(صفحه 395)
قوّة الدلالة وضعفها كما عرفت مقتضى التحقيق من كون بناء العقلاء علىتقديم الخاصّ على العامّ من دون فرق بين كونه متقدّما عليه أو متأخّرا عنه.
وأمّا لو كان الاستمرار مستفاداً من العموم الثابت للخاصّ لكونه قضيّةحقيقيّة، فلا إشكال هنا في تقدّم التخصيص أصلاً؛ لقوّة دلالة الخاصّ علىثبوت الحكم لمورده حتّى بعد ورود العامّ، فلابّد من كونه مخصّصا له.
كما أنّه لو كان الاستمرار مستفادا من الدليل اللفظي لا بدّ من ترجيحالتخصيص؛ لأنّ الخاصّ وإن لم يكن قويّا من حيث هو، إلاّ أنّه يتقوّى بذلكالدليل اللفظيّ الذي يدلّ على استمرار حكمه حتّى بعد ورود العامّ، ومعهيخصّص العامّ لامحالة، هذا في الصورة الثانية.
وأمّا في الصورة الثالثة التي دار الأمر فيها بين النسخ والتخصيص ولم يعلمالمتقدّم من العامّ والخاصّ عن المتأخّر، فالظاهر فيها ترجيح التخصيص أيضا؛لغلبته وندرة النسخ.
ودعوى أنّ هذه الغلبة لاتصلح للترجيح، مدفوعة بمنع ذلك واستلزامهلعدم كون الغلبة مرجّحة في شيء من الموارد؛ لأنّ هذه الغلبة من الأفرادالظاهرة لها، كيف؟ وندرة النسخ لا تكاد تتعدّى الموارد القليلة المحصورة، وأمّالتخصيص فشيوعه إلى حدّ قيل: «ما من عامّ إلاّ وقد خصّ». واحتمال النسخبعد تحقّق هذه الغلبة أضعف من الاحتمال الذي لايعتني به العقلاء في الشبهةغير المحصورة، فعدم اعتنائهم به أولى، كما لا يخفى.
(صفحه396)
دوران الأمر بين تقييد الإطلاق وحمل الأمر على الاستحباب
ومن الموارد التي قيل باندراجها في الأظهر والظاهر ماإذا دار الأمر بينتقييد المطلق وحمل الأمر في المقيّد على الاستحباب وكون المأمور به أفضلالأفراد، أو حمل النهي فيه على الكراهة وكون المنهي أخسّ الأفراد وأنقصها،كما إذا دار الأمر بين تقييد قوله: «إن ظاهرت فاعتق رقبة» وبين حمل قوله:«إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة» على الاستحباب، وكون عتق الرقبة المؤمنةأفضل، أو حمل قوله: «إن ظاهرت فلا تعتق رقبة كافرة» على الكراهة، وكونعتق الرقبة الكافرة أبغض، كما في قوله: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»، وقوله: «صلّ فيالمسجد» وقوله: «لا تصلّ في الحمّام».
فالذى حكاه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره عن شيخه المحقّق الحائري قدسسره في هذالفرض أنّه قال: «وممّا يصعب عليّ حمل المطلقات الواردة في مقام البيان علىالمقيّد وتقييدها بدليله مع اشتهار الأوامر في الاستحباب والنواهي في الكراهة،خصوصا بملاحظة ماأفاده صاحب المعالم(1) في باب شيوع استعمال الأوامر فيالمستحبّات».
ولكن ذكر اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره هنا تفصيلاً جيّدا، وهو: أنّ المطلقاتعلى قسمين: قسم ورد في مقابل من يسأل عن حكم المسألة والواقعة لأجل
(صفحه 397)
ابتلائه بها، ومنظوره السؤال عن حكمها ثمّ العمل على طبق الحكم الصادرعن المعصوم عليهالسلام في تلك الواقعة، وقسم آخر يصدر لغرض الضبط، كما إذا كانالسائل مثل زراره ممّن كان غرضه من السؤال استفادة حكم الواقعة لأجلضبطه لمن يأتي بعده ممّن لايكاد تصل يده إلى منبع العلم ومعدن الوحي.
