(صفحه214)
وجوابه: أنّ الوجود والتحقّق في كلّ حكم لابدّ وأن يكون متناسباً معه،فإن كان الحكم عبارة عن الوجوب المطلق فمعنى ثبوته وتحقّقه أن يكونفعليّاً، وإن كان عبارة عن الوجوب المشروط فمعنى ثبوته وتحقّقه جعل المولىوصدوره منه وإعلامه وبيانه للمكلّفين، كما ذكرنا أنّ قولنا: «إن جاءك زيدفأكرمه» يتصوّر فيه ثلاثة أحوال:
الأوّل: حال قبل بيانه من ناحية المولى وعدم جعله.
الثاني: حال جعله وبيانه من ناحيته قبل تحقّق مجيء زيد.
الثالث: حال تحقّق المجيء وفعليّة الحكم.
ومعلوم أنّ حال الثاني غير حال الأوّل، ولا يمكن التعبير بأنّه ليس هنحكم أصلاً، بل للحكم تحقّق وثبوت وجداناً، ولكنّ الثبوت المتناسب معكونه التعليقي والمشروط، فمعنى إرجاع الشرط إلى الحكم أنّ فعليّته متوقّفةعلى الشرط لا أصل الحكم، بحيث لو لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق الحكم ولميصدر من المولى أصلاً، فإذا تحقّق الحكم بنحو التعليق نتمسّك لبقائه في صورةالشكّ بالاستصحاب.
ثالثاً: أنّه قال بجريان الاستصحاب في القسم الثاني من الحكم الكلّي ومثّلبقوله: «الماء المتغيّر نجس» بخلاف القسم الثالث الذي نسميّه بالاستصحابالتعليقي، مثل: قوله: «العنب المغلي يحرم» مع أنّه لافرق بين هاتين العبارتين،فما الدليل على تحقّق الحكم الكلّي في الأوّل وجواز استصحابه وعدم تحقّقه فيالثاني وعدم جواز استصحابه؟
ومبنى الشيخ الأنصارى رحمهالله هو إنكار الواجب المشروط وإرجاع جميعالقيود إلى المادّة والموضوع دون الهيئة، ومعنى قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»عبارة عن «أكرم زيداً الجائي» فلا يبقى مجال لاستصحاب الحكم التعليقي
(صفحه 215)
عنده ههنا.
ولذلك عدل عن الاستصحاب التعليقي فيما نحن فيه إلى جريانالاستصحاب التنجيزي بأنّ الغليان حال العنبيّة كان سبباً للحرمة،فالاستصحاب بقاء السببيّة حال الزبيبيّة أيضا أو بقاء الملازمة بين الغليانوالحرمة حال الزبيبيّة، وهذه السببيّة متحققّة بالفعل من دون التعليق؛ لأنّهمستفادة من حكم الشارع بأنّ العصير العنبي يحرم إذا غلى، فيستفاد أنّالزبيب بعد الغليان يصير نجساً وحراماً(1).
والتحقيق: أنّ الأقوال في الأحكام الوضعيّة ثلاثة:
الأوّل: عدم كونها قابلة للجعل، لا بالأصالة والاستقلال ولا بالتبع، كما قالبه المحقّق النائيني رحمهالله .
الثاني: كونها قابلة للجعل الاستقلالي، مثل: أن يقول الشارع: «جعلتالبيع سببا للملكيّة» و«جعلت النكاح سبباً للزوجيّة»، وهذا المعنى يستفاد منقوله تعالى «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» كما قال به اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله ، وهوالحقّعندي.
الثالث: كونها قابلة للجعل التبعي لا الاستقلالي؛ لكونها منتزعة منالأحكام التكليفيّة، كما قال به الشيخ الأنصاري رحمهالله .
أمّا على مبنى المحقّق النائيني رحمهالله فلا تكون السببيّة قابلة للاستصحاب؛ إذلابدّ وأن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً للحكم الشرعيوالسببيّة ليست كذلك، وأمّا على المبنى التحقيق فلا مانع من استصحابالسببيّة الشرعيّة؛ لترتّب المسبّب عند وجود السبب وإن كان ترتّب المسبّبعند وجود السبب أمراً عقليّاً، ومثبتاً، إلاّ أنّه قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ المستصحب
- (1) فوائد الاُصول 2: 770.
(صفحه216)
إن كان المجعول الشرعي فتترتّب عليه الآثار العقليّة كما يترتّب علىاستصحاب وجوب صلاة الجمعة حكم العقل بوجوب الإطاعة.
وأمّا على مبنى الشيخ رحمهالله فلا معنى ـ بعد الالتزام بكون الأحكام الوضعيّةمنتزعة من الأحكام التكليفيّة ـ للالتزام بعدم جريان الاستصحاب في منشالانتزاع وهو التكليف، وجريان الاستصحاب في الأمر الانتزاعي وهوالسببيّة؛ إذ المفروض في المقام عدم تحقّق التكليف الفعلي حتّى تنتزع منهالسببيّة.
واستشكل المحقّق النائيني وبعض الأعلام قدسسرهم على الشيخ رحمهالله وذكروا بأنّهلايمكن جريان الاستصحاب في السببيّة ولو قيل بأنّها من المجعولات المستقلّة؛وذلك لأنّ الشكّ في بقاء السببيّة إن كان في بقائها في مرحلة الجعل لاحتمالالنسخ فلا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ فيه، ولكنّه خارج عنمحلّ الكلام، وإن كان في بقائها بالنسبة إلى مرتبة الفعليّة فلم تتحقّق السببيّةالفعليّة بعد حتّى نشكّ في بقائها؛ لأنّ السببيّة الفعليّة هي بعد تماميّة الموضوعبأجزائه، والمفروض في المقام عدم تحقّق بعض أجزائه وهو الغليان(1).
