(صفحه16)
وحينئذٍ فالملاك في تحقّق البيان الذي لايقبح العقاب والمواخذة معه هو أنأمر اللّه تعالى رسوله بتبليغه، وقد بلّغه الرسول على نحو المتعارف، وصارمضبوطا في الكتب المعدّة له، ومع فقدان أحد هذه الشروط يصدق عدمالبيان ويقبح العقاب معه، وحينئذ فمع احتمال المكلّف ثبوت التكليف المبيّنالواصل بحيث لو فحص لظفر به لايجوز الاعتماد على البراءة التي مدركها قبحالعقاب بلابيان، كما أنّ العبد العرفي لو وصل إليه مكتوب من ناحية مولاهواحتمل أن يكون المكتوب متضمّنا لبعض التكاليف لايجوز له القعود عنهبعدم مراجعته استنادا إلى أنّ المولى لم يبيّن حكمه، ولا يكون مثل هذا العبدمعذورا عند العقلاء جزما، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه قد يستشكل في وجوب الفحص وعدم جريان البراءة قبله بأنّالحكم مالم يتّصف بوصف المعلوميّة لايكون باعثا ومحرّكا؛ ضرورة أنّ البعثبوجوده الواقعي لايصلح للمحرّكيّة، وإلاّ لكان اللازم تحقّق الانبعاث بالنسبةإلى الجاهل به المعتقد عدمه، بل قد عرفت سابقا أنّه لايعقل أن يكونالانبعاث مسبّبا عن البعث الواقعي، بل الانبعاث دائما مسبّب عن البعثبوجوده العلمي الذي هو الصورة الذهنيّة الكاشفة عنه، والأوامر إنّما تتّصفبالباعثيّة والمحرّكيّة بالعرض، كما أنّ اتّصافها بوصف المعلوميّة أيضا كذلك؛ضرورة أنّ المعلوم بالذات إنّما هو نفس الصورة الحاضرة عند النفس، كمحقّق في محلّه.
والحاصل: أنّ البعث الواقعي لايكون باعثا ما لم يصر مكشوفا، والكاشفعنه إنّما هو العلم ونحوه، وأمّا الاحتمال فلا يعقل أن يكون كاشفا، وإلاّ لكاناللازم أن يكشف عن طرفي الاحتمال ـ أي الوجود والعدم ـ فمع الاحتماللايكون البعث الواقعي محرّكا وباعثا، وبدون الباعثيّة لايمكن أن يكون
(صفحه 17)
منجّزا، ومع عدم التنجّز لا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفته، ولا فرق فيهذا بين كون المكلّف قادرا على الفحص وعدمه.
ويرد عليه: أوّلاً: النقض بما إذا قامت الحجّة المعتبرة من قبل المولى علىثبوت التكليف وفرض عدم إفادتها الظنّ، بل كان التكليف مع قيام الأمارةأيضا مشكوكا أو مظنون الخلاف، فإنّه يجري فيه هذا الإشكال، ومقتضاهحينئذ عدم ثبوت العقاب على مخالفته على تقدير ثبوته في الواقع، مع أنهواضح البطلان، وإلاّ يلزم لغويّة اعتبار الأمارة، كما هو واضح. مضافا أنّه ليلتزم به المستشكل أيضا.
وثانياً: الحلّ بأنّه لانسلّم أن تكون المنجزيّة متفرّعة على الباعثيّة؛ لأنّالمنجّزيّة الراجعة إلى صحّة عقوبة المولى على المخالفة والعصيان حكم عقلي،وقد عرفت أنّ العقل يحكم بعدم المعذّريّة، وبصحّة العقوبة لو بيّن المولىالتكليف بنحو المتعارف، بحيث كان العبد متمكّنا من الاطّلاع عليه بالمراجعةإلى مظانّ ثبوته ولم يراجع، فخالف اعتمادا على البراءة كما عرفت في مثالالمكتوب الواصل من المولى إلى العبد، ويحتمل اشتماله على بعض التكاليف،والظاهر أنّ هذا من الوضوح بمكان، فلا مجال لهذا الإشكال.
