(صفحه 217)
حال معارضة الاستصحاب التعليقي مع التنجيزي
إن بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه فهل يعارضهالاستصحاب التنجيزى، فيسقطان بالمعارضة أم لا؟ ربما يقال بالمعارضة فلثمرة للقول بجريان الاستصحاب التعليقي؛ لتحقّقها دائماً.
بيان المعارضة: أنّ مقتضى الاستصحاب التعليقي في مسألة الزبيب ـ مثلاً هو الحرمة الفعليّة بعد الغليان، ولكن مقتضى الاستصحاب التنجيزي الحلّيّة،فإنّه كان حلالاً قبل الغليان ونشكّ في بقاء حليّته بعده، فمقتضى الاستصحاببقاؤها فيقع التعارض بين الاستصحابين فيسقطان.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم رحمهالله بحكومة الاستصحاب التعليقي علىالاستصحاب التنجيزي(1)، ولم يذكر وجهها ولذا وقع الكلام فيها، فقال المحقّقالخراساني رحمهالله في «تعليقته» ما محصّله:
إن الشكّ في الإباحة بعد الغليان مسبّب عن الشكّ في حرمته المعلّقة قبله،فاستصحاب حرمته كذلك المستلزم لنفي إباحته بعد الغليان يكون حاكما علىاستصحاب الحلّيّة والترتّب وإن كان عقليّاً، لكن الأثر العقلي المترتّب علىالأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري يترتّب على المستصحب، فيكوناستصحاب الحرمة حاكما عليه بهذه الملاحظة.
وبالجملة، أنّ استصحاب الحرمة التعليقيّة تترتّب عليه الحرمة الفعليّة بعدالغليان وينفي الإباحة بعده، لأنّ نفي الإباحة لازم عقلي للحكم بالحرمةالفعليّة، أعمّ من أن تكون واقعيّة أو ظاهريّة، فيرتفع المسببّي(2).
- (1) فرائد الاُصول 2: 770.
- (2) حاشية الآخوند على الرسائل: 208 ـ 209.
(صفحه218)
وما ذكره في الكفاية أنّه: إن قلت: نعم ـ أي سلّمنا جريان الاستصحابالتعليقي في نفسه ـ ولكنّه لامجال لاستصحاب المعلّق؛ لمعارضته باستصحابضدّه المطلق، فيعارض استصحاب الحرمة المعلّقة للعصير باستصحاب حلّيّتهالمطلقة.
قلت: لا يكاد يضرّ استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي شكّفي بقاء الحكم المعلّق بعده؛ ضرورة أنّه ـ أي الحكم بالحلّيّة ـ كان مغيّا بعدم معلّق عليه المعلّق، أي الغليان؛ فمفاد قوله: «العنب إذا غلى يحرم» أنّ الحلّيّةمغيّاة بالغليان، والحرمة معلّقة بالغليان، ولا منافاة بينهما، وماكان كذلك ـ أيإذا كانت الحلّيّة مغيّاة ـ لايكاد يضرّ ثبوته ـ أي الحكم بالحلّيّة بعده ـ أي بعدعروض الحالة ـ بالقطع فضلاً عن الاستصحاب؛ لعدم المضادّة بينهما ـ أيالحرمة التعليقيّة والحلّيّة المغيّاة ـ فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب كمكانا معاً بالقطع قبله بلا منافاة أصلاً.
وقضيّة ذلك ـ أي مقتضى عدم تعارض الاستصحابين ـ انتفاء حكم المطلقأي الحلّيّة بمجرّد ثبوت ما علّق عليه المعلّق أي الحرمة، فالغليان في المثال كمكان شرطاً للحرمة كان غاية للحلّيّة، فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد عروضحالة عليه شكّ في حلّيّته المغيّاة أيضا، فيكون الشكّ في حلّيّته أو حرمته فعلبعد عروضها متّحداً خارجا مع الشكّ في بقائه على ما كان عليه من الحلّيّةوالحرمة بنحو كانتا عليه، فقضيّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضهالملازم لاستصحاب حلّيّته المغيّاة حرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حلّيّته؛ فإنّهقضيّة نحو ثبوتهما كان بدليلهما أو بدليل الاستصحاب كما لا يخفى بأدنى التفاتعلى ذوى الألباب، فالتفت ولا تغفل(1).
(صفحه 219)
وقال في حاشية له في ذيل هذه العبارة: «كيلا تقول في مقام التفصّي عنإشكال المعارضة: إنّ الشكّ في الحلّيّة فعلاً بعد الغليان يكون مسبّبا عن الشكّفي الحرمة المعلّقة».
فالظاهر من كلامه صدرا وذيلاً إنكار السببيّة والمسببيّة رأسا، فما ذكرهالإمام رحمهالله ، من إرجاع ما ذكره في الكفاية إلى ما التزم به في الحاشية من السببيّةوالمسببيّة(1) بعيد جدّا.
وكان لبعض الأعلام رحمهالله بيان آخر بالنسبة إلى كلام صاحب الكفاية رحمهالله وبيانه بتوضيح منّا: أنّ الحلّيّة الثابتة للزبيب قبل الغليان غير قابلة للبقاء، وليجري فيها الاستصحاب؛ لوجود أصل حاكم عليه، وذلك لأنّ الحلّيّة في العنبكانت مغيّاة بالغليان؛ إذ الحرمة فيه كانت معلّقة على الغليان، ويستحيل اجتماعالحلّيّة المطلقة مع الحرمة على تقدير الغليان كما هو واضح.
