وقال المحقّق النائيني رحمهالله : وقد شنّع على القائل بذلك بأنّ الصوم والصلاةوالحجّ ليست من مقولة الحكم، فكيف تكون من الأحكام الوضعيّة؟ ولكنيمكن توجيهه بأنّ عدّ الماهيّات المخترعة الشرعيّة من الأحكام الوضعيّة إنّمهو باعتبار كونها مركّبة من الأجزاء والشرائط والموانع، وحيث كانتالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة فيصحّ عدّ جملة المركّب منالأحكام الوضعيّة، وليس مراد القائل بأنّ الماهيّات المخترعة من الأحكامالوضعيّة كون الصلاة ـ مثلاً ـ بما هي هي حكما وضعيّا، فإنّ ذلك واضحالفساد لايرضى المنصف أن ينسبه إلى من كان من أهل العلم(1).
وأجاب عنه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره : بأنّ الماهيّة المخترعة كالصلاة قبلتعلّق الأمر بها وإن لمتكن من الأحكام الوضعيّة، لكنّها لمتكن قبله منالماهيّات المخترعة أيضا؛ لعدم كونها حينئذٍ من المقرّرات الشرعيّة، وإنّما تصيرمخترعات شرعيّة بعد ما قرّرها الشارع في شريعته بجعلها متعلّقة للأوامر،وحينئذٍ تصير كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة للمأمور به من الأحكام الوضعيّة.
ولا فرق بين الجزئيّة والكلّيّة في كونهما أمرين منتزعين عن تعلّق الأمربالطبيعة، فيكون نحو تقرّرهما في الشريعة بكونهما منتزعين من الأوامرالمتعلّقة بالطبائع المركّبة، فمن جعل الجزئيّة للمأمور به من الأحكام الوضعيّةمع اعترافه بكونها انتراعيّة، فليجعل الكلّيّة أيضا كذلك.
وعلى هذا فلا مانع من جعل الماهيّات الاختراعيّة من الأحكام الوضعيّة،أي من المقرّرات الشرعيّة والوضعيّات الإلهيّة، ولكن إطلاق الحكم عليهكإطلاقه على كثير من الوضعيّات يحتاج إلى تأويل(2).
وقال المحقّق النائيني رحمهالله أيضا: «نعم، عدّ الولاية والقضاوة من الأحكامالوضعيّة لايخلو عن تعسّف خصوصا الولاية والقضاوة الخاصّة التي كانيتفضّل بهما الإمام عليهالسلام لبعض الصحابة، كولاية مالك الأشتر، فإنّ الولايةوالقضاوة الخاصّة حكمها حكم النيابة والوكالة لاينبغي عدّها من الأحكامالوضعيّة، وإلاّ فبناءً على هذا التعميم كان ينبغي عدّ الإمامة والنبوّة أيضا منالأحكام الوضعيّة، وهو كماترى(1).
وقال الإمام قدسسره في مقام الجواب عنه: «فمثل الرسالة والخلافة والإمامةوالحكومة والإمارة والقضاء من الأحكام الوضعيّة، قال تعالى: «وَ كُلاًّ جَعَلْنَنَبِيًّا»(2)، وقال تعالى: «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الاْءَرْضِ خَلِيفَةً»(3)، وقال تعالى: «إِنِّىجَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّــلِمِينَ»(4)، فقدنصب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أميرالمؤمنين عليهالسلام إماما وأميرا على الناس يوم الغديروجعل القضاة من ناحية السلطان ـ كجعل الأمير والحاكم ـ معروف ومعلوم.
وبالجملة، لا إشكال في كون النبوّة والإمامة والخلافة من المناصب الإلهيّةالتي جعلها اللّه وقرّرها، فهي من الأحكام الوضعيّة أو من الوضعيّات وإنلميصدق عليها الأحكام.
فاستيحاش بعض أعاظم العصر رحمهالله من كون أمثال ذلك من الأحكامالوضعيّة في غير محلّه»(5).
والتحقيق: أنّ كلام المحقّق النائيني رحمهالله بالنسبة إلى الولاية التي ترجع إلى
- (1) فوائد الاُصول 4: 385.
(صفحه150)
النيابة والوكالة قريب إلى الذهن، وأمّا بالنسبة إلى القضاوة وسائر المواردفالحقّ مع اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره .
كيفيّة جعل الأحكام الوضعيّة واحتمالاته
واختلف العلماء في أنّ جعلها استقلالي كالأحكام التكليفيّة، أو أنّها مجعولةلا بجعل إستقلالي، بل بتبع التكليف وتنتزع منه، كما يستفاد من كلام الشيخالأنصاري قدسسره ، ويستفاد من كلام صاحب الكفاية قدسسره التفصيل فيها، وقال:«والتحقيق: أنّ ماعُدّ من الوضع على أنحاء:
منها: ما لايكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعا أصلاً، لا استقلالاً ولا تبعا، وإنكان مجعولاً تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك.
ومنها: ما لايكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعي إلاّ تبعا للتكليف.
ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالاً بإنشائه، وتبعا للتكليف بكونه منشلانتزاعه وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله، وكون التكليف منآثاره وأحكامه، على ما تأتي الإشارة إليه.
أمّا النحو الأوّل فهو كالسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة لما هو سببالتكليف وشرطه ومانعه ورافعه، حيث إنّه لايكاد يعقل انتزاع هذه العناوينلها من التكليف المتأخّر عنها ذاتا، حدوثا أو ارتفاعا، كما أنّ اتّصافها بها ليسإلاّ لأجعل ما عليها من الخصوصيّة المستدعية لذلك تكوينا؛ للزوم أن يكونفي العلّة بأجزائها من ربط خاصّ، به كانت مؤثّرة في معلولها، لا في غيره، ولغيرها فيه، وإلاّ لزم أن يكون كلّ شيء مؤثرا في كلّ شيء، وتلك الخصوصيّةلايكاد يوجد فيها بمجرّد إنشاء مفاهيم العناوين، ومثل قول: دلوك الشمسسبب لوجوب الصلاة إنشاءً لا إخبارا؛ ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه