(صفحه 269)
لاستصحاب العدم في واحد؛ للمعارضة باستصحاب العدم في آخر لتحقّقأركانه في كلّ منها، مع أنّا نعلم إجمالاً ببطلان أحد الاستصحابات؛ إذ لايمكننفي تقدّم هذا الحادث وتقارنه وتأخّره بالنسبة إلى الحادث الآخر.
و هكذا إذا كان الأثر لوجود كلّ من الحادثين بنحو خاصّ، فلا مجاللاستصحاب العدم.
و أمّا إذا كان الأثر لتقدّم أحد الحادثين وتأخّره دون تقارنه مع الحادثالآخر فلا مانع من جريان استصحاب تقدّمه وتأخّره معاً؛ إذ لايتحقّق العلمالإجمالي بكذب أحد الاستصحابين.
و أمّا إذا كان الأثر لتقدّم أحد الحادثين وتقارن الآخر فيجري كلالاستصحابين وينفى تقدّم الحادث الأوّل وتقارن الحادث الثاني، فيستفاد تقدّمالحادث الثاني مثلاً.
فالمعيار لعدم جريان الاستصحاب وجريانه في مجهولي التاريخ تحقّق العلمالإجمالي بالكذب أو العلم بعدم قابليّة الاجتماع في الخارج، وعدمه.
و أمّا إن كان الأثر مترتّباً على ما إذا كان متّصفاً بالتقدم أو بأحد ضدّيهالذي كان مفاد كان الناقصة، مثل قولنا كان موت الوالد المفروض تحقّقهمتقدّما على موت الولد موضوعاً للأثر الشرعي، فلا مورد ههنللاستصحاب؛ لعدم اليقين السابق فيه بلا ارتياب؛ إذ اليقين بأنّ موت زيد كانمتّصفا بالتقدّم، أو غير متّصف به لايمكن تحقّقه حتّى يجري استصحاب العدمأو الوجود، إلاّ على القول بصحّة جريان استصحاب العدم في القضيّة السالبةبانتفاء الموضوع، كقولنا: ليس موت الوالد متقدّما على موت الولد قبل تحقّقالحادثة وعدم الموت، ونستصحب بعد تحقّق الموضوع ـ أي الموت ـ وزمانالشكّ في التقدّم والتأخّر عدم التقدّم السابق الآن.
(صفحه270)
كما قال صاحب الكفاية رحمهالله في باب العامّ والخاصّ بجريان استصحاب عدمقرشية المرأة على هذا الأساس، لكنّه في ما نحن فيه عدل عن هذا المبنىواختار عدم جريانه في مفاد كان الناقصة والقضيّة السالبة بانتفاء الموضوع؛لعدم صدق اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، كما هو التحقيق.
هذا كلّه بالنسبة إلى الأثر المترتّب على وجود خاصّ لأحد الحادثين أوكليهما.
وأمّا إذا كان الأثر الشرعي لعدم أحد الحادثين في زمان وجود الآخر،وكان العدم موضوعاً للأثر بنحو مفاد ليس الناقصة الذي يعبّر عنه بالعدمالنعتي كقولنا: ليس موت الوالد متّصفاً بالتقدّم على موت الولد، فلا يجريالاستصحاب فيه؛ لفقدان الحالة السابقة المتيقّنة، وإن كان بنحو مفاد ليسالتامّة الذي يعبّر عنه بالعدم المحمولي، وحينئذ قد يكون عدم كلّ من الحادثينموضوعاً لأثر في زمان حدوث الآخر، وقد يكون عدم أحدهما موضوعللأثر، فإن كان عدم كليهما موضوعاً للأثر فلا يجري استصحاب العدم أصلاً؛لتحقّق التعارض بين الاستصحابين والتساقط عند الشيخ الأنصاري رحمهالله ، وعدمتماميّة أركان الاستصحاب عند صاحب الكفاية رحمهالله .
