(صفحه392)
العامّ والمطلق ـ أي العموم الأفرادي والإطلاق الأزماني المستفادان من قوله:«أكرم العلماء» أصلاً، بل التعاند بينهما إنّما نشأ من أجل دليل ثالث لا يخلوأمره من أحد أمرين: كونه مخصّصاً للعموم الأفرادي، ومقيّداً للإطلاقالأزماني، ولا دليل على ترجيح أحدهما على الآخر بعد كون كلّ واحد منهمدليلاً تامّا، بخلاف ما هناك؛ فإنّ التعارض من أوّل الأمر كان بين العامّ الذيهو ذو لسان، وبين المطلق الذي هو ألكن(1)، ومن الواضح أنّه لا يمكنه أنيقاوم ذا اللسان كما لا يخفى.
ثمّ أنّه قد يقال: بأنّ الأمر في المقام دائر بين التخصيص والتقييد معاً، وبينالتقييد فقط؛ ضرورة أنّه في التخصيص لابّد من الالتزام بتقييد الإطلاقالمقامي الدّال على الاستمرار الزماني أيضاً، وهذا بخلاف العكس.
ومن الواضح أنّه مع كون الأمر هكذا لا مجال للإشكال في ترجيح التقييد،كما هو واضح.
ويرد عليه: منع كون التخصيص مستلزماً للتقييد أيضاً؛ ضرورة أنّهبالتخصيص يستكشف عدم كون مورد الخاصّ مرادا من الأمر، ومعه ليكون الدليل الدالّ على الاستمرار الزمانيّ شاملاً له من رأس؛ لعدم كونهموضوعاً له؛ ضرورة أنّ موضوعه هو الحكم الثابت في زمان.
وقد يقال في المقام أيضاً:بأنّ العلم الإجمالي بالتخصيص أو النسخ يرجعإلى دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ عدم ثبوت حكم العامّ بالنسبة إلىمورد الخاصّ بعد ورود الخاصّ متيقّن على أيّ تقدير، سواء كان على نحوالتخصيص أو النسخ، وثبوته بالنسة إلى مورده قبل ورود الخاصّ مشكوكومتفرّع على كون الخاصّ نسخاً، فالأمر يدور بين الأقلّ المتيقّن ـ أي عدم
- (1) اللكنة: عجمة في اللسان وعيّ؛ يقال: رجل ألكن بيّن اللكنّة؛ الصحاح 6: 2196 (لكن).
(صفحه 393)
شمول الحكم العامّ لمورد الخاصّ بعد وروده ـ والأكثر المشكوك ـ أي شمولهلمورد الخاصّ قبل وروده ـ فينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بالنسبة إلىالأقلّ المتيقـّن، والشكّ البدوي بالنسبة إلى الأكثر، ومقتضى استصحاب عدمالوجوب أو جريان البراءة في المشكوك عدم كونه محكوماً بحكم العامّ،وحينئدٍ تتحقّق نتيجة التخصيص وتقدّمه على النسخ.
والتحقيق: أنّ هذا الكلام صحيح على القول بانحلال العلم الإجمالي، إلاّ أنّالعلم الإجمالي الواقعيّ لا التخيّليّ لا يكون قابلاً للانحلال؛ إذ لا يعقل أنيكون ماهو قوامه به من الاحتمالين سبباً لإفنائه ومؤثّرا في انقلابه إلى العلمالتفصيلي والشكّ البدوي؛ فإنّه مستلزم لكون الشيء سبباً لانعدام نفسه،فدعوى أنّ العلم الإجمالي بالتخصيص والنسخ يتولّد منه تعيّن التخصيص ممّلا ينبغي الإصغاء إليه. كما قال به اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1).
مضافاً إلى عدم صحّة جريان الأصل على القول بالانحلال أيضاً؛ إذالغرض من جريانه إثبات الحكم الظاهري للعالم الفاسق في فاصلة صدورالعامّ وصدور الخاصّ، مع أنّا نعلم بوجوب إكرامه في هذا الزمان بحكم العامّبلا إشكال، ولكن لا نعلم أنّ وجوب إكرامه يكون بنحو الحكم الواقعيّ، أوبنحو الحكم الظاهري فيما كان الخاصّ مخصّصاً للعامّ، فلا مجال لجريان أصالةالبراءة والاستصحاب.
هذا كلّه إذا كان الاستمرار الزمانيّ مستفاداً من الإطلاق المقامي، وأمّا إذكان الاستمرار الزمانيّ مستفاداً من عموم القضيّة الحقيقيّة بمعنى كلّ من وجدفي الخارج واتّصف بكونه عالماً يجب إكرامه ـ مثلاً ـ ، ودار الأمر بين النسخوالتخصيص بالخاصّ المتأخّر، ويرجع النسخ هنا إلى التخصيص، فالظاهر
- (1) معتمد الاُصول 2: 361.
(صفحه394)
ترجيح تخصيص العموم المستفاد منه الاستمرار الزماني على تخصيص العمومالأفرادي؛ لأنّ الأمر وإن كان دائرا بين التخصيصين إلاّ أنّه لمّا كان النسخالذي مرجعه إلى تخصيص العموم الدالّ على الاستمرار الزماني مستلزما لقلّةالتخصيص يخالف تخصيص العموم الأفرادي، فالترجيح معه كما هو ظاهر.
