(صفحه242)
وما ذكره الشيخ رحمهالله من عدم قابليّة تعلّق الجعل التشريعي باللوازم العقليّةوالعاديّة مع صحّته في نفسه ومتانته لايفيد في المقام؛ إذ لو فرضنا كونها قابلةللجعل التشريعي لايكون مؤثّراً في مانحن فيه؛ إذ لادليل للجعل سوى قوله:«لاتنقض اليقين بالشكّ»، وهو لايتعدّى من دائرة صدق عنوان نقض اليقينبالشكّ، فلا يكون الأثر العقليالعادي مصداقا له، وهذا البيان دقيق ومتينوقابل للاطمئنان.
وهذا كلّه بالنسبة إلى الجهة الاُولى من البحث، وأمّا الجهة الثانية فهيعبارة عن الآثار الشرعيّة المترتّبة على الأثر الشرعي المترتّب علىالمستصحب، والمفروض أنّه لايتحقّق للأثر الشرعي الأوّل حالة سابقةوجوديّة متيقّنة حتّى نجري الاستصحاب فيه مستقلاًّ، كما إذا شككنا فيمطهّريّة ماء الحوض المغسول به اليد النجسة فنستصحب المطهريّة، والأثرالشرعي المترتّب عليها طهارة اليد المغسولة بهذا الماء، والأثر الشرعيالمترتّب على طهارة اليد طهارة ملاقيه مع الرطوبة، مع أنّ استصحاب طهارةاليد لايكون جارياً؛ لكونها أمراً حادثاً مسبوق العدم، فهل يترتّب هذا الأثرالشرعي المترتّب على الأثر الشرعي الأوّل على المستصحب ـ أي طهارةالملاقي على مطهريّة الماء ـ أم لا؟ وما ذكرناه في عدم ترتّب الأثر الشرعيالمترتّب على اللازم العقلي والعادي ينطبق ههنا أيضا، طابق النعل بالنعل، أيخروجه عن الدليل تخصّصا مع تحقّق إشكال آخر في ما نحن فيه، وهو ماذكرهاُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله بعنوان الجواب الثاني من عدم إمكان كون الجعلالواحد متكفّلاً للتعبّد بما في الرتبة المتقدّمة وما في الرتبة المتأخّرة معاً؛ للزومتقدّم الشيء على نفسه وإثبات الموضوع بالحكم، فإنّ طهارة اليد بمنزلةالموضوع لطهارة الملاقي وهي مترتّبة عليها، ولا يمكن جعل الموضوع والحكم
(صفحه 243)
معاً بقوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ».
وهذا الإشكال نظير ماورد على أدلّة حجّيّة خبر الثقة بالنسبة إلى الأخبارمع الواسطة بأنّ شمول قوله: «صدّق العادل» لها يستلزم أن يكون متكفّللبيان وجعل الموضوع معاً، وهذا ممتنع.
ولا يمكن دفع الإشكال ههنا بما دفع به الإشكال هناك؛ لإمكان أن يقالهناك: إنّ قوله: «صدّق العادل» قضيّة حقيقيّة تنطبق على كلّ مصداق وجدمنها ولو كان مصداقا تعبديّا، أو أن يقال: إنّ العرف يحكم بإلغاء الخصوصيّةأو يدّعى العلم بالمناط وأنّ المصداق المتحقّق بنفس دليل التعبّد لابدّ وأنيترتّب عليه الأثر.
ولا يرد شيء منها في المقام؛ لأنّ التعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ لايوجبحصول مصداق تعبّدي من الشكّ واليقين حتّى ينطبق عليه عدم نقضه به، فإذعلم بمطهّريّة الماء وشكّ فيها يجب ترتيب طهارة اليد المغسولة به عليه، لقوله:«لاتنقض اليقين بالشكّ»، فيحكم بطهارة اليد به، فإذا كانت طهارة اليدموضوعاً لأثر شرعي فلا يمكن أن يكون دليل لاتنقض حاكما بوجوبترتّبه عليها؛ لعدم تكفّل هذا التعبّد لإيجاد مصداق تعبّدي لقوله: «لاتنقضاليقين» حتّى يقال: إنّه قضيّة حقيقيّة تشمل ما وجد بنفس التعبّد.
