(صفحه 161)
تنبيهات الاستصحاب
التنبيه الأوّل
في اعتبار فعليّة اليقين والشكّ في الاستصحاب
وأخذهما في موضوعه على نعت الموضوعيّة
يعتبر في الاستصحاب فعليّة الشكّ واليقين بناءً على أخذهما موضوعوركنا فيه، وليس المراد من فعليّتهما تحقّقهما في خزانة النفس ولو كان الإنسانغافلاً عنهما، بل بمعنى الالتفات إلى يقينه السابق وشكّه اللاحق، فلا يجريالاستصحاب مع الغفلة؛ لعدم الشكّ فعلاً ولو فرض أنّه يشكّ لو التفت؛ضرورة أنّ الاستصحاب وظيفة الشاكّ، ولا شكّ مع الغفلة أصلاً.
ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدسسره رتّب على هذا المعنى حكم الفرعين، وقال:«فيحكم بصحّة صلاة من أحدث ثمّ غفل وصلّى، ثمّ شكّ في أنّه تطهّر قبلالصلاة؛ لقاعدة الفراغ، بخلاف من التفت قبلها وشكّ ثمّ غفل وصلّى، فيحكمبفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشكّ؛ لكونه محدثا قبلها بحكمالاستصحاب، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.
لايقال: نعم، ولكنّ استصحاب الحدث في حال الصلاة بعد ما التفت بعدهيقتضي أيضا فسادها، فإنّه يقال: نعم لو لا قاعدة الفراغ المقتضية لصحّتهالمتقدّمة على أصالة فسادها»(1).
(صفحه162)
والتحقيق: أنّ جريان قاعدة الفراغ هنا لايخلو عن إشكال؛ لاختصاصظهور أخبارها في حدوث الشكّ بعد العمل، وهذا الشكّ ليس حادثا بل كانباقيا في خزانة النفس، ويكون من قبيل إعادة ما سبق، أو الالتفات إلى مكان موجودا، فالصلاة في الفرع الأوّل باطلة؛ إمّا لأجل استصحاب الحدثقبل الصلاة على القول بعدم اعتبار فعليّة الشكّ واليقين، وإمّا لأجلاستصحاب الحدث بعد الصلاة على القول باعتبار فعليّتهما وعدم جريانقاعدة الفراغ.
وأمّا الفرع الثاني فيرد عليه: أنّه لايمكن استناد بطلان الصلاة فيه إلىاستصحاب الحدث قبل الصلاة، فإنّ الاستصحاب لايتحقّق في حال الصلاة؛إذ المفروض أنّه حال الغفلة والذهول، والمعتبر فيه فعليّة اليقين والشكّ،واستصحاب الحدث قبل حال الغفلة لايفيد بالمقام، ولا يمكن الالتزام بصحّةالصلاة في هذا الفرع مستندا إلى قاعدة الفراغ؛ لاختصاصها في مورد حدوثالشكّ بعد الفراغ عن الصلاة وكان الإنسان بعد الفراغ عنها غافلاً عنخصوصيّاتها وكيفيّة إتيانها، والمفروض هنا تحقّق الشكّ قبل الصلاة وكونالمصلّي عالما بجزئيّات صلاته وخصوصيّاتها.
وبعد عدم جريان الاستصحاب وقاعدة الفراغ فلابدّ من إعادة الصلاةمستندا إلى قاعدة الاشتغال، فما ذكره صاحب الكفاية قدسسره بعنوان الثمرة لفعليّةاليقين والشكّ ليس بتامّ.
- (1) كفاية الاُصول 2: 308.
(صفحه 163)
التنبيه الثاني
في البحث عن جريان الاستصحاب
في مؤدّيات الأمارات والطرق الشرعيّة وعدمه
ربّما يقال: بعدم جريانه فيها؛ إذ لابدّ في الاستصحاب من تحقّق اليقينبالحدوث والشكّ في البقاء، والأمارات مطلقا لاتفيد اليقين، بعد ما ذكرنا أنّحجّيّة الأمارات بنحو الطريقيّة والكاشفيّة، بمعنى المنجّزيّة عند موافقة الواقعوالمعذّريّة عند مخالفة الواقع، وقيام الطرق والأمارات لايوجب جعل الحكمالظاهري على طبق مؤدّياتها، كما أنّ حجّيّة القطع أيضا تكون كذلك، ولازمعدم جريانه فيها انسداد باب الاستصحاب إلاّ في بعض الموارد، وهذالإشكال مهمّ وتترتّب عليه ثمرة فقهيّة مهمّة.