وأمّا إن كان عدم أحدهما موضوعاً للأثر في زمان وجود الآخر فيجريالاستصحاب؛ لعدم المعارضة عند الشيخ رحمهالله ، ولا يجري؛ لعدم تماميّة الأركانعند صاحب الكفاية رحمهالله .
وأمثلته كثيرة:
منها: مالو علمنا بكرّيّة الماء القليل وملاقاته النجس، وشككنا في تقدّمالكرّيّة على الملاقاة وتأخّرها عنها، وما هو موضوع للأثر الشرعي عبارة عنعدم الكرّيّة في زمان الملاقاة من الانفعال والنجاسة، ولا أثر لعدم الملاقاة في
(صفحه 271)
زمان الكرّيّة.
ومنها: ما لو علمنا بموت الوالد واسلام الولد، وشككنا في تقدّم موت الوالدعلى إسلام الولد وتأخّره عنه، ويترتّب الأثر على عدم إسلام الولد إلى زمانموت الوالد، وهو عدم إرثه منه، ولا أثر لعدم موت الوالد إلى زمان إسلامالولد.
ففي مثل هذه الأمثلة يجري الاستصحاب على مسلك الشيخ رحمهالله في أحدالطرفين لعدم المعارض؛ لعدم الأثر للاستصحاب في الطرف الآخر.
ولا يجري الاستصحاب على مذهب صاحب الكفاية رحمهالله وتوضيح كلامهيحتاج إلى بيان مقدّمتين:
الاُولى: المعتبر في الاستصحاب اتّصال زمان الشكّ باليقين، بمعنى أنلايتخلّل بين اليقين المتعلّق بشىء وبين الشكّ في بقائه يقين آخر مضادّ له، فإنّهمع تخلّل اليقين المضادّ لايعقل الشكّ في البقاء؛ لعدم صدق نقض اليقين بالشكّبالنسبة إلى اليقين الأوّل، بل يصدق نقض اليقين باليقين، فالمقصود من زماناليقين والشكّ هو زمان المتيقّن والمشكوك لازمان نفس صفة اليقين والشكّ.
الثانية أنّه مرّ في باب العامّ والخاصّ أنّ التمسّك بالعامّ في شبهة مصداقيّةالمخصّص ليس بجائز عند أكثر المحقّقين، بخلاف بعض، مثل صاحب العروة رحمهالله ،وأمّا التمسّك بالدليل في شبهة مصداقيّة نفس الدليل فلا شكّ في عدم جوازه؛لعدم إمكان إثبات شبهة مصداقيّة الدليل بنفس الدليل، فإن شككنا في صدقنقض اليقين بالشكّ وعدمه في مورد لايجوز التمسّك بقوله: «لاتنقض اليقينبالشكّ» لإحرازه، فإنّه أيضا من قبيل التمسّك بالدليل في شبهة مصداقيّته.
إذا عرفت ذلك فنقول: لابدّ لنا من فرض أزمنة ثلاثة: زمان اليقين بعدمحدوث كلا الحادثين، وزمان حدوث أحدهما بلا تعيين، وزمان حدوث
(صفحه272)
الآخر كذلك، فنفرض أنّ الماء كان قليلاً بدون الملاقاة والكرّيّة في يومالخميس، فعدم الكرّيّة وعدم الملاقاة كلاهما متيقّن يوم الخميس، وعلمنبحدوث أحدهما لا بعينه يوم الجمعة، وبحدوث الآخر يوم السبت، ولا ندريأنّ الحادث يوم الجمعة، هي الملاقاة حتّى ينفعل الماء، أو الكرّيّة حتّى لاينفعل؛إذ الملاقاة بعد الكرّيّة لاتوجب الانفعال، فإن لوحظ الشكّ في حدوث كلّ منالحادثين بالنسبة إلى عمود الزمان يكون زمان الشكّ متّصلاً بزمان اليقين،فإنّ زمان اليقين بالعدم يوم الخميس، وزمان الشكّ في حدوث كلّ واحد منالحادثين يوم الجمعة، وهمامتّصلان، فلا مانع من جريان استصحاب عدمالكرّيّة يوم الجمعة.