كما لايمكن دعوى إلغاء الخصوصيّة عرفا أو العلم بالمناط بعد عدم كونهمصداقاً للكبرى ولو تعبّدا، وبعد كون ترتّب الأثر على الموضوع لأجل تعلّقاليقين، وهو مفقود، فدعوى وحدة المناط أو إلغاء الخصوصيّة مجازفة محضة.
إنّما الكلام في مفاد قوله «لاتنقض اليقين بالشكّ» بالنسبة إلى الاستصحابالجاري في الموضوعات، مثل: استصحاب عدالة زيد أو خمريّة هذا المائع،ويستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمهالله أنّ مفاده جعل الحكم المماثل بلا فرق بين
(صفحه244)
الاستصحاب الجاري في الأحكام والموضوعات، فمعنى استصحاب الخمريّةأنّ هذا المائع كان في السابق حراما والآن أيضا يكون حراما(1).
والتحقيق: أنّ الاستصحاب الجاري في الموضوعات لا يكون ناظراً إلىالأحكام والآثار، ومفاده التعبّد ببقاء المستصحب وإن كان له آثار وأحكام فيالشريعة، فمفاد استصحاب الخمريّة أنّه أيّها المنقاد للشرع، تعبّد بأنّ هذا المائعخمر، كما أنّ مفاد البيّنة أيضا يكون كذلك إلاّ أنّ حجّيّتها على نحو الطريقيّة بلفرق بينهما من حيث المفاد.
والقاعدة أيضا تقتضي ذلك؛ إذ المشكوك فيه فعلاً والمتيقّن سابقاً عبارة عننفس عنوان الموضوع بدون لحاظ الأحكام والآثار، وربّما لايلتفت الشاكّإليها أصلاً، فمفاد استصحاب الحرمة هو جعل الحكم المماثل بخلافاستصحاب الخمريّة، وبعد التعبّد بأنّ هذا المائع خمر بالاستصحاب وإحرازالموضوع وتحقّقه ينطبق عليه حكم الشارع بأنّ الخمر حرام، كما أنّ البيّنةتكون محرزة ومبيّنة للموضوع لاتكون متكفّلة لبيان الحكم، وهكذالاستصحاب يكون كذلك، فترتّب الحكم في استصحاب الموضوعاتلايرتبط بالاستصحاب.
فإذا كان المستصحب هو الخمريّة وكان له لازم شرعي ـ أي الحرمة وكان للازمه أيضا لازم شرعي آخر ـ أي ارتداد منكر حرمته ـ فيستفاد منقوله «لاتنقض اليقين بالشكّ» التعبّد بأنّ هذا المائع خمر وإحراز الموضوعفقط، والحرمة تستفاد من دليل آخر، مثل:كلّ خمر حرام، وارتداد منكرحرمته من دليل ثالث، فلا يرتبط حكم الأثر وحكم أثر الأثر بدليلالاستصحاب، كما لا يخفى، بل كلّ أثر شرعي يصير موضوعاً لأثر من بعده،
- (1) كفاية الاُصول 2: 325.
(صفحه 245)
وهكذا إلى سائر الآثار الشرعيّة الطوليّة.
ولا يتوهّم جريان هذا المعنى في الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازمالعقليّة والعاديّة أيضا، فإنّه لادليل لنا لإحراز نفس اللوازم، لابالعلم ولبالبيّنة ولا بالتعبّد؛ لمحدوديّة دائرة دليل التعبّد بالمتعبّد به ـ أي المتيقّنوالمشكوك ـ فلا يتعدّي عمّا يترتّب عليه بلا واسطة، فإذا اُحرزت حياة زيدبالاستصحاب يترتّب عليها حرمة التزويج بزوجته، وحرمة تقسيم أمواله،وأمّا نبات لحيته أو بياض لحيته أو كونه في السنّ كذا، فلا يحرز لنا بأيّ دليلحتّى يترتّب عليها آثارها الشرعيّة، وهذا دليل الافتراق بين الآثار الشرعيّةالمترتّبة على الآثار الشرعيّة، والآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّةوالعاديّة.