وما أفاده المحقّق الحائري قدسسره إنّما يتمّ في خصوص القسم الأوّل، وأمّا فيالقسم الثاني فلا، خصوصاً على القول بدلالة هيئت «إفعل» على الوجوببدلالة وضعيّة، وكون حمل المطلق على المقّيد من الاُمور المتداولة.
هذا كلّه بالسنبة إلى التعارض الابتدائي بين الدليلين، النصّ والظاهر أوالأظهر والظاهر.
(صفحه398)
القول
فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين
إذا ورد عامّ وخاصّان بينهما تباين:
وأمّا إذا كان التعارض بين أزيد من دليلين، بأن كان هنا عامّ ـ مثلاً وخاصّان كقوله: «أكرم العلماء» و«لا تكرم النحويّين منهم»، و«لا تكرمالصرفيّين منهم»؛ فإنّ النسبة بين كلّ من الأخيرين مع الأوّل هو العموموالخصوص مطلقاً، والكلام فيه يقع في مقامين:
أحدهما: أنّه يتحقّق في ملاحظة العامّ مع كلّ من المخصّصين أربع احتمالات:
الأول: أنّه يلاحظ مع كلّ منهما قبل تخصيصه بالآخر بحيث يكون الخاصّانفي عرض واحد.
الثاني: أنّه يخصّص بواحد منهما ثمّ تلاحظ النسبة بعد التخصيص بينه وبينالخاصّ الآخر، وربّما تنقلب النسبة من العموم المطلق إلى العموم من وجه كمفي المثال؛ فإنّ قوله: «أكرم العلماء» بعد تخصيصه بقوله «لاتكرم الصرفيّينمنهم»، يرجع إلى وجوب إكرام العالم الغير الصرفيّ، ومن المعلوم أنّ النسبة بينالعالم الغير الصرفي وبين العالم النحوي عموم من وجه؛ فإنّ مورد الاجتماع هوالعالم النحوي الغير الصرفي مثل الطبيب النحوي، ومادة افتراق العالم النحويعبارة عن النحوي العالم بالصرف، ومادة افتراق العالم الغير الصرفي عبارة عن
(صفحه 399)
العالم بالطب فقط.
الثالث: هو التفصيل بين المخصّص اللفظي واللبّي، بأن يلاحظ العامّ معالمخصّص اللبّي، ثمّ يلاحظ العامّ المخصّص مع المخصّص اللفظي، وأمّا فيالمخصّصات اللفظيّة فيلاحظ كلّ واحد منهما مع العامّ قبل تخصيصه بالآخر.
الرابع: هو التفصيل بين بعض المخصّصات اللبّيّة والمخصّصات اللفظيّة وبينبعض آخر من المخصّصات اللبّيّة.
ثانيهما: أنّه لو فرض كون الخاصّين في عرض واحد، ولكن كان تخصيصالعامّ بهما مستهجنا أو مستلزما للاستيعاب وبقاء العامّ بلا مورد، فهلالمعارضة حينئذٍ بين العامّ ومجموع الخاصّين كما اختاره الشيخ قدسسره (1) وتبعه غيرواحد من المحقّقين المتأخّرين عنه(2)، أو أنّ المعارضة بين نفس الخاصّين، كمهو الأقوى، لما يأتي؟
أمّا الكلام في المقام الأوّل فلا إشكال في تعيّن الاحتمال الأوّل فيما إذا كانالخاصّان دليلين لفظيّين، ولا مجال لتوهّم تقديم أحدهما على الآخر بعداتّحادهما في النسبة مع العامّ؛ إذ لا وجه لتقديم ملاحظة العامّ مع أحدهما علىملاحظته مع الآخر، خصوصا إذا لم يعلم المتقدّم منهما صدورا عن المتأخّر كمهو الغالب.
وأمّا لو كان أحد الخاصّين دليلاً لبّيّا فلابّد من الالتزام بالاحتمال الرابع بأنّالدّليل اللبّي إن كان كالدليل العقليّ الذي يكون كالقرينة المتّصلة بالكلام،بحيث لم يكن يستفاد من العامّ عند صدوره من المتكلّم إلاّ العموم المحدودبمادلّ عليه العقل ـ كما أنّه لو فرض أنّه لا يستفاد عند العقلاء من قوله: «أكرم
- (1) فرائد الاُصول 2: 794 ـ 795.
- (2) فوائد الاُصول 4: 743.