ثمّ إنّه قد يقرّر وجوب الفحص بوجه آخر، ومحصّله: أنّ ارتكاب التحريمقبل الفحص ومراجعة مظانّ ثبوته ظلم للمولى، والظلم قبيح محرّم خصوصظلم المولى، فلو اقتحم في المشتبه قبل الفحص يستحقّ العقوبة لأجل ظلمالمولى، كما أنّه في موارد التجرّي يستحقّ العقوبة عليه وإن كان لايستحقّالعقوبة على مخالفة الواقع في المقامين.
ويرد عليه: أنّ تحقّق عنوان الظلم في المقام ليس إلاّ من جهة احتمال حصولالمخالفة بالاقتحام في المشتبه؛ ضرورة أنّه مع العلم بعدم وجود التكليف في
(صفحه18)
البين لايكون مجرّد ترك الفحص من مصاديق ذلك العنوان، فترك الفحصوارتكاب محتمل التحريم إنّما يكون ظلما لأجل احتمال تحقّق المخالفة التي هيقبيحة موجبة لاستحقاق العقوبة.
وحينئذ نقول: بعد جريان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ولو قبل تركالفحص ـ كما هو المفروض ـ لايبقى مجال لاحتمال تحقّق المخالفة القبيحة أصلاً،ومع انتفاء هذا الاحتمال يخرج المقام عن تحت عنوان ظلم المولى، كما هوالواضح.
ومن هنا يظهر الفرق بين المقام وبين مسألة التجرّي، فإنّ الموضوع للحكمبالقبح والحرمة هناك على تقدير ثبوته هو نفس عنوان التجرّي، الراجع إلىالطغيان على المولى والخروج عن رسم العبوديّة، وهذا لايتوقّف تحقّقه علىثبوت التكليف، بل يصدق على كلا التقديرين، بخلاف المقام، فإنّ تحقّق عنوانالظلم يتوقّف على عدم حكم العقل بقبح العقاب ولو قبل الفحص، والمفروضحكمه بذلك مطلقا، فتأمّل.
هذا، وقد يقرّر حكم العقل بوجوب الفحص بوجه ثالث، وهو: أنّ كلّ منالتفت إلى المبدء والشريعة يعلم إجمالاً بثبوت أحكام فيها، ومقتضى العلمالإجمالي هو الفحص عن تلك الأحكام.
ولا يخفى ضعف هذا الوجه؛ لأنّ الكلام إنّما هو في شرائط جريان أصلالبراءة بعد كون المورد المفروض مجرى لها، وقد عرفت أنّ مجراها هو الشكّفي أصل التكليف وعدم العلم به، لا إجمالاً ولا تفصيلاً. فلو فرض ثبوت العلمالإجمالي فإنّه يخرج المورد عن مجراها، فلا يبقى مجال للتمسّك بالعلم الإجماليلاعتبار وجوب الفحص في جريانها، كما لا يخفى، ولكن حيث إنّه وقع موردللنقض والإبرام بين الأعلام فلا مانع من التعرّض لحاله بما يسعه المقام،
(صفحه 19)
فنقول:
قد نوقش في الاستدلال بالعلم الإجمالي لوجوب الفحص، تارة بأنّه أخصّمن المدّعى؛ لأنّ المدّعى هو وجوب الفحص والاستعلام في كلّ مسألة تعمّ بهالبلوى، وكل مورد يرجع إلى البراءة، وهذا الاستدلال إنّما يوجب الفحصقبل استعلام جملة من الأحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيه؛لانحلال العلم الإجمالي بذلك، لا زائدا من هذا المقدار.
