(صفحه212)
مالم ينضم إليه الجزء الآخر.
ثمّ قال: نعم، الأثر المترتّب على أحد جزئي المركّب هو أنّه لو انضمّ إليهالجزء الآخر لترتّب عليه الأثر، وهذا المعنى مع أنّه عقلي مقطوع البقاء في كلّمركّب وجد أحد جزئيّة، فلا معنى لاستصحابه؛ إذ لايمكن استصحاب الصحّةالتأهّليّة لجزء المركّب عند احتمال طرو القاطع أو المانع؛ لأنّ الصحّة التأهّليّةممّا لاشكّ في بقائه، فإنّها عبارة عن كون الجزء على وجه لو انضمّ إليه الجزءالآخر لترتّب عليه الأثر، ففي مانحن فيه ليس للعنب المجرّد عن الغليان أثر إلكونه لو انضمّ إليه الغليان لثبتت حرمته وعرضت عليه النجاسة، وهذا المعنىممّا لاشكّ في بقائه، فلا معنى لاستصحابه.
ثمّ قال: وحاصل الكلام أنّ الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المحمولين علىالعنب المغلي إنّما يمكن بوجهين: أحدهما: الشكّ في رفع الحرمة والنجاسة عنهبالنسخ.
ثانيهما: الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة عند تبدّل بعض الحالات بعدفرض وجود العنب المغلي بكلا جزئيّة كما إذا شكّ في بقائهما عند ذهاب ثلثه،ولا إشكال في استصحاب بقاء الحرمة والنجاسة للعنب في كلّ من الوجهينكما تقدّم.
وليس هذا مراد القائل بالاستصحاب التعليقي، ونحن لانتصوّر للشكّ فيبقاء، النجاسة والحرمة للعنب المغلي وجها آخر غير الوجهين المتقدّمين،فالاستصحاب التعليقي بمعنى المذكور لايرجع إلى استصحاب عدم النسخ، ولإلى استصحاب الحكم عند فرض وجود الموضوع بجميع أجزائه وقيوده،وتبدّل بعض حالاته ممّا لا أساس له ولا يرجع إلى معنى محصّل(1).
- (1) فوائد الاُصول 4: 460 ـ 468.
(صفحه 213)
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ كون الاستصحاب التعليقي بمعنى الشكّ في بقاء الحكمالمترتّب على موضوع مركّب من جزئين عند فرض وجود أحد جزئيّة وتبدّلبعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر... ليس بصحيح؛ إذ لاتعليقأصلاً في بعض الموارد التي ذكرها بعنوان المثال، كقوله: «العنب المغلي يحرموينجس» وإن كان مفهومه أنّ «العنب غير المغلي ليس بحرام»، ولكنّه لايرتبطبالاستصحاب التعليقي؛ لعدم التعليق فيه حكماً وموضوعاً، وهو نظير قولنا:«جائني زيد العالم».
أمّا في قوله «العنب إذا غلى يحرم وينجس» بعد تصريحه بأنّ الشرط يرجعإلى الموضوع ويكون من قيوده، فلا تعليق في الحكم أصلاً، وتعليق الموضوعلايكون ملازماً لتعليق الحكم، والغرض في الاستصحاب التعليقي هواستصحاب الحكم التعليقي وذكرنا في ما تقدّم أنّ محلّ النزاع في الاستصحابالتعليقي ما كان الحكم في لسان الشارع والدليل الشرعي معلّقاً على شيء،مثل: قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»معناه أن وجوب الإكرام معلّق على مجيءزيد، ويستصحب في صورة الشكّ هذا الحكم المعلّق.
ومعلوم أنّ إنكار الواجب المشروط وعدم إرجاع القيد إلى الوجوب ـ تبعللشيخ رحمهالله في مقابل المشهور ـ لايوجب انطباق الاستصحاب التعليقي المبحوثعنه في كلماتهم على طبق نظره.
وثانياً: أنّه استدلّ لعدم جريان الاستصحاب التعليقي بعدم تحقّق الحالةالسابقة للحكم المستصحب، فإنّه قبل فرض غليان العنب الذي هو جزءالموضوع لايمكن فرض وجود الحكم، فكيف يمكن استصحابه مع أنّه لابدّللمستصحب نحو وجود وتقرّر في الوعاء المناسب له؟
(صفحه214)
وجوابه: أنّ الوجود والتحقّق في كلّ حكم لابدّ وأن يكون متناسباً معه،فإن كان الحكم عبارة عن الوجوب المطلق فمعنى ثبوته وتحقّقه أن يكونفعليّاً، وإن كان عبارة عن الوجوب المشروط فمعنى ثبوته وتحقّقه جعل المولىوصدوره منه وإعلامه وبيانه للمكلّفين، كما ذكرنا أنّ قولنا: «إن جاءك زيدفأكرمه» يتصوّر فيه ثلاثة أحوال:
الأوّل: حال قبل بيانه من ناحية المولى وعدم جعله.
الثاني: حال جعله وبيانه من ناحيته قبل تحقّق مجيء زيد.
الثالث: حال تحقّق المجيء وفعليّة الحكم.