قال صاحب الكفاية قدسسره : «يمكن أن يذبّ عمّا في استصحاب الأحكام التيقامت الأمارات المعتبرة على مجرّد ثبوتها، وقد شكّ في بقائها على تقديرثبوتها، من الإشكال: بأنّه لايقين بالحكم الواقعي، ولا يكون هناك حكم آخرفعلي بناء على ما هو التحقيق، من أنّ قضيّة حجّيّة الأمارة ليست إلاّ تنجّزالتكاليف مع الإصابة والعذر مع المخالفة، كما هو قضيّة الحجّة المعتبرة عقلاً،كالقطع والظنّ في حال الانسداد وعلى الحكومة، لا إنشاء أحكام فعليّة
(صفحه164)
شرعيّة ظاهريّة، كما هو ظاهر الأصحاب، ووجه الذبّ بذلك: أنّ الحكمالواقعي الذي هو مؤدّى الطريق حين الشكّ محكوم بالبقاء، فتكون الحجّة علىثبوته حجّة على بقائه تعبّدا؛ للملازمة بين بقائه وثبوته واقعا.
إن قلت: كيف وقد اُخذ اليقين بالشيء في التعبّد ببقائه في الأخبار ولا يقينفي فرض تقدير الثبوت؟
قلت: نعم، ولكنّ الظاهر أنّه اُخذ كشفا عن الحكم الواقعي ومرآتا لثبوتهليكون التّعبّد في بقائه، والتعبّد مع فرض ثبوته إنّما يكون في بقائه، فافهم»(1).
ويرد عليه: أوّلاً: لزوم التهافت بين ما اختاره في التنبيه الأوّل من اعتبارفعليّة الشكّ واليقين في الاستصحاب، وبين ما اختاره في التنبيه الثاني منالاكتفاء في صحّة الاستصحاب بالشكّ في بقاء شيء على تقدير ثبوتهوإنلميحرز ثبوته، كما ذكره اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (2).
وثانياً: أنّ اليقين في قوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ» طريقيّ بلحاظ المتعلّقوالمتيقّن، وموضوعيّ بلحاظ حكم «لاتنقض» كموضوعيّته في قولنا: «اليقينحجّة عقلاً»، فلا ينافي مرآتيّة اليقين وكاشفيّته مع موضوعيّته بلحاظ حكمعدم النقض، والمفروض قوام الاستصحاب باليقين والشكّ واعتبار فعليّتهما،فلابدّ من طريق آخر لحلّ الإشكال.
وقال المحقّق النائيني رحمهالله وبعض تلامذته في مقام الجواب عن الإشكال: إنّمعنى جعل حجّيّة الأمارات هو جعل الأمارات من أفراد العلم في عالمالاعتبار، فيكون اليقين حينئذٍ فردان: اليقين الوجداني، واليقين الجعليالاعتباري، فكما لو علمنا بحكم من الأحكام، ثمّ شككنا في بقائه نرجع إلى
- (1) كفاية الاُصول 2: 309 ـ 310.
(صفحه 165)
الاستصحاب، كذلك إذا قامت الأمارة أو الطريق على ثبوت حكم أوموضوع ذي حكم ثمّ شكّ في بقائهما لا مانع من استصحاب بقاء مؤدّىالطريق والأمارة(1).
وفيه: أنّ اعتبار الطرق والأمارات عند الشارع كثيرا مّا يكون من بابالتصويب وإمضاء ما هو معتبر عند العقلاء، وذكرنا في باب حجّيّة خبرالواحد أنّ أدلّ دليل على حجّيتّه هو عدم ردع الشارع بناء العقلاء في العملبخبر الثقة، وبعد الرجوع إلى العقلاء نستكشف أنّ خبر الثقة طريق غير علميّجعل حجّة على الواقع، بمعنى المنجّزيّة على تقدير الإصابة والمعذّريّة علىتقدير المخالفة للواقع، كما أنّ القطع طريق إلى الواقع بل على رأس الطرقوحجّة عقلاً، كذلك خبر الثقة طريق إليه وحجّة شرعا وعقلاءً في مورد فقدالقطع واليقين، فإنّ انحصار الطريق باليقين يوجب المعضلات والمشكلات فيمسائل الفرد والمجتمع ولا يكون عندهم مودّى الطرق والأمارات المتيقّنالتعبّدي في مقابل المتيقّن الوجداني، ولا يكون مفاد خبر الثقة بنجاسة الثوبـ مثلاً ـ هو القول بـ : أنّي أراك متيقّنا بالنجاسة وأنت عالمٌ في عالم الاعتبار»،وهكذا في سائر الأمارات والطرق.
والتحقيق في الجواب: أنّ إضافة النقض إلى اليقين في قوله: «لاتنقض اليقينبالشكّ» تكون بلحاظ الإبرام والاستحكام المتحقّق فيه، وهذا الاستحكاملايرتبط به بما أنّه صفة قائمة بالنفس، فإنّه ربّما يزول عن النفس سريعا بخلافالشكّ، بل يرتبط بالمتيقّن والكشف عنه كأنّه يراه بالعيان، وملاك الاستحكامعبارة عن حجّيّة القطع، فهو بلحاظ حجّيّته واجد للاستحكام والإبرام،لا بلحاظ كشفه عن الواقع بدون التخلّف، كأنّه يقول: «لاتنقض اليقين الذي
- (1) فوائد الاُصول 4: 404، مصباح الاُصول 3: 99.