إلاّ أنّه لا أثر لهذا الاستصحاب، فلابدّ من جريان استصحاب عدم الكرّيّةفي زمان حدوث الملاقاة، وزمان حدوث الملاقاة مردّد بين الجمعة والسبت،فإن كان حدوثها يوم الجمعة فزمان الشكّ متّصل بزمان اليقين، وإن كان يومالسبت فزمان الشكّ غير متّصل بزمان اليقين؛ لأنّ زمان اليقين يوم الخميسعلى الفرض، وزمان الشكّ يوم السبت، فيوم الجمعة فاصل بين زمان اليقينوزمان الشكّ؛ إذ معناه تحقّق الكرّيّة يوم الجمعة، فإن كان كذلك انتقض اليقينبعدم الكرّيّة، ومع احتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين لامجال للتمسّكبدليل حجّيّة الاستصحاب؛ لما عرفت من أنّ الشبهة مصداقيّة. هذا محصّلكلام صاحب الكفاية رحمهالله (1).
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ الشبهة المصداقيّة فيما إذا ارتبط أحد طرفي الاحتمالبعنوان الدليلالآخر المخالف له، كما إذا قال المولى: «أكرم العلماء» وشككنا فيعالميّة زيد، نقول يحتمل أن يكون عالماً فينطبق عليه عنوان الدليل، ويحتمل
- (1) كفاية الاُصول 2: 335 ـ 336.
(صفحه 273)
أن لايكون عالماً فلا ينطبق عليه العنوان.
و هذا المعنى لايتحقّق فيما نحن فيه، فإنّ شبهة مصداقيّة قوله: «لاتنقضاليقين بالشكّ» فيما يحتمل أن يكون نقضاً لليقين بالشكّ، ويحتمل أن لايكونكذلك، ولا ينطبق هذا المعنى في مانحن فيه؛ إذ الملاقاة إن حدثت يوم السبتمعناه حدوث الكرّيّة يوم الجمعة، فليس هنا نقض اليقين بالشكّ، بل نقضاليقين باليقين بالكرّيّة، وإن حدثت يوم الجمعة معناه حدوث الكرّيّة يومالسبت، فليس في يوم الجمعة نقض اليقين بالشكّ بل يستمرّ اليقين، فالأمردائر بين اليقين بالوفاق واليقين بالخلاف، فلا تتحقّق هنا شبهة مصداقيّة قوله:«لاتنقض اليقين بالشكّ»، هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّه يتولّد الشكّ من اليقينين الموجودين في القضيّتين التعليقيّتين، كمإذا علمنا بأنّ زيداً إن ركب السيّارة الفلانيّة فقد مات قطعا، وإن لم يركب فهوحي قطعا، فاحتمال ركوب السيّارة وعدمه صار منشأ للشكّ في بقاء حياته،ولا يضرّ باستصحاب حياته، وكذا العلم بحدوث الكرّيّة والعلم بحدوثالملاقاة في يوم الجمعة ويوم السبت يوجبان الشكّ بتحقّق الكرّيّة في زمانالملاقاة وعدمه، فلا مانع من استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة.
وثالثاً: ماذكره عدّة من المحقّقين منهم اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله وملخّصه: أنّالعناوين المأخوذة في أدلّة الموضوعات قد تكون من العناوين الواقعيّةالخارجيّة ـ كالخمر والعدالة ونحو ذلك إلاّ أنّ واقعيّة كلّ شىء بحسبه ـ وقدتكون من الاُمور الوجدانيّة ـ كاليقين والظنّ والشكّ ـ ولا يخفى أنّ الشبهةالمصداقيّة قابلة للتصوّر وأمرمعقول في القسم الأوّل، أي العناوين الواقعيّةالخارجيّة، بخلاف القسم الثاني، أي الاُمور الوجدانيّة؛ إذ لايمكن أن يكونالإنسان شاكّاً في أنّ له يقيناً بأمر كذائي أو لا أو أنّ له شكّاً بأمر كذائي أو لا،