ومعلوم أنّ حال الثاني غير حال الأوّل، ولا يمكن التعبير بأنّه ليس هنحكم أصلاً، بل للحكم تحقّق وثبوت وجداناً، ولكنّ الثبوت المتناسب معكونه التعليقي والمشروط، فمعنى إرجاع الشرط إلى الحكم أنّ فعليّته متوقّفةعلى الشرط لا أصل الحكم، بحيث لو لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق الحكم ولميصدر من المولى أصلاً، فإذا تحقّق الحكم بنحو التعليق نتمسّك لبقائه في صورةالشكّ بالاستصحاب.
ثالثاً: أنّه قال بجريان الاستصحاب في القسم الثاني من الحكم الكلّي ومثّلبقوله: «الماء المتغيّر نجس» بخلاف القسم الثالث الذي نسميّه بالاستصحابالتعليقي، مثل: قوله: «العنب المغلي يحرم» مع أنّه لافرق بين هاتين العبارتين،فما الدليل على تحقّق الحكم الكلّي في الأوّل وجواز استصحابه وعدم تحقّقه فيالثاني وعدم جواز استصحابه؟
ومبنى الشيخ الأنصارى رحمهالله هو إنكار الواجب المشروط وإرجاع جميعالقيود إلى المادّة والموضوع دون الهيئة، ومعنى قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»عبارة عن «أكرم زيداً الجائي» فلا يبقى مجال لاستصحاب الحكم التعليقي
(صفحه 215)
عنده ههنا.
ولذلك عدل عن الاستصحاب التعليقي فيما نحن فيه إلى جريانالاستصحاب التنجيزي بأنّ الغليان حال العنبيّة كان سبباً للحرمة،فالاستصحاب بقاء السببيّة حال الزبيبيّة أيضا أو بقاء الملازمة بين الغليانوالحرمة حال الزبيبيّة، وهذه السببيّة متحققّة بالفعل من دون التعليق؛ لأنّهمستفادة من حكم الشارع بأنّ العصير العنبي يحرم إذا غلى، فيستفاد أنّالزبيب بعد الغليان يصير نجساً وحراماً(1).
والتحقيق: أنّ الأقوال في الأحكام الوضعيّة ثلاثة:
الأوّل: عدم كونها قابلة للجعل، لا بالأصالة والاستقلال ولا بالتبع، كما قالبه المحقّق النائيني رحمهالله .
الثاني: كونها قابلة للجعل الاستقلالي، مثل: أن يقول الشارع: «جعلتالبيع سببا للملكيّة» و«جعلت النكاح سبباً للزوجيّة»، وهذا المعنى يستفاد منقوله تعالى «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» كما قال به اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله ، وهوالحقّعندي.
الثالث: كونها قابلة للجعل التبعي لا الاستقلالي؛ لكونها منتزعة منالأحكام التكليفيّة، كما قال به الشيخ الأنصاري رحمهالله .
أمّا على مبنى المحقّق النائيني رحمهالله فلا تكون السببيّة قابلة للاستصحاب؛ إذلابدّ وأن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً للحكم الشرعيوالسببيّة ليست كذلك، وأمّا على المبنى التحقيق فلا مانع من استصحابالسببيّة الشرعيّة؛ لترتّب المسبّب عند وجود السبب وإن كان ترتّب المسبّبعند وجود السبب أمراً عقليّاً، ومثبتاً، إلاّ أنّه قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ المستصحب
- (1) فوائد الاُصول 2: 770.
(صفحه216)
إن كان المجعول الشرعي فتترتّب عليه الآثار العقليّة كما يترتّب علىاستصحاب وجوب صلاة الجمعة حكم العقل بوجوب الإطاعة.
وأمّا على مبنى الشيخ رحمهالله فلا معنى ـ بعد الالتزام بكون الأحكام الوضعيّةمنتزعة من الأحكام التكليفيّة ـ للالتزام بعدم جريان الاستصحاب في منشالانتزاع وهو التكليف، وجريان الاستصحاب في الأمر الانتزاعي وهوالسببيّة؛ إذ المفروض في المقام عدم تحقّق التكليف الفعلي حتّى تنتزع منهالسببيّة.
واستشكل المحقّق النائيني وبعض الأعلام قدسسرهم على الشيخ رحمهالله وذكروا بأنّهلايمكن جريان الاستصحاب في السببيّة ولو قيل بأنّها من المجعولات المستقلّة؛وذلك لأنّ الشكّ في بقاء السببيّة إن كان في بقائها في مرحلة الجعل لاحتمالالنسخ فلا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ فيه، ولكنّه خارج عنمحلّ الكلام، وإن كان في بقائها بالنسبة إلى مرتبة الفعليّة فلم تتحقّق السببيّةالفعليّة بعد حتّى نشكّ في بقائها؛ لأنّ السببيّة الفعليّة هي بعد تماميّة الموضوعبأجزائه، والمفروض في المقام عدم تحقّق بعض أجزائه وهو الغليان(1).
وأجاب عنه اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله بأنّ الشكّ ليس في بقاء الملازمةوالسببيّة بين تمام الموضوع والحكم؛ ضرورة عدم الشكّ في حرمة العصيرالعنبي المغلي، وإنّما الشكّ في العصير الزبيبي، وليس منشؤه الشكّ في نسخالحكم الأوّل، بل في أنّ سببيّة الغليان للحرمة هل هي مجعولة بنحو تدور مدارالعنبيّة أم لا؟ وفي مثله لايكون الشكّ في النسخ، ولعمري إنّ هذا بمكان منالوضوح، تدبّر(2).
- (1) فوائد الاُصول 4: 472، مصباح الاُصول 3: 139.