وأمّا إذا كان الاستمرار الزمانيّ مستفادا من الدليل اللفظيّ، كما إذا قالالمولى: «إكرام كلّ عالم حلال»، ثمّ قال: «حلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال إلى يومالقيامة»، ثمّ قال بعد مضي يومين ـ مثلاً ـ : «إكرام العالم الفاسق حرام» ودارالأمر بين نسخ الاستمرار الزماني وتخصيص العموم الأفرادي، فإن قلنا بدلالةالدليل اللفظي على العموم ـ نظرا إلى أنّ المفرد أو المصدر المضاف يفيدالعموم ـ ، فحكمه حكم الصورة السابقة التي يستفاد الاستمرار الزماني فيهمن العموم، وإن لم نقل بذلك فحكمه حكم الصورة التي يستفاد الاستمرار منالإطلاق. هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى.
وأمّا في الصورة الثانية وهي: ما إذا كان الخاصّ متقدّما والعامّ متأخّرا، كمإذا قال المولى: «لا تكرم الفسّاق من العلماء» ثمّ قال بعد حضور وقت العملبه: «أكرم كلّ عالم» ودار الأمر بين تخصيص العامّ وكونه ناسخا للخاصّ، فإنكان استمرار الحكم الخاصّ مستفادا من الإطلاق فالظاهر ترجيح التخصيصعلى النسخ؛ لأن النسخ وإن كان مرجعه حينئذٍ إلى تقييد الإطلاق المقاميّالدالّ على استمرار الزمان، وقد قلنا: إنّ التقييد مقدّم على التخصيص، إلاّ أنّذلك إنّما هو فيما إذا كانت النسبة بين الدليلين العموم من وجه كقوله: «أكرمالعلماء» و«لاتكرم الفاسق».
وأمّا لو كانت النسبة بين الدليلين العموم مطلقا ـ كما في ما نحن فيه فالظاهر هو ترجيح التخصيص على التقييد؛ لأنّه لايلاحظ في العامّ والخاصّ
(صفحه 395)
قوّة الدلالة وضعفها كما عرفت مقتضى التحقيق من كون بناء العقلاء علىتقديم الخاصّ على العامّ من دون فرق بين كونه متقدّما عليه أو متأخّرا عنه.
وأمّا لو كان الاستمرار مستفاداً من العموم الثابت للخاصّ لكونه قضيّةحقيقيّة، فلا إشكال هنا في تقدّم التخصيص أصلاً؛ لقوّة دلالة الخاصّ علىثبوت الحكم لمورده حتّى بعد ورود العامّ، فلابّد من كونه مخصّصا له.
كما أنّه لو كان الاستمرار مستفادا من الدليل اللفظي لا بدّ من ترجيحالتخصيص؛ لأنّ الخاصّ وإن لم يكن قويّا من حيث هو، إلاّ أنّه يتقوّى بذلكالدليل اللفظيّ الذي يدلّ على استمرار حكمه حتّى بعد ورود العامّ، ومعهيخصّص العامّ لامحالة، هذا في الصورة الثانية.
وأمّا في الصورة الثالثة التي دار الأمر فيها بين النسخ والتخصيص ولم يعلمالمتقدّم من العامّ والخاصّ عن المتأخّر، فالظاهر فيها ترجيح التخصيص أيضا؛لغلبته وندرة النسخ.
ودعوى أنّ هذه الغلبة لاتصلح للترجيح، مدفوعة بمنع ذلك واستلزامهلعدم كون الغلبة مرجّحة في شيء من الموارد؛ لأنّ هذه الغلبة من الأفرادالظاهرة لها، كيف؟ وندرة النسخ لا تكاد تتعدّى الموارد القليلة المحصورة، وأمّالتخصيص فشيوعه إلى حدّ قيل: «ما من عامّ إلاّ وقد خصّ». واحتمال النسخبعد تحقّق هذه الغلبة أضعف من الاحتمال الذي لايعتني به العقلاء في الشبهةغير المحصورة، فعدم اعتنائهم به أولى، كما لا يخفى.
(صفحه396)
دوران الأمر بين تقييد الإطلاق وحمل الأمر على الاستحباب
ومن الموارد التي قيل باندراجها في الأظهر والظاهر ماإذا دار الأمر بينتقييد المطلق وحمل الأمر في المقيّد على الاستحباب وكون المأمور به أفضلالأفراد، أو حمل النهي فيه على الكراهة وكون المنهي أخسّ الأفراد وأنقصها،كما إذا دار الأمر بين تقييد قوله: «إن ظاهرت فاعتق رقبة» وبين حمل قوله:«إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة» على الاستحباب، وكون عتق الرقبة المؤمنةأفضل، أو حمل قوله: «إن ظاهرت فلا تعتق رقبة كافرة» على الكراهة، وكونعتق الرقبة الكافرة أبغض، كما في قوله: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»، وقوله: «صلّ فيالمسجد» وقوله: «لا تصلّ في الحمّام».
فالذى حكاه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره عن شيخه المحقّق الحائري قدسسره في هذالفرض أنّه قال: «وممّا يصعب عليّ حمل المطلقات الواردة في مقام البيان علىالمقيّد وتقييدها بدليله مع اشتهار الأوامر في الاستحباب والنواهي في الكراهة،خصوصا بملاحظة ماأفاده صاحب المعالم(1) في باب شيوع استعمال الأوامر فيالمستحبّات».
ولكن ذكر اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره هنا تفصيلاً جيّدا، وهو: أنّ المطلقاتعلى قسمين: قسم ورد في مقابل من يسأل عن حكم المسألة والواقعة لأجل