(صفحه 301)
و أمّا إذا جعل مستمرّا أو دائماً أو أبدا ظرفاً للحكم فلأنّ خروج بعضالأفراد في بعض الأيام ليس تخصيصاً في العموم الأفرادي بل تقييداً وتقطيعللاستمرار الذي قامت الحجّة عليه وتردّد أمره بين الأقل والأكثر، ولا بدّ منالاكتفاء بالأقلّ، فيكون ظهور الاستمرار في البقية حجّة.
كما في قوله: «أكرم العلماء مستمرّا» ينحلّ إلى عموم أفرادي يدلّ عليهالجمع المحلّى باللام وإلى استمرار الحكم الذي يدلّ عليه ظهور القيد الذي قاممقام مقدّمات الحكمة في بعض المقامات، فيكون قوله: «لا تكرم زيدا»تخصيصاً للعموم الأفرادي، و«لا تكرمه يوم الجمعة» تقطيعاً لاستمرار الحكم،وكما يكون العموم حجّة في البقية لدى العقلاء يكون ظهور القيد في استمرارالحكم حجّة فيما عدا مورد التقطيع القطعي لديهم، سواء اُخذ الزمان في الدليلالمخصّص على نحو القيديّة أو الظرفيّة.
ثمّ قال: وممّا ذكرنا يعلم حال الإطلاق المستفاد من دليل الحكمة، فلوفرض أنّ قوله «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»، كما يدلّ بالعموم اللغوي على الشمولالأفرادي يدلّ على الاستمرار الزماني بمقدّمات الحكمة أو مناسبة الحكموالموضوع بمعنى أن لزوم الوفاء بكلّ عقد مستمرّ لامن قبيل العامّ المجموعيبل بحيث تكون المخالفة في بعض الأزمان لاتوجب سقوط المطلوبيّة بالنسبةإلى البقية، ثمّ دلّ دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد كالعقد الربوي يكونمخصّصاً للعموم الأفرادي، ولا يكون مقيّداً للإطلاق، بل رافعاً لموضوعه.
و أمّا لو دل دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد في زمان، كما لو انعقدالإجماع على عدم وجوب الوفاء بالعقد إذا ظهر الغبن إلى ساعة ـ مثلاً ـ يكونهذا تقييداً لإطلاقه لاتخصيصاً لعمومه؛ لأنّ التخصيص عبارة عن إخراجمايشمله العموم إخراجاً حكميّاً، والعموم اللغوي يدلّ على دخول تمام أفراد
(صفحه302)
العقود في وجوب الوفاء من غير تعرّض لحالات الأفراد وأزمانها، ودليلالمخرج لايدلّ على خروج فرد من العامّ رأسا حتّى يكون تخصيصاً، بل يدلّعلى خروجه في زمان، وهذا مخالف لظهور الإطلاق في الاستمرار، فإذا شكّفيما بعد الساعة في لزوم العقد يرجع إلى الشكّ في زيادة التقييد لا التخصص،فالمرجع هو أصالة الإطلاق».
ثمّ قال: فقول الشيخ الأعظم: «إنّه لايلزم من ذلك زيادة تخصيص إذا خرجالفرد في ساعة أو بعد الساعة مستمرّا»(1) خلط بين التخصيص والتقييد؛ لأنّخروج الفرد في ساعة تقييد لاتخصيص، وخروجه في الزائد عن الساعة تقييدزائد يدفع بالأصل.
