(صفحه274)
إلاّ من بعض أهل الوسوسة الشاكّين في وجدانيّاتهم، وهو خارج عن محلّالكلام، ولا بدّ من تصوّر الشبهة المصداقيّة في الاُمور الوجدانيّة بهذه الكيفيةـ أي الشكّ في أنّ الشكّ حصل له أم لا ـ وهو أمر غير معقول، فإنّ أمرها دائربين الوجود والعدم ولا تقبل الترديد، فلا تتصوّر الشبهة المصداقيّة في الاُمورالوجدانيّة، فلا يعقل الشكّ في عدم اتّصال الشكّ اللاحق واليقين السابق بحيثيصير الإنسان شاكّاً في تخلّل يقين بالضدّ بين اليقين السابق والشكّ اللاحقفعلاً؛ لأنّ الملاك أن يكون الإنسان حين الجريان شاكّاً ومتيقّناً ومتّصلاً زمانشكّه بيقينه بحسب حاله فعلاً، والوجدان شاهد بتحقّق اليقين بعدم الكرّيّة يومالخميس وتحقّق الشكّ في بقائه إلى زمان الملاقاة حين الجريان.
ويمكن أنّ يتوهّم تحقّق الشبهة المصداقيّة لقوله«لاتنقض اليقين بالشكّ»بالصورة التالية: لو علم المكلّف بأنّه كان مجنباً في أوّل النهار وتطهّر منهجزماً، ثمّ نام ورأى في ثوبه منيّاً بعد الانتباه، وعلم إجمالاً بأنّه إمّا من جنابتهالتي قطع بارتفاعها بالغسل أو من جنابة جديدة، فيكون إجراء استصحابالجنابة المقطوعة الموجبة لتلوّث الثوب ممنوعاً؛ لعدم إحراز اتّصال زمانالشكّ باليقين؛ لأنّ الجنابة أمرها دائر بين التي قطع بزوالها وبين التي قطعببقائها، فيحتمل الفصل بين زمان الشكّ واليقين بحصول الجنابة بيقين بزوالها،فهذا من قبيل عدم إحراز الاتّصال.
وجوابه: أنّ هذا لايكون من قبيل ذلك؛ لأنّ عدم إجراء الاستصحاب فيهليس لعدم إحراز الاتّصال، بل لعدم اليقين السابق لاتفصيلاً ولا إجمالاً، أمّالأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلأنّ كون هذا المنيّ في الثوب من جنابة معلومةبالتفصيل أو الإجمال ممّا لا أثر له، بل الأثر مترتّب على العلم بكون المكلّفكان جنباً تفصيلاً أو إجمالاً، فشكّ في بقائها،والمفروض أنّه يعلم تفصيل
(صفحه 275)
بحصول الجنابة له أوّل النهار وزوالها بالغسل بعده، ويشكّ بدواً في حصولجنابة جديدة له، فأين العلم الإجمالي حتّى يستصحب؟ فعلمه الإجمالي ممّا لأثر له، وما له أثر لايعلم به.
إن قلت: إنّه يعلم بكونه جنباً بعد خروج الأثر المردّد ولم يعلم بارتفاعها،فيحكم ببقاء الجنابة بالاستصحاب.
قلت: لايجري الاستصحاب الشخصي فيه؛ لدوران الشخص بين جنابةأوّل النهار وجنابة بعد الزوال، والاُولى مقطوعة الزوال، والثانية محتملةالحدوث، فعدم الجريان لعدم تماميّة أركانه في شيء منهما.
وربما يقال بجريان الاستصحاب هنا بنحو كليّ القسم الثاني المردّد بينمقطوع الزوال ومقطوع البقاء.
وجوابه: أنّ الأمر في استصحاب كلّي القسم الثاني مردّد من حيث المصداقبأنّ فرداً واحدا منه تحقّق من الابتداء في ضمن طويل العمر أو في ضمنقصير العمر، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الأمر دائر هنا بين فردين، أحدهممقطوع الارتفاع والآخر مشكوك الحدوث.
