(صفحه166)
هو حجّة بالشكّ، الذي ليس بحجّة»، وهذا الملاك يتحقّق في سائر الأماراتوالطرق المعتبرة أيضا، فالشكّ باعتبار عدم حجّيّته وعدم إحرازه للواقعلاينقض اليقين الذي هو حجّة ومحرز له؛ فإنّه لاينبغي أن ترفع اليد عن الحجّةبغير الحجّة، فيلحق الظنّ المعتبر باليقين، والظنّ الغير المعتبر بالشكّ.
هذا توضيح ما ذكره اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره في المقام، ثمّ ذكر مؤيّدات لهوقال: «ويؤيّد ذلك ـ بل يدلّ عليه ـ قوله في صحيحة زرارة الثانية: «لأنّككنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقينبالشكّ أبدا»(1) الظاهر منه إجراء استصحاب طهارة اللباس، ولا بدّ أن تحملالطهارة على الواقعيّة منها؛ لعدم جريان الاستصحاب في الطهارة الظاهريّة لمذكرنا سابقا. ومعلوم أنّ العلم الوجداني بالطهارة الواقعيّة ممّا لايمكن عادة، بلالعلم إنّما يحصل بالأمارات كأصالة الصحّة، وإخبار ذي اليد، وأمثالهما، فيرجعمفاده إلى أنّه لاترفع اليد عن الحجّة القائمة بالطهارة بالشكّ.
بل يمكن أن يؤيّد بصحيحته الاُولى أيضا؛ فإنّ اليقين الوجداني بالوضوءالصحيح أيضا ممّا لايمكن عادة، بل الغالب وقوع الشكّ في الصحة بعده،ويحكم بصحّته بقاعدة الفراغ، بل الشكّ في طهارة ماء الوضوء يوجب الشكّفيه، فاليقين بالوضوء أيضا لايكون يقينا وجدانيّا غالبا، تأمّل»(2).
فلا يكون اليقين فيهما في مقابل الأمارات المعتبرة فيستفاد منهما صحّةجريان الاستصحاب في موارد الطرق والأمارات المعتبرة.
- (1) الوسائل 3: 466، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 1.
(صفحه 167)
التنبيه الثالث
في تردّد المستصحب
وأنّه قد يكون فردا معيّنا، كما إذا شككنا في بقاء زيد في الدار بعد العلمبدخوله فيها لترتّب أثر شرعي، وقد يكون فردا مردّدا، كما إذا علمنا بتحقّقفرد في الدار ولكنّه مردّد بين زيد وعمرو، وشككنا بعد ساعة في بقائه فيها،فلا إشكال في جريان الاستصحاب في هذين الموردين، إلاّ أن جريانه فيمورد الثاني يكون لترتّب الآثار المشتركة على بقاء الفردين لا الآثار المختصّةعلى بقاء أحد الفردين.
ربّما يقال: يتصوّر هنا قسم ثالث للفرد ويعبّر عنه بالفرد المنتشر، ولكنّهليس بصحيح؛ إذ الفرديّة مساوقة للتشخّص والتعيّن، ولا يمكن الجمع بينالتعيّن والتشخّص الفردي والانتشار والسعة، وهو في الحقيقة كلّي معيّن فيالخارج، ومثاله: قول البائع للمشتري: «بعتك صاعا من هذه الصبرة»، وإنكان المستصحب من هذا القبيل فهو استصحاب الكلّي، لا استصحاب الفرد.
وقد يكون المستصحب كلّيّا واستصحاب الكلّي على أقسام
القسم الأوّل: ما إذا علمنا بتحقّق الكلّي في ضمن فرد معيّن، ثمّ شككنا فيبقاء هذا الفرد وارتفاعه، فلا محالة نشكّ في بقاء الكلّي وارتفاعه أيضا، فإذ
(صفحه168)
كان الأثر للكلّى فيجري الاستصحاب فيه، مثاله المعروف: ما إذا علمنبوجود زيد في الدار، فنعلم بوجود الإنسان فيها، ثمّ شككنا في خروج زيدعنها، فنشكّ في بقاء الإنسان فيها، فلا إشكال في جريان الاستصحاب ببقائهإذا كان له أثر، وجريان الاستصحاب في الفرد والكلّي تابع للأثر، إذا كان الأثرللفرد يجرى الاستصحاب فيه، وإذا كان الأثر للكلّي يجري الاستصحاب فيه،ومايستفاد من عبارة الكفاية(1) من التخيير في إجراء الاستصحاب في الكلّيوالفرد ليس بصحيح إلاّ في الآثار المشتركة؛ لمغايرتهما عند العرف وإن كانوجود الكلّي عين وجود أفراده عند أهل المنطق والفلسفة.
القسم الثاني: ما إذا علمنا بوجود الكلّي في ضمن فرد مردّد بين متيقّنالارتفاع ومتيقّن البقاء، كما إذا علمنا بوجود إنسان في الدار مع الشكّ في كونهزيدا أو عمروا، مع العلم بأنّه لو كان زيدا فهو خارج يقينا، ولو كان عمروفهو باقٍ يقينا، ومثاله في الحكم الشرعي: ما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين البولوالمني، فتوضّأنا، فنعلم أنّه لو كان الحدث الموجود هو الأصغر فقد ارتفع، ولوكان هو الأكبر فقد بقي، وكذا لو اغتسلنا في المثال فنعلم أنّه لو كان الحدث هوالأكبر فقد ارتفع، وإن كان هو الأصغر فقد بقي؛ لعدم ارتفاعه بالغسل، فنجريالاستصحاب في الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر ـ أي الكلّي ـ ونحكمبترتّب أثره، كحرمة مس كتابة القرآن وعدم جواز الدخول في الصلاة، وليجري استصحاب الفرد، فإنّ أحد الفردين متيقّن الارتفاع والآخر متيقّنالبقاء.
