(صفحه 35)
الأمر بالقصر بنيّة عصيانه، كما هو غير خفيّ.
وأجاب المحقّق العراقي رحمهالله عن أصل الإشكال بأنّه لا مانع من الالتزام بتعدّدالمطلوب لتصحيح ما أتى به الجاهل المقصّر بدون الفحص بأنّ المطلوبالمطلق للمولى هو نفس الصلاة بدون دخل أيّ خصوصيّة فيها، وأنّ الجامعالصلاتي بما هو ذو مصلحة لازمة الاستيفاء، وهذه المصلحة متقوّمة بنفسعنوان الصلاة فقط، مضافا إلى أنّ له مطلوبا آخر، وهي الصلاة المخصّصةبخصوصيّة القصريّة والمتقيّدة بقيد القصريّة، وهي أيضا ذات مصلحة كاملةلازمة الاستيفاء، ولكن لايتحقّق بينهما الترتّب والطوليّة، بل كلاهما في عرضواحد، واختلافهما اختلاف الإطلاق والتقييد، واختلاف الجامع والخصوصيّة،واختلاف النوع والصنف لا التضادّ، إلاّ أنّ بعد الإتيان بالمطلوب الأوّل لايبقىمجال للمطلوب الثاني، كما أنّه لايبقى مجال لشرب الماء البارد بعد شرب غيرهـ مثلاً ـ فالمصلحة متقوّمة بطبيعة الصلاة وعنوانها لا بصلاة الإتمام أوّلاً، ولمانع من تعلّق أمر بطبيعة الصلاة وأمر آخر بصلاة متخصّصة بخصوصيّةالقصريّة ثانيا، ولا يتحقّق التضادّ بينهما ثالثا، هذا توضيح ما ذكره رحمهالله هنا(1).
ويمكن للقائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي أن يقول: إنّ التضادّ الواقعييتحقّق بين الأحكام الخمسة التكليفيّة، كما أنّ صاحب الكفاية رحمهالله ينفي الريبعنه ظاهرا، فكما أنّ اجتماع الضدّين مثل الوجوب والحرمة في موضوع واحدمحال، كذلك اجتماع المثلين فيه محال، فلا يمكن تعلّق الوجوبين بالصلاة.
ولكن ذكرنا في مقام إنكار هذا المعنى: أنّ التضادّ لايتحقّق في الاُمورالاعتباريّة؛ لانحصاره بالوجودات الواقعيّة كالسواد والبياض، ومعنى التضادّبينهما أنّه لايمكن أن يكون الجسم معروضا لهما في آن واحد من أيّ طريق كان
- (1) نهاية الأفكار 3: 484.
(صفحه36)
ولو من ناحية أشخاص متعدّدين، مع أنّ هذا المعنى لايتحقّق في الأحكاموالاُمور الاعتباريّة، إذ الموضوع الواحد مثل صوم الولد يمكن أن يقعمن ناحية الوالد متعلّق الأمر، ومن ناحية الوالدة متعلّق النهي، ويكونمعروضا للإيجاب والتحريم، ومن هنا نستفيد عدم تحقّق التضادّ الاصطلاحيفي الأحكام.
وأمّا عدم اجتماعها في موضوع واحد فيمكن أن يكون مستندا إلى عدمإمكان شيء واحد متعلّقا لحبّ المولى وبغضه معا، أو كونه ذا مصلحة ملزمةوذا مفسدة ملزمة معا.
وبالجملة، فلا إشكال في تعلّق وجوب بالطبيعة بما هي، ووجوب آخربالطبيعة المتخصّصة بالخصوصيّة القصريّة، وتعلّق بهما بنحو تعدّد المطلوب،مثل تعدّد مطلوب العطشان بالعطش الشديد، أحدهما: مطلوبيّة أصل رفعالعطش، والآخر: مطلوبيّة رفع العطش بالماء البارد. فهذا البيان أيضا بيانجيّد في مقام الجواب عن الإشكال وتصحيح عمل الجاهل المقصّر،واستحقاقه العقاب بأنّ صحّة العمل مستند إلى الإتيان بطبيعة الصلاة المشتملةللمصلحة الملزمة واستيفاء المطلوب الأوّل، واستحقاق العقوبة مستند إلىتفويت المطلوب الثاني.
