(صفحه240)
هو الظاهر من الشيخ ومن بعده من الأعلام.
وإمّا أن يكون المراد منها إبقاء اليقين في اعتبار الشارع وإطالة عمره وعدمنقضه بالشكّ؛ لكونه أمراً مبرماً لاينقض بما ليس كذلك، فيكون معنى عدمنقض اليقين بالشكّ هو التعبّد ببقاء اليقين الطريقي في مقام العمل، لما عرفت فيمحلّه من أنّ اليقين السابق لايمكن أن يكون طريقاً وأمارة على الشيءالمشكوك في زمان، فلا يمكن أن يكون اعتبار بقاء اليقين إلاّ إيجاب العمل علىطبق اليقين الطريقي، أي التعبّد ببقاء المتيقّن، فتصير نتيجة الاعتبارين واحدة،وهي وجوب ترتيب الآثار في زمان الشكّ وإن كان الاعتباران مختلفينوطريق التعبّد بوجوب ترتيب الأثر مختلفاً كما ستأتي الإشارة إليه.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ قوله «لاينقض اليقين بالشكّ» إن كان بمعنىتنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقّن في الآثار فلا يترتّب عليه بهذا الدليل إلآثار نفس المتيقّن دون آثار الآثار، أي لوازم اللوازم الشرعيّة وإن كانالترتّب شرعيّاً فضلاً عن آثار اللوازم والملزومات والملازمات العقليّةوالعاديّة، وذلك لوجهين:
الأوّل: أنّ آثار المتيقّن ليست إلاّ ما يترتّب عليه ويكون هو موضوعاً لها،وأمّا أثر الأثر فيكون موضوعه الأثر لا المتيقّن، كما أنّ أثر اللازم أو الملزومأو الملازم مطلقاً يكون موضوعه تلك الاُمور لا المتيقّن، ومعنى «لاينقضاليقين بالشكّ» بناء عليه أنّه رتّب آثار المتيقّن على المشكوك فيه، والفرض أنّهلم يتعلّق اليقين إلاّ بنفس المتيقّن، فاذا تعلّق اليقين بحياة زيد دون نبات لحيتهوشكّ في بقائها يكون التعبّد بلزوم ترتيب الأثر بلحاظ أثر المتيقّن، وهو ميترتّب على الحياة المتيقّنة، لاما ليس بمتيقّن كنبات اللحية، فإنّ التنزيل لم يقعإلاّ بلحاظ المتيقّن والمشكوك فيه وذلك من غير فرق بين الآثار المترتّبة على
(صفحه 241)
الوسائط الشرعيّة والعاديّة والعقليّة.
وليس ذلك من جهة انصراف الأدلّة عن الآثار الغير الشرعيّة أو عدمإطلاقها أو عدم تعقّل جعل ما ليس تحت يد الشارع كما ذهب إلى كلٍّ ذاهب،بل لقصور الأدلّة وخروج تلك الآثار موضوعاً وتخصّصاً، وهذا الوجه يظهرمن كلام الشيخ أيضا.
والثاني: أنّ دليل الأصل لايمكن أن يتكفّل بآثار الآثار وآثار الوسائطولو كانت شرعيّة؛ لأنّ الأثر إنّما يكون تحقّقه بنفس التعبّد، ولا يمكن أن يكونالدليل المتكفّل للتعبّد بالأثر متكفّلاً للتعبّد، بأثر الأثر؛ لأنّ أثر المتيقّن متقدّمذاتاً واعتباراً على أثره، أي أثر الأثر؛ لكونه موضوعاً له، فلابدّ من جعل الأثروالتعبّد به أوّلاً وجعل أثر ذلك الأثر والتعبّد به في الرتبة المتأخّرة عن الجعلالأوّل، ولا يمكن أن يكون الجعل الواحد والدليل الفارد متكفّلاً لهما؛ للزومتقدّم الشيء على نفسه وإثبات الموضوع بالحكم.
