(صفحه 171)
بخلاف ما إذا لا حنظناها بالدقّة العقليّة.
بقي هنا إشكال آخر على استصحاب الكلّي، وهو منسوب إلى سيّدإسماعيل الصدر قدسسره ، وهذا الإشكال معروف بالشبهة العبائيّة.
توضيح ذلك: أنّه من المعلوم عدم جريان الاستصحاب في الشبهةالمفهوميّة، كما إذا شككنا بعد استتار القرص وقبل زوال الحمرة المشرقيّة فيانتهاء النهار وأنّه ينتهي بأيّهما، ولا يجري استصحاب بقاء النهار؛ إذ الشكّ فيمعنى النهار ومفهومه من حيث العرف واللغة وأنّ اختتامه لغة وعرفا باستتارالقرص أو بزوال الحمرة المشرقية، لا في الواقعة الخارجيّة بعد العلم باستتارالقرص وعدم زوال الحمرة.
ويمكن أن يتوهّم أنّ ما نحن فيه أيضا من هذا القبيل، فإنّا نعلم بارتفاعالكلّي إن تحقّق في ضمن الفرد القصير، وبقائه إن تحقّق في ضمن الفرد الطويل.
وجوابه: أنّ الشكّ هنا في الواقعة وأنّ الكلّي تحقّق في ضمن أيّ الفردين، لفي المفهوم اللغوي والعرفي، فلا مانع من جريان استصحاب الكلّي.
وأمّا ما ذكره السيّد الصدر قدسسره فهو أنّه: لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد طرفيالعباءة ثمّ غسلنا أحد الطرفين، فلا إشكال في أنّه لايحكم بنجاسة الملاقي لهذالطرف المغسول؛ للعلم بطهارته بعد الغسل، إمّا بالطهارة السابقة أو بالطهارةالحاصلة بالغسل، وكذا لايحكم بنجاسة الملاقي للطرف الآخر؛ لأنّ المفروضعدم نجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، ثمّ لو لاقى شيء مع الطرفينفلابدّ من الحكم بعدم نجاسته أيضا؛ لأنّه لاقى طاهرا يقينا وأحد طرفيالشبهة، والمفروض أنّ ملاقاة شيء منهما لاتوجب النجاسة مع أنّ مقتضىاستصحاب الكلّي هو الحكم بنجاسة الملاقي للطرفين، فلابدّ من رفع اليد عنجريان الاستصحاب في الكلّي أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة
(صفحه172)
المحصورة؛ لعدم إمكان الجمع بينهما في المقام(1).
وجوابه: أوّلاً: ما يستفاد من كلام سيّدنا الإمام قدسسره والمحقّق النائيني رحمهالله وهو:أنّ جريان استصحاب النجاسة وإن كان ممّا لا مانع منه؛ لأنّ وجود النجاسةفي الثوب كان متيقّنا، ومع تطهير أحد طرفيه يشكّ في بقائه فيه، إلاّ أنّهلايترتّب على ملاقاة الثوب أثر ملاقاة النجس، فإنّ استصحاب بقاء الكلّي أوالشخص الواقعي لايثبت كون ملاقاة الأطراف ملاقاة النجس إلاّ بالأصلالمثبت؛ لأنّ ملاقاة الأطراف ملاقاة للنجس عقلاً.
وليس لأحد أن يقول: إنّه بعد استصحاب نجاسة الثوب تكون الملاقاة معهوجدانيّة؛ لأنّ ما هو وجداني هو الملاقاة مع الثوب لا مع النجس،واستصحاب بقاء النجاسة بالنحو الكلّي، وكذا استصحاب النجس الذي كانفي الثوب، ـ أي الشخص الواقعي ـ لا يثبت أنّ الملاقاة مع الثوب بجميعأطرافه ملاقاة للنجاسة إلاّ بالاستلزام العقلي، وفرق واضح بين استصحابنجاسة طرف معيّن من الثوب، وبين استصحاب نجاسة فيه بنحو غيرمعيّن؛فإنّ ملاقاة الطرف المعيّن المستصحب النجاسة ملاقاة للنجس المستصحبوجدانا، فإذا حكم الشارع بأنّ هذا المعيّن نجس ينسلك في كبرى شرعيّةهي: «أنّ ملاقي النجس نجس»، وأمّا كون ملاقاة جميع الأطراف ملاقاةللنجس الكلّي أو الواقعي، فيكون بالاستلزام العقلي(2).
وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله كما نقله صاحب المصباح فهو: أنّالاستصحاب المدّعى في المقام لايمكن جريانه في مفاد كان الناقصة، بأن يشارإلى طرف معيّن من العباءة ويقال: إنّ هذا الطرف كان نجسا وشكّ في بقائها،
- (1) نهاية الافكار 4: 130.
- (2) الاستصحاب: 88 ، ومصباح الاُصول 3: 111.
(صفحه 173)
فالاستصحاب يقتضي نجاسته. وذلك لأنّ أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة،والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر، وليس لنا يقين بنجاسةطرف معيّن يشكّ في بقائها ليجري الاستصحاب فيها.
نعم، يمكن إجراؤه في مفاد كان التامّة، بأن يقال: إنّ النجاسة في العباءةكانت موجودة وشكّ في ارتفاعها، فالآن كما كانت؛ لأنّ الحكم بنجاسة الملاقييتوقّف على نجاسة ما لاقاه وتحقّق الملاقاة خارجا، ومن الظاهر أنّاستصحاب وجود النجاسة في العباءة لايثبت ملاقاة النجس إلاّ على القولبالأصل المثبت؛ ضرورة أنّ الملاقاة ليست من الآثار الشرعيّة لبقاء النجاسة،بل من الآثار العقليّة، وعليه فلا تثبت نجاسة الملاقي للعباءة.
وأجاب عنه بعض الأعلام قدسسره وقال: وفي هذا الجواب أيضا مناقشةظاهرة؛ إذ يمكن جريان الاستصحاب في مفاد كان الناقصة مع عدم تعيينموضع النجاسة بأن نشير إلى الموضع الواقعي ونقول: خيط من هذا العباءةكان نجسا والآن كما كان، أو نقول: طرف من هذا العباءة كان نجسا والآن كمكان، فهذا الخيط أو الطرف محكوم بالنجاسة للاستصحاب، والملاقاة ثابتةبالوجدان؛ إذ المفروض تحقّق الملاقاة مع طرفي العباءة، فيحكم بنجاسة الملاقيلا محالة(1).
وجوابه: أنّ الحكم بنجاسة الملاقي في جزء غير معيّن يرتبط بالعقل، بللاطريق له غير العقل، بخلاف الجزء المعيّن، فإنّ نجاسته ثابتة بالاستصحابوملاقاة اليد مع الرطوبة بالوجدان، فلا نحتاج إلى حكم العقل، وأمّا في الجزءالمردّد فنقول بعد الملاقاة مع جميع أجزاء العباءة، فلا محالة لاقى الجزء غيرالمعيّن المحكوم بالنجاسة، وهذا حكم العقل.
- (1) مصباح الاُصول 3: 112.
(صفحه174)
والحاصل: أنّه إذا علمنا إجمالاً بنجاسة الجزء الأعلى أو الأسفل منالعباءة، وبعد تطهير الجزء الأسفل منه والشكّ في بقاء النجاسة فيه،فنستصحب كلّي النجاسة فيه، ولكن ملاقاة اليد مع الرطوبة في كلا الطرفينـ الأعلى والأسفل ـ لايوجب نجاسته، فإنّ المحرز بالاستصحاب هي النجاسةالمتحقّقة في العباءة بوصف الكلّي فقط، ولا دليل لنجاسة اليد، ولا يشمله:«ملاقي النجس نجسٌ»؛ إذ لميحرز أنّه لاقي النجس، وكون ملاقاة العباءة ملاقاةًللنجس لازم عقلي لايترتّب على الاستصحاب.