وأجاب عنه اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله بأنّ الشكّ ليس في بقاء الملازمةوالسببيّة بين تمام الموضوع والحكم؛ ضرورة عدم الشكّ في حرمة العصيرالعنبي المغلي، وإنّما الشكّ في العصير الزبيبي، وليس منشؤه الشكّ في نسخالحكم الأوّل، بل في أنّ سببيّة الغليان للحرمة هل هي مجعولة بنحو تدور مدارالعنبيّة أم لا؟ وفي مثله لايكون الشكّ في النسخ، ولعمري إنّ هذا بمكان منالوضوح، تدبّر(2).
- (1) فوائد الاُصول 4: 472، مصباح الاُصول 3: 139.
(صفحه 217)
حال معارضة الاستصحاب التعليقي مع التنجيزي
إن بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه فهل يعارضهالاستصحاب التنجيزى، فيسقطان بالمعارضة أم لا؟ ربما يقال بالمعارضة فلثمرة للقول بجريان الاستصحاب التعليقي؛ لتحقّقها دائماً.
بيان المعارضة: أنّ مقتضى الاستصحاب التعليقي في مسألة الزبيب ـ مثلاً هو الحرمة الفعليّة بعد الغليان، ولكن مقتضى الاستصحاب التنجيزي الحلّيّة،فإنّه كان حلالاً قبل الغليان ونشكّ في بقاء حليّته بعده، فمقتضى الاستصحاببقاؤها فيقع التعارض بين الاستصحابين فيسقطان.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم رحمهالله بحكومة الاستصحاب التعليقي علىالاستصحاب التنجيزي(1)، ولم يذكر وجهها ولذا وقع الكلام فيها، فقال المحقّقالخراساني رحمهالله في «تعليقته» ما محصّله:
إن الشكّ في الإباحة بعد الغليان مسبّب عن الشكّ في حرمته المعلّقة قبله،فاستصحاب حرمته كذلك المستلزم لنفي إباحته بعد الغليان يكون حاكما علىاستصحاب الحلّيّة والترتّب وإن كان عقليّاً، لكن الأثر العقلي المترتّب علىالأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري يترتّب على المستصحب، فيكوناستصحاب الحرمة حاكما عليه بهذه الملاحظة.
وبالجملة، أنّ استصحاب الحرمة التعليقيّة تترتّب عليه الحرمة الفعليّة بعدالغليان وينفي الإباحة بعده، لأنّ نفي الإباحة لازم عقلي للحكم بالحرمةالفعليّة، أعمّ من أن تكون واقعيّة أو ظاهريّة، فيرتفع المسببّي(2).
- (1) فرائد الاُصول 2: 770.
- (2) حاشية الآخوند على الرسائل: 208 ـ 209.
(صفحه218)
وما ذكره في الكفاية أنّه: إن قلت: نعم ـ أي سلّمنا جريان الاستصحابالتعليقي في نفسه ـ ولكنّه لامجال لاستصحاب المعلّق؛ لمعارضته باستصحابضدّه المطلق، فيعارض استصحاب الحرمة المعلّقة للعصير باستصحاب حلّيّتهالمطلقة.
قلت: لا يكاد يضرّ استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي شكّفي بقاء الحكم المعلّق بعده؛ ضرورة أنّه ـ أي الحكم بالحلّيّة ـ كان مغيّا بعدم معلّق عليه المعلّق، أي الغليان؛ فمفاد قوله: «العنب إذا غلى يحرم» أنّ الحلّيّةمغيّاة بالغليان، والحرمة معلّقة بالغليان، ولا منافاة بينهما، وماكان كذلك ـ أيإذا كانت الحلّيّة مغيّاة ـ لايكاد يضرّ ثبوته ـ أي الحكم بالحلّيّة بعده ـ أي بعدعروض الحالة ـ بالقطع فضلاً عن الاستصحاب؛ لعدم المضادّة بينهما ـ أيالحرمة التعليقيّة والحلّيّة المغيّاة ـ فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب كمكانا معاً بالقطع قبله بلا منافاة أصلاً.
وقضيّة ذلك ـ أي مقتضى عدم تعارض الاستصحابين ـ انتفاء حكم المطلقأي الحلّيّة بمجرّد ثبوت ما علّق عليه المعلّق أي الحرمة، فالغليان في المثال كمكان شرطاً للحرمة كان غاية للحلّيّة، فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد عروضحالة عليه شكّ في حلّيّته المغيّاة أيضا، فيكون الشكّ في حلّيّته أو حرمته فعلبعد عروضها متّحداً خارجا مع الشكّ في بقائه على ما كان عليه من الحلّيّةوالحرمة بنحو كانتا عليه، فقضيّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضهالملازم لاستصحاب حلّيّته المغيّاة حرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حلّيّته؛ فإنّهقضيّة نحو ثبوتهما كان بدليلهما أو بدليل الاستصحاب كما لا يخفى بأدنى التفاتعلى ذوى الألباب، فالتفت ولا تغفل(1).