ثمّ قال: وممّا ذكرنا يعلم أنّه لو كان معنى «لاينقض اليقين بالشكّ» هو التعبّدبإبقاء اليقين وإطالة عمره لما نفع في ترتّب آثار الوسائط الشرعيّة فضلاً عنغيرها؛ لعين ماذكرنا من الوجهين(1).
وحاصل كلامه رحمهالله : أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن شمول آثار اللوازمالعقليّة والعاديّة؛ لمحدوديّته بدائرة صدق نقض اليقين بالشكّ، ولايتحقّق هذالعنوان فيها حتّى يشملها قوله «لاتنقض اليقين بالشكّ» فلذا لو فرض تحقّقالإطلاق للدليل لايفيد في المقام؛ إذ الإطلاق لايوجب سراية الحكم إلىالعنوان الخارج عن دائرة لفظ المطلق، فالحكم دائر مدار صدق عنوان صدقاليقين بالشكّ، إذا انتفى العنوان انتفى الحكم.
- (1) الاستصحاب: 152 ـ 155.
(صفحه242)
وما ذكره الشيخ رحمهالله من عدم قابليّة تعلّق الجعل التشريعي باللوازم العقليّةوالعاديّة مع صحّته في نفسه ومتانته لايفيد في المقام؛ إذ لو فرضنا كونها قابلةللجعل التشريعي لايكون مؤثّراً في مانحن فيه؛ إذ لادليل للجعل سوى قوله:«لاتنقض اليقين بالشكّ»، وهو لايتعدّى من دائرة صدق عنوان نقض اليقينبالشكّ، فلا يكون الأثر العقليالعادي مصداقا له، وهذا البيان دقيق ومتينوقابل للاطمئنان.
وهذا كلّه بالنسبة إلى الجهة الاُولى من البحث، وأمّا الجهة الثانية فهيعبارة عن الآثار الشرعيّة المترتّبة على الأثر الشرعي المترتّب علىالمستصحب، والمفروض أنّه لايتحقّق للأثر الشرعي الأوّل حالة سابقةوجوديّة متيقّنة حتّى نجري الاستصحاب فيه مستقلاًّ، كما إذا شككنا فيمطهّريّة ماء الحوض المغسول به اليد النجسة فنستصحب المطهريّة، والأثرالشرعي المترتّب عليها طهارة اليد المغسولة بهذا الماء، والأثر الشرعيالمترتّب على طهارة اليد طهارة ملاقيه مع الرطوبة، مع أنّ استصحاب طهارةاليد لايكون جارياً؛ لكونها أمراً حادثاً مسبوق العدم، فهل يترتّب هذا الأثرالشرعي المترتّب على الأثر الشرعي الأوّل على المستصحب ـ أي طهارةالملاقي على مطهريّة الماء ـ أم لا؟ وما ذكرناه في عدم ترتّب الأثر الشرعيالمترتّب على اللازم العقلي والعادي ينطبق ههنا أيضا، طابق النعل بالنعل، أيخروجه عن الدليل تخصّصا مع تحقّق إشكال آخر في ما نحن فيه، وهو ماذكرهاُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله بعنوان الجواب الثاني من عدم إمكان كون الجعلالواحد متكفّلاً للتعبّد بما في الرتبة المتقدّمة وما في الرتبة المتأخّرة معاً؛ للزومتقدّم الشيء على نفسه وإثبات الموضوع بالحكم، فإنّ طهارة اليد بمنزلةالموضوع لطهارة الملاقي وهي مترتّبة عليها، ولا يمكن جعل الموضوع والحكم
(صفحه 243)
معاً بقوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ».
وهذا الإشكال نظير ماورد على أدلّة حجّيّة خبر الثقة بالنسبة إلى الأخبارمع الواسطة بأنّ شمول قوله: «صدّق العادل» لها يستلزم أن يكون متكفّللبيان وجعل الموضوع معاً، وهذا ممتنع.
ولا يمكن دفع الإشكال ههنا بما دفع به الإشكال هناك؛ لإمكان أن يقالهناك: إنّ قوله: «صدّق العادل» قضيّة حقيقيّة تنطبق على كلّ مصداق وجدمنها ولو كان مصداقا تعبديّا، أو أن يقال: إنّ العرف يحكم بإلغاء الخصوصيّةأو يدّعى العلم بالمناط وأنّ المصداق المتحقّق بنفس دليل التعبّد لابدّ وأنيترتّب عليه الأثر.