وثانياً: أيضا مايستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمهالله كما ذكره صاحبالمصباح قدسسره وهو: أنّ الاستصحاب الجاري في مثل العباءة ليس من استصحابالكلّي في شيء؛ لأنّ استصحاب الكلّي إنّما هو فيما إذا كان الكلّي المتيقّن مردّدبين فرد من الصنف الطويل وفرد من الصنف القصير، كالحيوان المردّد بين البقوالفيل على ما هو المعروف، بخلاف المقام، فإنّ التردّد فيه في خصوصيّة محلّالنجس مع العلم بخصوصيّة الفرد، والتردّد في خصوصيّة المكان أو الزمانلايوجب كلّيّة المتيقّن، فليس الشكّ حينئذٍ في بقاء الكلّي وارتفاعه حتّى يجريالاستصحاب فيه، بل الشكّ في بقاء الفرد الحادث المردد من حيث المكان.وذكر لتوضيح مراده مثالين:
الأوّل: ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار، فانهدم الطرف الشرقي منها، فلوكان زيد فيه فقد مات بانهدامه، ولو كان في الطرف الغربي فهو حيّ، فحياةزيد وإن كانت مشكوكا فيها إلاّ أنّه لا مجال معه لاستصحاب الكلّي، والمقاممن هذا القبيل بعينه.
الثاني: ما إذا كان لزيد درهم واشتبه بين ثلاثة دراهم مثلاً، ثمّ تلف أحدالدراهم، فلا معنى لاستصحاب الكلّي بالنسبة إلى درهم زيد، فإنّه جزئيّ(1).
(صفحه 175)
وأجاب عنه تلميذ بعض الأعلام قدسسره : بأنّ هذا الجواب غيرتامّ، فإنّالإشكال ليس في تسمية الاستصحاب الجاري في مسألة العباءة باستصحابالكلّي، بل الإشكال إنّما هو في أنّ جريان استصحاب النجاسة لايجتمع معالقول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة، سواء كان الاستصحاب من قبيلاستصحاب الكلّي أو الجزئيّ، فكما أنّه لا مانع من استصحاب حياة زيد فيالمثال الأوّل كذلك لا مانع من جريان الاستصحاب في مسألة العباءة.
وأمّا المثال الثاني فالاستصحاب فيه معارض بمثله، فإنّ أصالة عدم تلفدرهم زيد معارض بأصالة عدم تلف درهم غيره، ولو فرض عدم الابتلاءبالمعارض لا مانع من جريان الاستصحاب فيه، كما إذا اشتبهت خشبة زيدـ مثلاً ـ بين أخشاب لا مالك لها لكونها من المباحات الأصليّة، فتلف أحدها،فتجري أصالة عدم تلف خشبة زيد بلا معارض(1).
والإنصاف أنّ هذا الجواب عجيب منه؛ إذ الغرض من الشبهة العبائيّة هوجريان استصحاب الكلّي فيها حتّى يكون مانعا من جريان استصحاب الكلّيمن القسم الثاني، وهذه الشبهة إشكال ونقض على جريان استصحاب الكلّي،وكانت في مقام سدّ الطريق على جريانه في الكلّي من القسم الثاني، وإذا كانالاستصحاب فيها جزئيّا ـ كما يقول سواء كان من قبيل استصحاب الكلّي أوالجزئي ـ فكيف يكون إشكالاً ونقضا عليه؟!
ومعلوم أنّ عدم جريان استصحاب الجزئي في مورد لمانع لايكون مانععن جريانه في موارد اُخرى، فهذا الجواب ليس بتامّ.
والتحقيق في الجواب عمّا ذكره المحقّق النائيني رحمهالله : أنّ الاستصحاب في الشبهة