نعم، يمكن جريان الاستصحاب هنا بنحو كلّي القسم الثالث بأن يحتملحدوث الجنابة الثانية عند زوال الاُولى مقارناً له، فلا مانع من استصحابكلّي الجنابة في هذه الصورة.
فلا يرتبط عدم جريان الاستصحاب في غيرها بإحراز اتّصال زمان الشكّباليقين وعدمه أصلاً(1).
ومن الموارد التي يتوهّم أنّها من الشبهة المصداقيّة لدليل الاستصحاب منحيث اعتبار عدم تخلّل يقين آخر بين اليقين السابق والشكّ اللاحق فل
- (1) الاستصحاب: 172 ـ 173.
(صفحه276)
لايجري الاستصحاب، هو ما إذا علمنا بعدالة زيد ـ مثلاً ـ في زمان وشككنفي بقائها الآن، ولكن نحتمل كوننا متيقّنين بفسقه بعد اليقين بعدالته، فلا يجرياستصحاب العدالة؛ لاحتمال تخلّل اليقين بالفسق بين اليقين بالعدالة والشكّ فيبقائها، فتكون الشبهة مصداقيّة.
وجوابه: أنّه لايعتبر في الاستصحاب سبق اليقين على الشكّ، بل يكفيحدوثهما معا، فمع فرض اليقين الفعلي بحدوث العدالة في زمان والشكّ في بقائهلايمنع من جريان الاستصحاب احتمال وجود اليقين بفسقه سابقاً، بل لايقدحفي الاستصحاب اليقين بوجود اليقين بفسقه مع احتمال كون اليقين بالفسقمخالفاً للواقع، فضلاً عن احتمال اليقين بفسقه، فإذا علمنا يوم الجمعة بعدالةزيد، ثمّ علمنا بفسقه يوم السبت، ثمّ تبدّل اليقين بفسقه بالشكّ الساري فيهيوم الأحد، فيوم الأحد نعلم بحدوث عدالته يوم الجمعة ونشكّ في بقائها الآن؛لاحتمال كون اليقين بفسقه يوم السبت مخالفاً للواقع، فباعتبار هذا اليقين الفعلييوم الأحد بحدوث العدالة يوم الجمعة والشكّ في بقائها يجري الاستصحاب،ولا يقدح فيه اليقين بالفسق بعد تبدّله بالشكّ الساري، فكيف باحتمال اليقينبالفسق؟
مضافاً إلى أنّنا ذكرنا فيما تقدّم أنّ الشبهة المصداقيّة في الاُمور الوجدانيّةغير قابلة للتصوّر، فلا مانع من جريان الاستصحاب في المثال. والشكّالساري الذي يعبّر عنه بقاعدة اليقين لايكون مانعاً؛ لعدم اعتباره كما يأتي فيمحلّه.
و مضافاً إلى أنّه لو كان احتمال اليقين مانعاً عن جريان الاستصحاب لمنعمنه في كثير من الموارد التي لايلتزم بعدم جريان الاستصحاب فيها أحد،وهي الموارد التي يكون ارتفاع المتيقّن السابق فيها مستلزماً للعلم بالارتفاع،
(صفحه 277)
فيكون احتمال الارتفاع ملازماً لاحتمال العلم بالارتفاع، كما إذا كان زيد محدثوشكّ في الطهارة من الوضوء أو الغسل، فإنّ احتمال ارتفاع الحدث بالوضوءأو الغسل ملازم لاحتمال العلم؛ لأنّ الوضوء والغسل من الاُمور العباديّة التيلايمكن تحقّقها إلاّ مع العلم والالتفات، فلابدّ من القول بعدم جريانالاستصحاب على المبنى المذكور؛ لاحتمال العلم بالانتقاض، ولا يلتزم به أحد.