ثمّ ذكر كلاما من للمحقّق الحائري رحمهالله بقوله: «فإن قلت: فرق بين المطلق فيسائر المقامات وههنا، فإن الأوّل يشمل ماتحته من الجزئيّات في عرضواحد، والحكم إنّما تعلّق به بلحاظ الخارج، فاستقرّ ظهور القضيّة في الحكمعلى كلّ مايدخل تحته بدلاً أو استغراقاً، فإذا خرج منفصلاً شيء بقي الباقيبنفس ظهور الأوّل المستقرّ، وفي المقام أنّ الزمان في حدّ ذاته أمر واحد مستمرّليس جامعا لأفراد كثيرة إلاّ أن يقطع بالملاحظة، وتجعل كلّ قطعة ملحوظةفي القضيّة، وأمّا إذا لم يلحظ كذلك كما إذا كان الاستمرار بمقدّمات الحكمة فلزمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره، فإذا انقطع الاستمرار بخروجفرد يوم الجمعة ـ مثلاً ـ فليس لهذا العامّ دلالة على دخول ذلك الفرد يومالسبت؛ إذ لو كان داخلاً لم يكن هذا الحكم استمراراً للحكم السابق»(2).
وأجاب عنه بقوله: وفيه: أوّلاً: أنّ المطلق في سائر المقامات أيضا لايفيد
- (1) فرائد الاُصول: 395، السطر 17.
(صفحه 303)
الحكم للأفراد، ولا يكون الحكم بلحاظ الأفراد الخارجيّة استغراقاً أو بدلاً،ولم يكن المطلق بعد تماميّة مقدّمات الإطلاق كالعام مفاداً، بل ليس مقتضىالإطلاق بعد تماميّة المقدّمات إلاّ أنّ ما اُخذ في الموضوع تمام الموضوع للحكمكما هو المقرّر في محلّه.
وثانيا: أنّ كون الزمان أمراً مستمرّا واحدا لايلازم كون مقتضى الإطلاقوحدة الحكم بحيث إذا انقطع في زمان انقطع مطلقاً، فإنّ لازم ذلك أن يكونموضوع الحكم كالعام المجموعي، ولا زمه عدم لزوم الإطاعة لو عصاه فيزمان، مع أنّ الواقع في أشباه «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» خلاف ذلك، بل فرض مثلالعموم المجموعي المقتضي لانتفاء الحكم بانتفاء جزء من الزمان خروج عنمحطّ البحث، فحينئذ لو خرج جزء من الزمان لامانع من التمسّك بالإطلاقبالنسبة إلى سائر الأزمنة، إنتهى كلامه رحمهالله بتلخيص وتوضيح منا(1).
وكان للمحقّق النائيني رحمهالله في بحث العموم الأزماني تفصيل وتحقيق، فقالبعنوان المقدّمة: إنّ العموم الأزماني المتحقّق عقيب العموم الأفرادي يكون منحيث المورد على نوعين: فإنّه قد يرتبط بنفس الحكم، وقد يرتبط بمتعلّقالحكم، فإذا قال المولى: «أكرم العلماء كلّ يوم» يتصوّر هذا القول من حيثمقام التصوّر على نوعين فقد يرتبط قوله: «كلّ يوم» بمفاد الهيئة ونفس الحكمالمستفاد من الهيئة، كأنّه قال في مقام التصريح يجب إكرام العلماء، ويكون هذالوجوب ثابتاً في كلّ يوم، وقد يرتبط بمتعلّق الحكم، أي الإكرام كأنّه قال:إكرام العلماء في كلّ يوم واجب وإن لم تترتّب عليه ثمرة عمليّة في نفسه مع قطعالنظر عن بحث التمسّك بالعامّ أو استصحاب حكم المخصّص.
فإن كان قيداً للمتعلّق ومربوطاً بالإكرام يمكن للمولى تفهيم مقصوده بجملة
- (1) الاستصحاب: 188 ـ 195.
(صفحه304)
واحدة مثل: «أكرم العلماء في كلّ يوم»، وإن كان مربوطاً بالحكم لايمكن أنيكون دليل واحد متعرّضاً له ومتكفّلاً لبيانه، فلابدّ له من القول: «أكرم كلّعالم» أوّلاً، وفي ضمن دليل منفصل آخر يقول: إنّ هذا الوجوب يكون في كلّيوم أو مستمرّا»، وأمثال ذلك.