واُخرى بأنّه أعمّ من المدّعى؛ لأنّ المدّعى هو الفحص عن الأحكام فيخصوص ما بأيدينا من الكتب، والمعلوم بالإجمال معنى أعمّ من ذلك؛ لأنّمتعلّق العلم هي الأحكام الثابتة في الشريعة واقعا، لا خصوص ما بأيدينا،والفحص فيما بأيدينا من الكتب لايرفع أثر العلم الإجمالي، بل العلم باق علىحاله، ولو بعد الفحص التامّ عمّا بأيدينا.
هذا، وأجاب المحقّق النائيني رحمهالله عن المناقشة الاُولى بأنّ استعلام مقدار منالأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها لايوجب انحلال العلم الإجمالي؛لأنّ متعلّق العلم تارة يتردّد من أوّل الأمر بين الأقل والأكثر، كما لو علم بأنّفي هذا القطيع من الغنم موطوء، وتردّد بين كونه عشرة أو عشرين، واُخرى:يكون المتعلّق عنوانا ليس بنفسه مردّدا بين الأقلّ والأكثر من أوّل الأمر، بلالمعلوم بالإجمال هو العنوان بماله في الواقع من الأفراد، كما لو علم بموطوئيّةالبيض من هذا القطيع، وتردّدت البيض بين كونها عشرا أو عشرين، ففيالأوّل ينحلّ العلم الإجمالي، وفي الثاني لاينحلّ، بل لابدّ من الفحص التامّ عنكلّ ما يحتمل انطباق العنوان المعلوم بالإجمال عليه؛ لأنّ العلم الإجمالييوجب تنجيز متعلّقه بما له من العنوان.
ففي المثال: العلم الإجمالي تعلّق بعنوان البيض بما له من الأفراد في الواقع،
(صفحه20)
فكلّ ما كان من أفراد البيض واقعا قد تنجّز التكليف به، ولازم ذلك هوالاجتناب عن كلّ ما يحتمل كونه من أفراد البيض، والمقام من هذا القبيل؛ لأنّالمعلوم بالإجمال في المقام هي الأحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب، فقدتنجّزت بسبب هذا العلم الإجمالي جميع الأحكام المثبتة في الكتب، ولازم ذلكهو الفحص التامّ عن جميع الكتب التي بأيدينا، ولا ينحلّ العلم الإجماليباستعلام جملة من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها.
ألاترى أنّه ليس للمكلّف الأخذ بالأقلّ لو علم باشتغال ذمّته لزيد بما فيالطومار، وتردّد ما في الطومار بين الأقلّ والأكثر، بل لابدّ له من الفحص التامّفي جميع صفحات الطومار، كما عليه بناء العرف والعقلاء، وما نحن فيه يكونبعينه من هذا القبيل.
وعن المناقشة الثانية بأنّه وإن علم إجمالاً بوجود أحكام في الشريعة أعمّممّا بأيدينا من الكتب، إلاّ أنّه يعلم إجمالاً أيضا بأنّ فيما بأيدينا من الكتب أدلّةمثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها،فينحلّ العلم الإجمالي العامّ بالعلم الإجمالي الخاصّ، ويرتفع الإشكال بحذافيرهويتمّ الاستدلال لوجوب الفحص، فتدبّر جيّدا(1). إنتهى.
وأورد اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله عليه: ـ أوّلاً: أنّ ما ذكره من الفرق فيالانحلال وعدمه بين ما لو كان متعلّق العلم الإجمالي بنفسه مردّدا بين الأقلّوالأكثر، وبين ما كان عنوانا ليس مرددا بينهما من أوّل الأمر، إنّما يتمّ لو كانمتعلّق العلم الإجمالي في القسم الثاني نسبته إلى المعنون كنسبة المحصِّل إلىالمحصَّل، وأمّا لو لم يكن من هذا القبيل كما في المثال الذي ذكره فلا وجه لعدمالانحلال؛ لانحلال التكليف إلى التكاليف المتعدّدة المستقلّة حسب تعدّد
- (1) فوائد الاُصول 4: 279 ـ 280.