(صفحه 183)
الكفاية، وإمّا إلى ماذكره النائيني رحمهالله وبعد ردّ ما ذكراه تستفاد وحدة كلّيالإنسان المتحقّق في ضمن زيد مع كلّي الإنسان المتحقّق في ضمن عمروـ مثلاً ـ ، والاختلاف في الخصوصيّات الفرديّة فقط، فلا مانع من استصحابالكلّي هنا.
وترد على هذا القسم من الكلّي أيضا شبهة نظير الشبهة العبائيّة في القسمالثاني منه، وهي: أنّه إذا قام أحد من النوم واحتمل جنابته في حال النوم لميجزله الدخول في الصلاة مع الوضوء، بناء على جريان الاستصحاب في الصورةالاُولى من القسم الثالث من استصحاب الكلّي، وذلك لجريان استصحابالحدث حينئذ بعد الوضوء؛ لاحتمال اقتران الحدث الأصغر مع الجنابة، وهيلاترتفع بالوضوء. ولا يلتزم بهذا الحكم الشيخ قدسسره ولا غيره؛ فإنّ كفايةالوضوء حينئذ من الواضحات. وهذا يكشف من عدم جريان الاستصحابفي القسم الثالث مطلقا.
وقال بعض الأعلام قدسسرهم في مقام الجواب عنه: «ولكنّ الإنصاف عدم ورودهذا النقض على الشيخ رحمهالله وذلك؛ لأنّ الواجب على المحدث هو الوضوء؛ لقولهتعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ»(1)، والجنب خارج من هذالعموم ويجب عليه الغسل؛ لقوله تعالى: «وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ»(2)، فيكونوجوب الوضوء مختصّا بغير الجنب، فإنّ التقسيم قاطع للشركة، فالمكلّفبالوضوء هو كلّ محدث لايكون جنبا، فهذا الذي قام من نومه ويحتمل كونهجنبا حين النوم تجري في حقّه أصالة عدم تحقّق الجنابة، فكونه محدثا محرزبالوجدان، وكونه غيرجنب محرز بالتعبّد الشرعي، فيدخل تحت قوله تعالى:
(صفحه184)
«فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ...» فيكون الوضوء في حقّه رافعا للحدث، ولا مجاللجريان الاستصحاب في الكلّي؛ لكونه محكوما بالأصل الموضوعي»(1).
ويمكن الجواب عنه بأنّ الآية مشتملة على قضيّتين، كأنّه قال: إذا تحقّقالنوم يجب الوضوء، وإذا تحقّقت الجنابة يجب الاغتسال، ولا ارتباط بينهما ولدليل لتقييد موضوع وجوب الوضوء وتركيبيه ـ أي النوم وعدم الجنابة ـ كمإذا قال المولى لعبده: «إن جاءك زيدٌ فأكرمه»، ثمّ قال: «إن جاءك عمروٌفأهنه»، فمجيء زيد سبب مستقلّ لوجوب إكرام زيد، ولا دليل لدخالة قيدآخر أو جزء آخر فيه ـ أي مجيء عمرو وعدم مجيئه ـ وهكذا في القضيّةالثانية.
وأمّا استشهاده بذيل الآية ـ أي «فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا»(2)،واستفادته تقييد موضوع الوضوء بوجدان الماء بقرينة المقابلة بين الصدروالذيل فليس بصحيح؛ فإنّ هذا التقييد يستفاد من نفس الأمر بالوضوء معقطع النظر عن ذيل الآية.
والتحقيق: أنّ هذا الجواب ليس بصحيح، بل ما ذكره بعض الأعلام قدسسره فيكمال الدقّة والمتانة، فإنّ الظاهر من قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ...» أنّه:إذا قمتم من النوم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... وهذا المعنى في القضيّةالاُولى واضح.
وأمّا ارتباط القضيّة الشرطيّة الثانية بالصلاة، فيستفاد من ذكرها عقيبالقضيّة الاُولى، فالقيام من النوم إلى الصلاة محفوظ فيهما، فالمستفاد من الآيةصدرا وذيلاً أنّ القائم من النوم على قسمين: قد يكون القائم من النوم جنب
- (1) مصباح الاُصول 3: 115 ـ 116.
(صفحه 185)
وقد يكون غيرجنب، كأنّه قال: «إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ولمتكونوا جنبفاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وإذا قمتم من النوم إلى الصلاة وكنتمجنبا فاطّهروا ويجب عليكم الاغتسال»، وبهذا الاستظهار من الآية يصحّالجواب عن الشبهة، وأنّ موضوع الوضوء في صدر الآية مقيّد ومركّب منالجزئين ـ أي القيام من النوم وعدم الجنابة ـ والأوّل محرز بالوجدان والثانيبالاستصحاب، فبعد جريان استصحاب الموضوع ـ أي عدم الجنابة ـ لاتصلالنوبة إلى استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء، ولا تقاس الآية بالمثالالمذكور، كما هو واضح، ونفس الآية مع قطع النظر عن الروايات تدلّ علىكفاية الغسل للصلاة بعد الجنابة. هذا كلّه بالنسبة إلى الجواب الأوّل منالشبهة.
والجواب الثاني: أنّ المستصحب لابدّ من كونه مجعولاً وحكما شرعيّا أوموضوعا للحكم الشرعي، ومعلوم أنّ الحدث الكلّي لايكون من الأحكامالمجعولة الشرعيّة، فإنّه أمر انتزاعي انتزعه المتشرّعة لايكون هذا العنوان فيلسان الشارع محكوما بحكم، ولا يكون موضوعا للحكم الشرعي؛ إذ لانرىفي الشريعة أن يكون مطلق الحدث والعنوان الجامع بين الأصغر والأكبرمحكوما بحكم.