وهكذا في الاستصحاب الموضوعي إن كان لملازم المستصحب أثر شرعيّلاترتّب عليه؛ لمحدوديّة دائرة دليل التعبّد بأحد المتلازمين العقليّين ولا يتعدّىعنه.
نعم، إذا كانت الملازمة شرعيّة يترتّب الأثر الشرعي لأحد المتلازمين علىاستصحاب الملازم الآخر، كما أنه يترتّب في الاستصحاب الحكمي الأثرالشرعي لأحد المتلازمين على استصحاب الملازم الآخر.
وإن كانت الملازمة عقليّة مثل ترتّب الأثر الشرعي للمقدّمة علىاستصحاب وجوب ذي المقدّمة وهكذا إذا كان لملزوم المستصحب أثر شرعيّلايترتّب على استصحاب اللازم، إذ لا دليل لإثبات الملزوم والتعبّد به، وبعدانحصار دليل التعبّد بالمتعبّد به فكيف تترتّب آثار الملزوم؟
تكميل: في استثناء الوسائط الخفيّة
(صفحه246)
من الاُصول المثبتة إذا كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعيخفيّة يجري الاستصحاب ويترتّب عليه الأثر، ولا يكون من الاُصول المثبتة،والمراد من خفاء الواسطة، فإنّ العرف ـ ولو بالنظر الدقيق ـ لايرى وساطةالواسطة في ترتّب الحكم على الموضوع، ويكون لدى العرف ثبوت الحكمللمستصحب من غير واسطة، وإنّما يرى العقل بضرب من البرهان كون الأثرمترتّباً على الواسطة لبّاً وإن كان مترتّباً على ذي الواسطة.
وذكر اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله مثالا له ولكنّه خارج عن محلّ البحث إلاّ أنّهمبيّن لخفاء الواسطة وعلّة جريان الاستصحاب فيه.
وهو: أنّ الشارع إذا قال: «حرّمت عليكم الخمر». يكون الموضوع للحرمةهو الخمر عرفا، لكنّ العقل يحكم بأنّ ترتّب الحرمة على الخمر لايمكن إللأجل مفسدة قائمة بها تكون تلك المفسدة علّة واقعيّة للحرمة.
ثمّ لو فرض أنّ العقل اطّلع على جميع الخصوصيّات الواقعيّة للخمر وحكمبالدوران والترديد أنّ العلّة الواقعيّة للحرمة هي كونها مسكرة ـ مثلاً ـ فيحكمبأنّ إسكار الخمر علّة لثبوت الحكم بالحرمة، ثمّ يحكم بأنّ موضوع الحرمةليس هو الخمر بحسب الملاكات الواقعيّة، بل الموضوع هو المسكر بما أنّهمسكر، ولمّا كان متّحداً في الخارج مع الخمر حكم بحرمته بحسب الظاهر،ولكن الموضوع الواقعي ليس إلاّ حيثيّة المسكريّة؛ لأنّ الجهات التعليليّة هيالموضوعات الواقعيّة لدى العقل، فإذا علم أنّ مائعاً كان خمراً سابقاً وشكّ فيبقاء خمريّته فلا إشكال في جريان استصحاب الخمريّة وثبوت الحرمة له.
ولايصحّ أن يقال: إنّ استصحاب الخمريّة لايثبت المسكريّة التي هيموضوع الحكم لدى العقل إلاّ بالأصل المثبت؛ لأنّ ترتّب الحرمة إنّما يكونعلى المسكر أوّلاً وبالذات وعلى الخمر ثانيا وبالواسطة، وليس المراد بخفاء