره اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره والمحقّق النائيني رحمهالله (1) معا،وهو: أنّ الحكم الظاهري متأخّر عن الحكم الواقعي بمرتبتين؛ لتأخّره عنموضوعه ـ أي المشكوك الطهارة والنجاسة والمشكوك الحرمة والحلّيّة وتأخّر موضوعه عن الحكم الواقعي، ولا يمكن جمعهما في اللحاظ والاستعمالالواحد.
والإشكال الرابع ماذكره اُستاذنا السيّد بقوله:
«وأمّا رابعا فلأنّ الحكم في قاعدة الطهارة والحلّيّة يكون للمشكوك فيه،
- (1) فوائد الاُصول 4: 368.
(صفحه142)
فلامحالة تكون غايتهما العلم بالقذارة والحرمة، فجعل الغاية للحكم المغيّبالغاية ذاتا لايمكن.
الّلهُمَّ إلاّ أن يقال: إنّ الغاية إنّما تكون للطهارة والحلّيّة الواقعيّتين، لأجلالقرينة العقليّة، وهي عدم إمكان جعل الغاية للحكم الظاهري، فيكون المعنى:أنّ الطهارة والحلّيّة الواقعيّتين مستمرّتان إلى أن يعلم خلافهما، لكن جعلالغاية للطهارة والحلّيّة الواقعيّتين لازمه استمرار الواقعيّتين منهما في زمنالشكّ، لاالظاهريّتين ويرجع حينئذٍ إلى تخصيص أدلّة النجاسات والمحرّماتالواقعيّة، فتكون النجاسات والمحرّمات في صورة الشكّ فيهما طاهرة وحلالواقعا، وهو كما ترى باطل لو لميكن ممتنعا».
ثمّ قال: «فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الجمع بين الحكم الواقعي والقاعدةوالاستصحاب ممّا لايمكن، فلابدّ من إرادة واحد منها، ومعلوم أنّ الرواياتظاهرة في قاعدة الحلّ والطهارة، بل مع فرض إمكان الجمع بينها أو بينالاثنين منها يكون ظهورها في القاعدتين محكّما، وليس كلّ ما يمكن يراد»(1).
والإنصاف أنّ بين صدر كلامه وذيله نوع من التهافت، فإنّ ظاهر كلامه فيالصدر عدم دلالة الروايات على قاعدة الطهارة والحلّيّة؛ لعدم إمكان جعلالغاية للحكم المغيّا بها ذاتا، وصريح قوله في الذيل بأنّ الروايات ظاهرة فيقاعدة الحلّ والطهارة، بل مع فرض إمكان الجمع بينها أو بين الاثنين منهيكون الظهور في القاعدتين محكما.
مع أنّ الغاية تهدينا إلى أنّ المراد من الطهارة هنا هي الطهارة الظاهريّة،والمراد من الحلّيّة هي الحلّيّة الظاهريّة؛ لعدم إمكان أخذ العلم غاية فيالأحكام الواقعيّة كما التزم به المشهور.
(صفحه 143)
والإشكال الخامس: مايستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمهالله (1) وهو: أنّهلاطريق لدلالة قوله: «كلّ شيء طاهر» على الحكم الواقعي وأخذ قوله: «حتّىتعلم» غاية له إلاّ بملاحظة العلم فيها بعنوان الطريقيّة لا الموضوعيّة، لعدمدخل العلم والجهل في الحكم الواقعي.
وأمّا دلالته على الحكم الظاهري وأخذ قوله: «حتّى تعلم» غاية له فلابدّمن ملاحظة العلم فيها قيدا للموضوع أو للحكم، ولا يمكن ملاحظة العلم فيالجملة الواحدة وفي الاستعمال الواحد بعنوان الطريقيّة والموضوعيّة معا.
والإشكال السادس: أيضا مايستفاد من كلامه قدسسره وهو: أنّ إثبات حكملموضوع على نحو العموم مثل: «أكرم كلّ إنسان» يشمل جميع الخصوصيّاتالصنفيّة والفرديّة المتحقّقة للموضوع بما أنّه صنف منه وفرد منه، فيجبإكرام زيد وعمرو، والعالم والجاهل، والأسود والأبيض بما أنّهم إنسان، لا بمأنّه زيد أو عالم، فالملاك للحكم هو انطباق عنوان العامّ فقط بلا دخل لأيّعنوان آخر.
ونتيجة هذه المقدّمة فيما نحن فيه أنّ المولى إذا قال: «كلّ شيء طاهر»ورتّب الطهارة على عنوان شيء بما أنّه شيء، بدون وصف زائد، وأراد منهالطهارة الواقعيّة، فلا إشكال في شموله لشيء شكّ في نجاسته وطهارته بعنوانأنّه صنف من الشيء، ولا محالة تترتّب عليه الطهارة الظاهريّة، إلاّ أنّالمشكوكيّة دخيلة في موضوع الطهارة الظاهريّة بعنوان القيديّة، فلا يمكنشمول قوله: «كلّ شيء طاهر» للطهارة الظاهريّة، فإنّ عمومه لايشمل ما هوزائد على عنوان «شيء».
والإشكال السابع: مايستفاد أيضا من كلامه قدسسره وهو: أنّ عموم قوله: «كلّ
- (1) أجود التقريرات 4: 59 ـ 62.