ولكن يمكن أن يتحقّق بعض موارد في الشرع أن يكون عنوان المحدثمحكوما بحكم، مثل: «المحدث لايجوز له مسّ كتابة القرآن»، وهكذا، فإن كانكذلك فليس هذا الجواب بتامّ؛ إذ لا مانع من استصحاب كلّي الحدث لترتّبهذه الآثار الشرعيّة.
وأمّا القسم الرابع من الكلّي فهو ما إذا علمنا بوجود عنوانين يحتملانطباقهما على فرد واحد وعدمه، أو علمنا بوجود فردين وشكّ في تعاقبهم
(صفحه186)
وعدمه، والمثال للأوّل أنّه: إذا علمنا لوجود زيد في الدار لوجود متكلّم فيهيحتمل انطباقه على زيد وعلى غيره، وبعد القطع بخروج زيد عنها نشكّ فيبقاء المتكلّم فيها؛ لاحتمال بقائه في ضمن غيره، فنستصحب بقاء كلّي الإنسانفيها، أو أنّه: إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس ـ مثلاً ـ وقد اغتسلنا منها، ثمّرأينا منيّا في ثوبنا يوم الجمعة، فنعلم بكوننا جنبا حين خروج هذا المني،ولكن نحتمل أن يكون هذا المني من الجنابة التي قد اغتسلنا منها، أو يكونمن غيرها، فنستصحب بقاء كلّي الجنابة.
والمثال للثاني: ما إذا علم أحد بوضوئين وبحدث، ولكن لايدري أنّالوضوء الثاني كان تجديديّا ليكون الحدث بعدهما وباقيا فعلاً، أو كان رافعللحدث ليكون متطهّرا فعلاً، فيمكن استصحاب كلّي الطهارة.
ولا شكّ في أنّ الاستصحاب في المثال الأوّل استصحاب الكلّي، ولا شكّ فيكونه قسما آخر في مقابل كلّي القسم الثاني والثالث، فإنّه قد مرّ أنّه إذا علمنبتحقّق كلّي الحيوان في الدار وشككنا في كونه في ضمن فرد قصير العمر أوطويل العمر، فهو كلّي من القسم الثاني، وإذا علمنا بتحقّق كلّي الإنسان فيضمن زيد ـ مثلاً ـ في الدار وخروجه عنها، وشككنا في تحقّق عمرو فيهمقارنا مع دخول زيد فيها أو مقارنا لخروجه عنها، فهو كلّي من القسم الثالث.وفي ما نحن فيه علمنا بوجود زيد في الدار وخروجه عنها وعلمنا أيضبوجود متكلّم فيها، وشككنا في انطباق هذا العنوان الكلّي على زيد أو غيره.
وأمّا الاستصحاب في المثال الثاني على فرض جريانه، فلا يكوناستصحابا كلّيّا، فإنّ استصحاب الجنابة الحاصلة عقيب هذا المنيّ المشخّصالموجود في الثوب استصحاب شخصي؛ إذ الجنابة بهذه الأوصاف لايمكن أنتكون كلّيّة، والشكّ في زمان الجنابة لايوجب كلّيّتها.
(صفحه 187)
وهكذا استصحاب الطهارة في المثال الثالث ليس باستصحاب الكلّي؛ إذالمتيقّن والمستصحب في الواقع عبارة عن الطهارة الحاصلة بعد الوضوء الثاني،سواء كان تجديديّا أو رافعا للحدث، والترديد في سبب هذه الطهارة أنّهوضوء الأوّل والثاني، والترديد في سببيّتها لايوجب كلّيّتها، فهذان المثالانخارجان عن تحت عنوان استصحاب الكلّي، فيبقى المثال الأوّل فقط، ويجرياستصحاب الكلّي، فإنّا كنّا متيقّنين بوجود المتكلّم الكلّي في الدار وبعد خروجزيد نشكّ في بقاءه فيها فنستصحب بقاءه.
وربّما يقال بعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم من أقسام استصحابالكلّي؛ نظرا إلى أنّه لابدّ في جريان الاستصحاب من إحراز صدق عنواننقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عن اليقين السابق بعد جواز إحراز عالميّةزيد ـ مثلاً ـ في صورة الشكّ فيه بالتمسّك بعموم إكرام كلّ عالم، فإنّه من التمسّكبالعام في الشبهة المصداقيّة، وفي المقام لميحرز هذا؛ لأنّه بعد اليقين بارتفاع الفردالمتيقّن ـ أي زيد في المثال ـ واحتمال انطباق العنوان الآخر ـ أي المتكلّم ـ عليهيحتمل أن يكون رفع اليد عن اليقين به من نقض اليقين باليقين، فلا يمكنالتمسّك بقوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ»، فإنّه من الّتمسّك بالعامّ في الشبهةالمصداقيّة.
وجوابه: أنّ احتمال الانطباق إنّما هو في نفس العنوان لابوصف أنّه متيقّن،فإنّه بهذا الوصف يستحيل انطباقه على الفرد الأوّل بالضرورة، ففي المثالالمتقدّم إنّما نحتمل انطباق نفس عنوان المتكلّم على زيد، إلاّ أنّه بوصف أنّهمتيقّن لايحتمل أن ينطبق عليه، فبعد اليقين بوجود المتكلّم في الدار لايرتفعهذا اليقين باليقين بخروج زيد منها، بل الشكّ في بقائه فيها موجود بالوجدان،فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.