ومن الموارد التي يتوهّم أنّها من الشبهة المصداقيّة ما ذكره المحقّق النائينيردّاً على السيّد رحمهالله في العروة، وبيانه: أن السيّد رحمهالله ذكر في العروة: أنّه إذا علمنبنجاسة إنائين ـ مثلاً ـ ثمّ علمنا بطهارة أحدهما، فيتصوّر ذلك بصور ثلاث:الاُولى: أن نعلم بطهارة أحدهما علماً تفصيليّاً، فاشتبه الطاهر المعلوم بالتفصيلبغيره.
الثانية: أن نعلم بطهارة أحدهما لابعينه بحيث لايكون للطاهر تعيّن وامتيازبوجه من الوجوه، بل يمكن أن لايكون له في الواقع أيضا تعيّن، كما إذا كانكلاهما طاهراً في الواقع.
الثالثة: أن نعلم بطهارة أحدهما بعنوان معيّن ونشكّ في انطباقه، كما لوعلمنبطهارة إناء زيد وشككنا في انطباق هذا العنوان على هذا الإناء أو ذاك.
و حكم السيّد رحمهالله بنجاسة الإنائين في جميع هذه الصور الثلاث؛ عملبالاستصحاب.
ولا يخفى أنّ الدليل لعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي قديكون لزوم التناقض في الدليل صدراً وذيلاً، كما في قوله: «لاتنقض اليقينبالشكّ أبدا، بل انقضه بيقين آخر»، فيحكم صدر الدليل بنجاسة الإنائينبالاستصحاب، وذيله بطهارة أحدهما للعلم الإجمالي، وقد يكون لزوم المخالفةالعمليّة مع التكليف المعلوم بالإجمال، وعلى هذا لايجري الاستصحاب فيم
(صفحه278)
كانت الحالة السابقة في الإنائين عبارة عن الطهارة، فإنّ جريان استصحابالطهارة في كليهما يوجب المخالفة العمليّة مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما،بخلاف ما إذا كانت الحالة السابقة فيهما عبارة عن النجاسة كما في ما نحن فيه،فإنّ استصحاب نجاستهما والاجتناب عنهما لايوجب المخالفة، وهذا المبنىاختاره صاحب العروة في ما نحن فيه ولذا قال بجريان استصحاب النجاسة.
و ردّ عليه المحقّق النائيني رحمهالله واختار عدم جريان الاستصحاب في جميعها،لكن لا بمناط واحد، بل حكم بعدم جريانه في الصورة الاُولى والثالثة، لكونالشبهة مصداقيّة، فإنّا نعلم بانتقاض اليقين بالنجاسة بالطهارة بالنسبة إلىأحد الإنائين، إمّا باليقين التفصيلي ـ كما في الصورة الاُولى ـ وإمّا باليقينالمتعلّق بعنوان معيّن شككنا في انطباقه ـ كما في الصورة الثالثة ـ فلا مجاللجريان الاستصحاب في شيء من الإنائين؛ لأنّ كلّ واحد منهما يحتمل أنيكون هو الإناء الذي انتقض العلم بنجاسته بالعلم بطهارته.
وأمّا الصورة الثانية فحكمه بعدم جريان الاستصحاب فيها ليس مبنيّاً علىاحتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين بيقين آخر ـ كما في الصورة الاُولىوالثالثة ـ فإنّ الشكّ في بقاء النجاسة في كلّ منهما متّصل باليقين بالنجاسة، ولميتخلّل بين زمان اليقين وزمان الشكّ يقين آخر، والعلم الإجمالي بطهارةأحدهما لابعينه يكون منشأ للشكّ في بقاء النجاسة في كلّ منهما، بخلافالصورة الاُولى والثالثة، فإنّ منشأ الشكّ في بقاء النجاسة فيهما هو اجتماعالإنائين واشتباه الطاهر بالنجس، لا العلم بطهارة أحدهما، فإنّ متعلّق العلمكان معلوماً بالتفصيل أو بالعنوان، فحكمه بعدم جريان الاستصحاب فيالصورة الثانية مبنيّ على أنّ العلم الإجمالي بنفسه مانع عن جريانالاستصحاب، ولو لم تلزم منه مخالفة عمليّة قطعيّة. هذا ملخّص مختاره رحمهالله (1).