والسّر في ذلك أنّ العموم الأزماني إن كان مربوطاً بالحكم يصير الحكمموضوعاً للعموم الأزماني، ولا يمكن أن يكون دليل واحد مبيّناً للحكمومتكفّلاً لجعل الحكم موضوعاً لحكم آخر حتّى يكون معنى قوله: «أكرمالعلماء في كلّ يوم» أنّ وجوب الإكرام ثابت للعلماء، وأنّ هذا الوجوبموضوع للاستمرار والدوام، أو يستفاد ذلك من مقدّمات الحكمة.
ثمّ قال بعد بيان هذه المقدّمة: إنّ المولى إذا قال: «أكرم العلماء في كلّ يوم»،ثمّ قال بعده: «لاتكرم زيداً يوم الجمعة» وشككنا في يوم السبت أنّه واجبالإكرام أم لا؟ يصحّ التمسّك بالعموم في فرض ارتباط العموم الأزمانيبالمتعلّق؛ إذ المتعلّق يتحقّق قبل الحكم إذا تحقّق الشكّ في شؤون المتعلّق يمكنالرجوع إلى عموم العامّ، كما هو المرجع إذا كان الشكّ في أصل التخصيص،وهكذا في التخصيص الزائد.
وأمّا في فرض ارتباط العموم الأزماني بنفس الحكم فيصير الحكم بمنزلةالموضوع للعموم الأزماني، فإذا قال المولى: «يجب إكرام العلماء»، ثمّ قال:«وهذا الوجوب مستمرّ» كان هذا الوجوب بمنزلة الموضوع، ومستمرّ بمنزلةالحكم، وفي مقابل هذين الدليلين قال: «لا تكرم زيداً العالم يوم الجمعة»وشككنا في وجوب إكرامه يوم السبت فلا يمكن التمسّك بالعموم الأزماني،فإنّ معناه الرجوع إلى قوله: «هذا الوجوب مستمر» وقلنا:إنّ «هذا الوجوب»موضوع لابدّ من إحرازه يوم السبت، ثمّ الحكم باستمراره، والمفروض أنّه في
(صفحه 305)
يوم السبت مشكوك فكيف يمكن الحكم باستمراره؟ هذا تمام كلامه رحمهالله معتوضيح منّا(1).
وأجاب عنه اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله بأنّ عدم جواز كشف الموضوعبالحكم وإثباته به إنّما هو فيما إذا تعلّق الحكم بموضوع مفروض الوجودكالقضايا الحقيقيّة، مثل: «أكرم العلماء» الذي كان حاصل مفاده: «كلّ ماوجدفي الخارج وكان عالماً يجب إكرامه» فلا يمكن في مثل تلك القضايا إثباتالموضوع بالحكم.
و أمّا إذا كان المحمول بدلالة لغوية يدلّ على وجود الحكم في جميع الأزماناستقلالاً أو على نحو الاستمرار فيكشف عن حاله، فلو قال المولى: «إنّوجوب إكرام العلماء مستمر إلى الأبد» فقد يشكّ في أصل تعلّق وجوبالإكرام بالفسّاق ـ مثلاً ـ أي يشكّ في التخصيص، فلا يكون قوله: «مستمرّ»رافعاً لهذا الشكّ، بل الرافع له قوله: «أكرم العلماء» وأمّا إذا شكّ في وجوبإكرامه في يوم كذا بعد العلم بأصل وجوب الإكرام، أي يشكّ في استمرارالحكم فيكون قوله: «حكمي مستمرّ» كاشفاً عن استمراره وتحقّقه في اليومالمشكوك فيه.
والسّر في ذلك: أنّ أصل الحكم بالنسبة إلى المحمول ـ أي قوله «مستمرّ» اُخذ مفروض الوجود كما في القضايا الحقيقيّة، وأمّا بالنسبة إلى استمراره فليمكن أن يؤخذ كذلك، لأنّه يلزم أن ترجع قضيّة: «حكمي مستمرّ» إلى قضيّةضروريّة بشرط المحمول، أي حكمي المفروض استمراره مستمر، وهوكماترى(2).
- (1) فوائد الاُصول 4: 536 ـ 540.