واستشكل صاحب الكفاية رحمهالله بعنوان التّوهّم في جريان الاستصحاب فيهذا القسم: بأنّ الاستصحاب فيه وإن كان جاريا في نفسه لتماميّة موضوعه
(صفحه 169)
من اليقين والشكّ، إلاّ أنّه محكوم بأصل سببيّ، فإنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّبعن الشكّ في حدوث الفرد الطويل، والأصل عدمه، ففي المثال يكون الشكّ فيبقاء الحدث مسبّبا عن الشكّ في حدوث الجناية، فتجري أصالة عدم حدوثالجناية، وبإنضام هذا الأصل إلى الوجدان يحكم بارتفاع الحدث، فإنّ الحدثالأصغر مرتفع بالوجدان، والحدث الأكبر منفيّ بالأصل.
ثمّ أجاب عنه بجوابين: الأوّل: بأنّ الشكّ في بقاء الكلّي ليس مسبّبا عنالشكّ في حدوث الفرد الطويل، بل مسبّب عن الشكّ في كون الحادث طويلأو قصيرا، وبعبارة اُخرى: الشكّ في بقاء الكلّي مسبب عن الشكّ فيخصوصيّة الفرد الحادث، وليس له حالة سابقة حتّى يكون مورداً للأصل،فتجري فيه أصالة عدم كونه طويلاً، فما هو مسبوق بالعدم ـ وهو حدوثالفرد الطويل ـ ليس الشكّ في بقاء الكلّي مسببا عنه، وما يكون الشكّ فيهمسببا عنه ـ وهو كون الحادث طويلاً ـ ليس مسبوقا بالعدم حتّى يكونموردا للأصل.
الثاني: أنّ بقاء الكلّي عين بقاء الفرد الطويل، فإنّ الكلّي عين الفرد، لا أنّهمن لوازمه، فلا تكون هناك سببيّة ومسبّبيّة(1).
وكان لاُستاذنا السيّد الإمام قدسسره هنا إشكال مهمّ من حيث العلم لا العمل،وهو قوله: «لكنّ الإنصاف أنّه لو اُغمض النظر عن وحدتهما عرفا، فلا يمكنالتخلّص من الإشكال، سواء اُريد إجراء استصحاب الكلّي المعرّى واقعا عنالخصوصيّة أو استصحاب الكلّي المتشخصّ بإحدى الخصوصيّتين ـ أيخصوصيّة زيديّة أو خصوصيّة عمرويّة ـ أو الكلّي الخارجي مع قطع النظرعن الخصوصيّة، بدعوى أنّ الموجود الخارجي له جهتان: جهة مشتركة بينه
- (1) الكفاية 2: 311 ـ 312.
(صفحه170)
وبين غيره من نوعه أو جنسه في الخارج، وجهة مميّزة والعلم بوجود أحدالفردين موجب لعلم تفصيلي بجهة مشتركة خارجيّة بينهما، وذلك لاختلالركني الاستصحاب أو أحدهما على جميع التقادير.
أمّا على التقدير الأوّل فللعلم بعدم الوجود الكلّي المعرّى واقعا عنالخصوصيّة؛ لامتناع وجوده كذلك، فيختلّ ركناه.
وأمّا على الثاني فلأن ذلك عين العلم الإجمالي بوجود أحدهما؛ لأنّ الكلّيالمتشخّص بكلّ خصوصيّة يغاير المتشخّص بالخصوصيّة الاُخرى، فتكونالقضيّة المتيقّنة العلم الإجمالي بوجود أحدهما، وقضية اعتبار وحدتها معالمشكوك فيها أن يشكّ في بقاء المعلوم بالإجمال، وفي المقام لايكون الشكّ فيبقاء المعلوم بالإجمال بل يعلم في الزمان الثاني إجمالاً، إمّا ببقاء الطويل، أوارتفاع القصير، وإنّما يكون الشكّ في البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم،طويل العمر كان أو قصيره، فاختلّ الركن الثاني منه.
وأمّا على التقدير الثالث فلأنّ الجهة المشتركة بما هي مشتركة غيرموجودةفي الخارج، إلاّ على رأي الرجل الهمداني الذي يلزم منه مفاسد، كما حقّق فيمحلّه.
وعلى المسلك المنصور تكون الطبيعة في الخارج طبيعتين، فكما لا علمتفصيلي بإحدى الخصوصيّتين لا علم تفصيلي بإحدى الطبيعتين؛ لامتناعحصول العلم التفصيلي إلاّ مع وحدة الطبيعة المعلومة، فحينئذٍ يأتي فيهالإشكال المتقدّم. فالتخلّص عن الإشكال هو ما أشرنا إليه من وحدةالقضيّتين عرفا، وهي المعتبرة في الاستصحاب»(1).
فيجري الاستصحاب إن لاحظنا وحدة القضيّتين بنظر العرف كما هو الحقّ،