لزوم الفحص في الشبهات الموضوعيّة
وأمّا الشبهات الموضوعيّة فقد يقع البحث فيها بالنسبة إلى البراءة العقليّة،وقد يقع بالنسبة إلى البراءة الشرعيّة، أمّا البحث عن البراءة العقليّة فلابدّ أوّلمن ملاحظة أنّها تجري في الشبهات الموضوعيّة أم لا؟ إن قلنا بعدم جريانهفيها ـ كما التزم به جمع من الأعاظم ـ فلا يبقى مجال للبحث عن لزوم الفحص
(صفحه 37)
وعدمه، وإن قلنا بجريانها فيها ـ كما هو الحقّ ـ فيقع البحث في أنّها تجريبدون الفحص أو أنّ جريانها مشروط بالفحص؟
قال اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله : «إنّ الظاهر هو وجوب الفحص، فإنّ العقللايحكم بقبح العقاب إلاّ بعد الفحص واليأس عن إحراز الصغرى ـ أيالموضوع ـ والدليل على ذلك مراجعة العقلاء في اُمورهم. ألا ترى أنّه لو أمرالمولى عبده بإكرام ضيفه وتردّد بين كون زيد ضيفه أم غيره، وكان قادرا علىالسؤال من المولى والعلم بذلك، هل يكون معذورا في المخالفة مع عدم الإكرام؟كلاّ، فاللازم بحكم العقل الفحص والتتبّع في الشبهات الموضوعيّة أيضا»(1).
هذا ما ذكره رحمهالله هنا ولميتعرّض إلى أزيد من ذلك، والتحقيق: أنّه كلام جيّدوقابل للالتزام، وأمّا البراءة النقليّة فقد يقع البحث فيها في الشبهاتالموضوعيّة التحريميّة، وقد يقع في الشبهات الموضوعيّة الوجوبيّة، أمّا الشبهاتالموضوعيّة التحريميّة ـ كالشكّ في أنّ مائع كذا خمر أو خلّ ـ فقد ادّعى الشيخالأنصاري رحمهالله الإجماع على عدم وجوب الفحص فيها، وجريان قاعدة الحلّيّةبدون الفحص، وادّعاء الإجماع من مثله لايكون قابلاً للردّ، إلاّ أنّه من الأدلّةاللبّيّة لابدّ من الاقتصار فيها على القدر المتيقّن، فإنّ الفحص قد يحتاج إلىتعطيل الاُمور والمشقّة ومراجعة أهل الفنّ حتّى يتّضح الحال، وقد لا يكونكذلك بل يتّضح الحال بأدنى السؤال مثلاً، والقدر المتيقّن منه هو الأوّل، دونالثاني. نعم، المستفاد من الأدلّة ومذاق الشرع هو التسهيل والتسامح في بابالطهارة والنجاسة، وجريان قاعدة الطهارة في صورة الشكّ بدون أيّ نوع منالتفحّص.
وأمّا الشبهات الموضوعيّة الوجوبيّة كالشكّ في تحقّق الاستطاعة في الحجّ
- (1) معتمد الاُصول 2: 315.
(صفحه38)
والنصاب في الزكاة ونحو ذلك فقد ذكر المحقّق النائيني رحمهالله هنا تفصيلاً جيّدا،وقال: «إنّ موضوع التكليف إذا كان من الموضوعات التي لايحصل العلم به إلبالفحص عنه ـ كالاستطاعة في الحجّ والنصاب في الزكاة ـ فلا يبعد القولبالملازمة العرفيّة بين التكليف ـ أي وجوب الحجّ مشروطا بالاستطاعة ووجوب الفحص، فإنّ عدم لزوم الفحص هنا مستلزم للقول بعدم وجوبالحجّ على عدد كثير ممّن يكون مستطيعا بحسب الواقع بلحاظ عدم تفحّصهم،وهذا المعنى لايناسب مع مشروعيّة الحجّ، فوجوب الفحص في هذه الصورةيستفاد من أصل مشروعيّة الحكم بمعونة الملازمة العرفيّة، وإذا لم يكنالموضوع من هذا القبيل فلا يجب الفحص فيه»(1).
وهذا التفصيل في الشبهة الوجوبيّة قابل للقبول لا يخفى أنّ مقتضى إطلاقأدلّة الحلّيّة عدم وجوب الفحص، فوجوب الفحص يحتاج إلى الدليل، لعدمه، وهكذا إطلاق أدلّة البراءة.
هذا تمام الكلام في اعتبار الفحص في جريان البراءة، خُذ فاغتنم.
- (1) فوائد الاُصول 4: 301.
(صفحه 39)