وأمّا الحلّيّة في الزبيب فهي وإن كانت متيقّنة إلاّ أنّها مردّدة بين أنّها هلهي الحلّيّة التي كانت ثابتة للعنب بعينها حتّى تكون مغيّاة بالغليان أو أنّهحادثة للزبيب بعنوانه، فتكون باقية ولو بالاستصحاب؟ والأصل عدمحدوث حلّيّة جديدة وبقاء الحلّيّة السابقة المغيّاة بالغليان، وهي ترتفع به فلتكون قابلة للاستصحاب، فالمعارضة المتوهّمة غير تامّة.
ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث استصحاب الكلّي من أنّه إذا كان المكلّفمحدثاً بالحدث الأصغر ورأى بللاً مردّداً بين البول والمني فتوضّأ، لم يمكنجريان استصحاب كلّي الحدث؛ لوجود أصل حاكم عليه، وهو أصالة عدمحدوث الجنابة وأصالة عدم تبدّل الحدث الأصغر بالحدث الأكبر، والمقام من
- (1) كفاية الاُصول 2: 322 ـ 323.
(صفحه220)
هذا القبيل بعينه(1).
والتحقيق: أنّه ليس في كلام صاحب الكفاية رحمهالله من أصالة عدم حدوثالحلّيّة الجديدة أثر ولا خبر، وقد لاحظناه بدقّة بل حاصل كلامه: أنّ الشكّفي حرمة الزبيب وحلّيّته بعد الغليان هو الشكّ في بقاء الحرمة المعلّقة والحلّيّةالمغيّاة، ويمكن جريان استصحابهما، ونتيجة جريانهما أنّ الزبيب بعد الغليانيكون محرّماً بالحرمة الفعليّة، وإن كان هذا لازماً عقليّاً إلاّ أنّ ترتّبه على الأعممن الظاهريالواقعي لا إشكال فيه، فتترتّب على استصحاب الحرمة التعليقيّةالحرمة الفعليّة بعد الغليان، بلا فرق بين إثبات الحرمة التعليقيّة بالدليل أوبالاستصحاب، فلا تعارض بين الاستصحابين حتّى تصل النوبة إلى بحثالحاكم والمحكوم أو السبب والمسبّب.
والجواب عن المعارضة الدائميّة بين الاستصحاب التعليقي والاستصحابالتنجيزي إمّا بعدم المنافاة بينهما كما ذكره صاحب الكفاية رحمهالله ، وإمّا بحكومةاستصحاب الحرمة التعليقيّة على استصحاب الحلّيّة التنجيزيّة؛ لتحقّق السببيّةوالمسببيّة بينهما، كما التزم به الشيخ الأعظم رحمهالله واختاره المحقّق النائيني رحمهالله والمحقّقالخراساني رحمهالله في الحاشية.
ويمكن أن يقال: إنّ تقدّم الاستصحاب الجاري في السبب علىالاستصحاب الجاري في المسبّب لا إشكال فيه، كما في مثل تطهير اليدالمتنجّسة بالماء المشكوك الكرّيّة، ويتحقّق هنا بالنظر البدوي استصحابان:استصحاب بقاء الكرّيّة في الماء، واستصحاب بقاء النجاسة في اليد، ولكن بعددقّة النظر نلاحظ أنّ الأوّل حاكم على الثاني، فإن بعد جريان استصحاب بقاءكرّيّة هذا الماء تصير نتيجته في الحقيقة صغرى للكبرى الشرعيّة، وهو أنّ كلّ
- (1) مصباح الاُصول 3: 142.
(صفحه 221)
شيء متنجّس طهّر بماء الكرّ يكون طاهرا، فهذه اليد تكون طاهرة وهذهالكبرى معارضة مع استصحاب بقاء النجاسة في اليد، وبعد انطباق هذهالكبرى لايبقى الشكّ في عدم بقاء النجاسة في اليد، فجريان الأصل في السببيزيل الشكّ في المسبّب شرعا وتعبّدا، فيعتبر في تقدّم الأصل السببي علىالأصل المسبّبي أن يكون الحكم في الشكّ المسبّبي من الآثار الشرعيّة للأصلالسببي، كما أنّ طهارة اليد من الآثار الشرعيّه لطهارة الماء.
لكن لايتحقّق هذا المعنى في المقام، فإنّ الشكّ في بقاء الحلّيّة التنجيزيّةللزبيب وإن كان مسبّبا عن الشكّ في بقاء الحرمة التعليقيّة له، إلاّ أنّ جرياناستصحاب الحرمة التعليقيّة بعنوان الأصل السببي لايوجب حرمة الزبيب بعدالغليان شرعاً وتعبّدا، فإنّها ليست من الآثار الشرعيّة لجعل الحرمة للعنبعلى تقدير الغليان مطلقاً،بلا اختصاص لها بحال كونه عنباً، بل هي من اللوازمالعقليّة، فلا مجال للحكومة، فيبقى التعارض بحاله(1).
وقال اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله : «والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ استصحابالحرمة التعليقيّة حاكم على استصحاب الإباحة كسائر الحكومات؛ لأنّ شرطحكومة أصل آخر ـ كما أشرنا إليه ـ أمران: أحدهما: كون أحد الشكّينمسبّبا عن الآخر.
الثاني: أن يكون جريان الأصل في السبب رافعاً للشكّ عن المسبّب تعبّدا،فاستصحاب كرّيّة الماء يكون حكمه طهارة الثوب المغسول به بحسب الكبرىالشرعيّة من «أنّ الكرّ مطهّر»، فيرفع الشكّ في أنّ الثوب طاهر أو لا؛ لأنّالشكّ في الطهارة والنجاسة متقوّم بطرفي الترديد، فإذا وقع التعبّد بالبناء علىأحد طرفي الترديد يرفع الشكّ قهرا.
- (1) مصباح الاُصول 3: 141.