ولا يرد شيء منها في المقام؛ لأنّ التعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ لايوجبحصول مصداق تعبّدي من الشكّ واليقين حتّى ينطبق عليه عدم نقضه به، فإذعلم بمطهّريّة الماء وشكّ فيها يجب ترتيب طهارة اليد المغسولة به عليه، لقوله:«لاتنقض اليقين بالشكّ»، فيحكم بطهارة اليد به، فإذا كانت طهارة اليدموضوعاً لأثر شرعي فلا يمكن أن يكون دليل لاتنقض حاكما بوجوبترتّبه عليها؛ لعدم تكفّل هذا التعبّد لإيجاد مصداق تعبّدي لقوله: «لاتنقضاليقين» حتّى يقال: إنّه قضيّة حقيقيّة تشمل ما وجد بنفس التعبّد.
كما لايمكن دعوى إلغاء الخصوصيّة عرفا أو العلم بالمناط بعد عدم كونهمصداقاً للكبرى ولو تعبّدا، وبعد كون ترتّب الأثر على الموضوع لأجل تعلّقاليقين، وهو مفقود، فدعوى وحدة المناط أو إلغاء الخصوصيّة مجازفة محضة.
إنّما الكلام في مفاد قوله «لاتنقض اليقين بالشكّ» بالنسبة إلى الاستصحابالجاري في الموضوعات، مثل: استصحاب عدالة زيد أو خمريّة هذا المائع،ويستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمهالله أنّ مفاده جعل الحكم المماثل بلا فرق بين
(صفحه244)
الاستصحاب الجاري في الأحكام والموضوعات، فمعنى استصحاب الخمريّةأنّ هذا المائع كان في السابق حراما والآن أيضا يكون حراما(1).
والتحقيق: أنّ الاستصحاب الجاري في الموضوعات لا يكون ناظراً إلىالأحكام والآثار، ومفاده التعبّد ببقاء المستصحب وإن كان له آثار وأحكام فيالشريعة، فمفاد استصحاب الخمريّة أنّه أيّها المنقاد للشرع، تعبّد بأنّ هذا المائعخمر، كما أنّ مفاد البيّنة أيضا يكون كذلك إلاّ أنّ حجّيّتها على نحو الطريقيّة بلفرق بينهما من حيث المفاد.
والقاعدة أيضا تقتضي ذلك؛ إذ المشكوك فيه فعلاً والمتيقّن سابقاً عبارة عننفس عنوان الموضوع بدون لحاظ الأحكام والآثار، وربّما لايلتفت الشاكّإليها أصلاً، فمفاد استصحاب الحرمة هو جعل الحكم المماثل بخلافاستصحاب الخمريّة، وبعد التعبّد بأنّ هذا المائع خمر بالاستصحاب وإحرازالموضوع وتحقّقه ينطبق عليه حكم الشارع بأنّ الخمر حرام، كما أنّ البيّنةتكون محرزة ومبيّنة للموضوع لاتكون متكفّلة لبيان الحكم، وهكذالاستصحاب يكون كذلك، فترتّب الحكم في استصحاب الموضوعاتلايرتبط بالاستصحاب.
فإذا كان المستصحب هو الخمريّة وكان له لازم شرعي ـ أي الحرمة وكان للازمه أيضا لازم شرعي آخر ـ أي ارتداد منكر حرمته ـ فيستفاد منقوله «لاتنقض اليقين بالشكّ» التعبّد بأنّ هذا المائع خمر وإحراز الموضوعفقط، والحرمة تستفاد من دليل آخر، مثل:كلّ خمر حرام، وارتداد منكرحرمته من دليل ثالث، فلا يرتبط حكم الأثر وحكم أثر الأثر بدليلالاستصحاب، كما لا يخفى، بل كلّ أثر شرعي يصير موضوعاً لأثر من بعده،
- (1) كفاية الاُصول 2: 325.