(صفحه246)
من الاُصول المثبتة إذا كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعيخفيّة يجري الاستصحاب ويترتّب عليه الأثر، ولا يكون من الاُصول المثبتة،والمراد من خفاء الواسطة، فإنّ العرف ـ ولو بالنظر الدقيق ـ لايرى وساطةالواسطة في ترتّب الحكم على الموضوع، ويكون لدى العرف ثبوت الحكمللمستصحب من غير واسطة، وإنّما يرى العقل بضرب من البرهان كون الأثرمترتّباً على الواسطة لبّاً وإن كان مترتّباً على ذي الواسطة.
وذكر اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله مثالا له ولكنّه خارج عن محلّ البحث إلاّ أنّهمبيّن لخفاء الواسطة وعلّة جريان الاستصحاب فيه.
وهو: أنّ الشارع إذا قال: «حرّمت عليكم الخمر». يكون الموضوع للحرمةهو الخمر عرفا، لكنّ العقل يحكم بأنّ ترتّب الحرمة على الخمر لايمكن إللأجل مفسدة قائمة بها تكون تلك المفسدة علّة واقعيّة للحرمة.
ثمّ لو فرض أنّ العقل اطّلع على جميع الخصوصيّات الواقعيّة للخمر وحكمبالدوران والترديد أنّ العلّة الواقعيّة للحرمة هي كونها مسكرة ـ مثلاً ـ فيحكمبأنّ إسكار الخمر علّة لثبوت الحكم بالحرمة، ثمّ يحكم بأنّ موضوع الحرمةليس هو الخمر بحسب الملاكات الواقعيّة، بل الموضوع هو المسكر بما أنّهمسكر، ولمّا كان متّحداً في الخارج مع الخمر حكم بحرمته بحسب الظاهر،ولكن الموضوع الواقعي ليس إلاّ حيثيّة المسكريّة؛ لأنّ الجهات التعليليّة هيالموضوعات الواقعيّة لدى العقل، فإذا علم أنّ مائعاً كان خمراً سابقاً وشكّ فيبقاء خمريّته فلا إشكال في جريان استصحاب الخمريّة وثبوت الحرمة له.
ولايصحّ أن يقال: إنّ استصحاب الخمريّة لايثبت المسكريّة التي هيموضوع الحكم لدى العقل إلاّ بالأصل المثبت؛ لأنّ ترتّب الحرمة إنّما يكونعلى المسكر أوّلاً وبالذات وعلى الخمر ثانيا وبالواسطة، وليس المراد بخفاء
(صفحه 247)
الواسطة أنّ العرف يتسامح وينسب الحكم إلى الموضوع دون الواسطة معرؤيتها؛ لأنّ الموضوع للأحكام الشرعيّة ليس ما يتسامح فيه العرف، بلالموضوع للحكم هو الموضوع العرفي حقيقة ومن غير تسامح، فالدم الحقيقيبنظر العرف موضوع للنجاسة، فإذا تسامح وحكم على ما ليس بدم عنده أنّهدم لايكون موضوعاً لها، كما أنّه لو حكم العقل بالبرهان بكون شىء¨ دماً أوليس بدم لايكون متّبعاً؛ لأنّ الموضوع للحكم الشرعي مايكون موضوعلدى العرف.
والسرّ في ذلك: أنّ الشارع لايكون في إلقاء الأحكام على الاُمّة إلاّ كسائرالناس، ويكون في محاوراته وخطاباته كمحاورات بعض النّاس بعضا، فكمأنّ المقنّن العرفي إذا حكم بنجاسة الدّم لايكون موضوعها إلاّ مايفهمه العرفمفهوما ومصداقا، فلا يكون اللون دما عنده وليس موضوعا لها، كذلكالشارع بالنسبة إلى قوانينه الملقاة إلى العرف، فالمفهومات عرفيّة وتشخيصمصاديقها أيضا كذلك(1).
ولكن عرفت خروج هذا المثال عن محلّ البحث؛ لأنّ للواسطة العقليّة ـ أيمسكريّة هذا المائع ـ حالة سابقة وجوديّة، وتكون قابلة للاستصحاببالاستقلال ويترتّب عليه الحرمة بدون الاحتياج إلى استصحاب الخمريّة،ومحلّ البحث فيما لايكون الأثر العقلي قابلاً للاستصحاب مستقلاًّ.
ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمهالله ذكر مثالين لخفاء الواسطة بقوله: «منها: ما إذاستصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر، فإنّه لايبعد الحكمبنحاسته مع أنّ تنجسّه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا، بل من أحكامسراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة.
- (1) الاستصحاب: 158 ـ 159.
(صفحه248)
ومن المعلوم أنّ استصحاب رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائيّ قابلللتأثير لايثبت تأثّر الثوب وتنجسّه بها»(1).
ويرد عليه: أنّ الواسطة بالنظر العرفي الدقيق جليّة؛ إذ العرف يلتفت بأدنىتأمّل إلى أنّ السّراية مؤثّرة في تنجّس الملاقي لا الرطوبة، ومعلوم أنّ السّرايةلازم عقلي للرطوبة، فلا يمكن إثبات الأثر المترتّب على السراية باستصحابالرطوبة، وهذا من موارد الاُصول المثبتة.
هذا بالنسبة إلى مثاله الأوّل، وأمّا مثاله الثاني فهو ما ذكره بقوله: «ومنها:أصالة عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ المثبت لكون غده يوم العيد،فيترتّب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل وغيرهما، فإنّ مجرّد عدم الهلالفي يوم لايثبت آخريّة اليوم ولا أوّليّة غده للشهر اللاحق، لكنّ العرفلايفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّالإلاّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر وأوليّة غده لشهر آخر»(2).
ولكن حلّ المسألة منه رحمهالله بخفاء الواسطة وقع مورد البحث والإشكال عندالمحقّقين؛ إذ لايمكن باستصحاب عدم خروج شهر رمضان إثبات كون اليومالذي بعده أوّل شهر شوّال إلاّ بالقول بتركّب عنوان الأوّليّة من جزئين؛أحدهما: وجودي، وهو كون هذا اليوم من شوّال، وثانيهما: عدمي، وهوعدم مضيّ يوم آخر منه قبله فيثبت بالاستصحاب المذكور كون هذا اليومأوّل شوّال؛ لأنّ الجزء الأوّل محرز بالوجدان، والجزء الثاني يحرز بالأصل،فبضميمة الوجدان إلى الأصل يتمّ المطلوب.
وأمّا على القول بكونه أمراً بسيطاً منتزعاً من وجود يوم من الشهر غير
- (1) فوائد الاُصول 2: 783.
(صفحه 249)
مسبوق بيوم آخر منه، فلا يمكن إثبات هذا العنوان البسيط بالاستصحابالمذكور إلاّ على القول بالأصل المثبت، فإنّ الأوّليّة بهذا المعنى لازم عقليللمستصحب وغير مسبوق باليقين، وحيث إنّ التحقيق بساطة معنى الأوّليّةبشهادة العرف لايمكن إثباتها بالاستصحاب المزبور.
وقد التزم المحقّق النائيني رحمهالله في مقام دفع الإشكال بأنّ اليوم الأوّل فيموضوع الأحكام غير اليوم الأوّل الواقعي، فإنّه عبارة عن يوم رؤية الهلالأو اليوم الواحد والثلاثين من الشهر الماضي، فالمراد من ثامن ذي الحجّة هوالثامن من رؤية الهلال أو ما بعد انقضاء ثلاثين يوماً من ذي القعدة، سواء كانمطابقاً للواقع أو لا(1).
ولكنّه لايكون طريقاً مناسباً لحلّ الإشكال؛ إذ ما من مسلم إلاّ ويعلمبالضرورة أنّ يوم عيد الفطر هو اليوم الأوّل الواقعي من شوّال، ويوم عيدالأضحى هو اليوم العاشر الواقعي من ذى الحجّة، وهكذا.
وكان لاُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله طريق آخر لحلّ الإشكال، وهو؛ أنّ بناءالمسلمين من صدر الإسلام إلى الآن على ترتيب آثار العيد على يوم رؤيةالهلال، ويجعلون يوم الرؤية أو اليوم الذي بعد يوم الشكّ أو الذي بعد انقضاءثلاثين يوماً من الشهر السابق اليوم الأوّل، وثانيه الثاني، وهكذا لامن جهةأنّ موضوع الحكم الشرعي غير الموضوع الواقعي، فإنّه ضروري البطلان، بللأنّ هذا حكم ظاهري ثابت من الصدر الأوّل إلى الآن من غير إشكال فيجميع الطبقات(2).
- (1) فوائد الاُصول 4: 500.
(صفحه250)