(صفحه418)
له عموم وإطلاق، أمّا العموم فباعتبار شموله لجميع الإخبار، وأمّا الإطلاقفباعتبار عدم كونه مقيّدا بحال عدم المعارض.
وحينئذ فإذا ورد الخبران المتعارضان يدور الأمر بين رفع اليد عن العموموالحكم بتساقطهما، وبين حفظ العموم على حاله ورفع اليد عن الإطلاقوالقول بحجّيّة كلّ واحد منهما مع رفع اليد عن الآخر، فلابدّ من الالتزامبالثاني؛ إذ التصرّفات في الدليل تتقدّر بقدر الضرورة، ومع إمكان التصرّفالقليل لامسوّغ للتصرّف الكثير، وهذا نظير المتزاحمين، حيث إنّ العقل يحكمفيهما بالتخيير، لأجل عدم إمكان امتثالهما.
ويرد عليه: أنّ المستفاد من الأدلّة هو الحجّيّة من باب الكاشفيّة والطريقيّة،فلا يقاس المقام بباب المتزاحمين، إذ التكليف المتوجّه إلى المكلّف هناكتكليفان نفسيّان تعلّق كلّ واحد منهما بمتعلّق خاصّ، وحيث لايكون قادرعلى جمعهما في مقام الامتثال ولا مرجّح في البين يحكم العقل بالتخيير.
وأمّا في المقام فالتكليف المتعلّق بتصديق العادل تكليف طريقي،ومرجعه إلى لزوم متابعة الخبر؛ لكونه طريقا وكاشفا عن الواقع، ولا معنىللحكم بالتخيير بين الطريقين المختلفين، بل العقل يحكم بتساقطهما؛ لامتناعثبوت الكاشفيّة لهما، ولا معنى للتخيير بين الخبرين بكون كلّ واحد منهمكاشفا مع عدم العمل بالآخر، بعد فرض كون أحدهما موصلاً إلى الواقعوالآخر مبعّدا عنه.
فمقتضى القاعدة في الخبرين المتعارضين المتكافئين بناء على الطريقيّة هوالتساقط، وأمّا بناء على السببيّة فلا فائدة في البحث عنه، لعدم صحّة هذالمبنى رأسا.
مقتضى الأخبار الواردة في المتكافئين من حيث الفتاوى
(صفحه 419)
والشهرة الفتوائيّة المحقّقة ـ بل الإجماع ـ على ما نقل في المتعارضينالمتكافئين على عدم التساقط، والروايات الدالّة عليه مختلفة، فطائفة منها تدلّعلى التخيير، وطائفة على التوقّف، ويستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمهالله تحقّقطوائف أربع من الروايات في هذا الباب، بأنّ الطائفة الدالّة على التخيير علىقسمين: قسم منها تدلّ على التخيير بنحو الإطلاق، وقسم منها تدلّ علىالتخيير في خصوص زمان الحضور. وهكذا الطائفة الدالّة على التوقّف.
وقد ادّعى الشيخ رحمهالله في الرسائل تواتر الروايات الدالّة على التخيير(1).ولكنّها حسبما تتّبعنا في مظانّها ـ التي هي الباب التاسع من كتاب قضاءالوسائل(2)، وكذا الباب التاسع من مستدركه(3) ـ لاتتجاوز عن سبع رواياتقاصرة من حيث السند والدلالة، وقد مرّ بعضها، وهو روايتا الحميري وعليّبن مهزيار المتقدّمتان في فصل تعارض العامّ والخاصّ، وهكذا أخبار التوقّفالمذكورة في الباب التاسع من الكتابين، فإنّها لاتتجاوز عن أربعة، إلاّ أنّمجموع الطائفتين يوجب رفع اليد عن مقتضى القاعدة، وهو التساقط، فإنّا قدذكرنا حجّيّة الروايات المتعارضة بالنسبة إلى نفي الثالث، فكلّ من الرواياتالدالّة على التخيير والتوقّف ينفي التساقط بالاشتراك.
ماقيل في وجه الجمع بين هاتين الطائفتين أو الطوائف من الأخبار
وقد وقع الاختلاف فيه وما قيل في ذلك وجوه:
منها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ مقتضى التحقيق في الجمع بينها هوأنّ النسبة بين ما دلّ على التخيير في زمان الحضور وبين ما دلّ على التخييرالمطلق وإن كانت هي العموم والخصوص، وكذا بين روايات التوقّف، إلاّ أنّه ل
- (1) فرائد الاُصول 2: 763.
- (2) الوسائل 18: 75، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
- (3) المستدرك 17: 302، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
(صفحه420)
منافاة بينهما؛ لعدم المنافاة بين التوقّف المطلق والتوقّف في زمان الحضور، وكذبين التخييرين، فالتعارض بين ما دلّ على التخيير وبين ما دلّ على التوقّف،غايته أنّ التعارض بين ما دلّ على التوقّف والتخيير مطلقا يكون بالعموم منوجه، وبين ما دل على التوقّف والتخيير في زمان الحضور يكون بالتباين.
ولا يهمّنا البحث في الثاني، فإنّه لا أثر له، فالحريّ رفع التعارض في الأوّل،وقد عرفت أنّ النسبة بينهما العموم من وجه، لكن نسبة ما دلّ على التخييرمطلقا مع مادلّ على التوقّف في زمان الحضور هي العموم والخصوص، فلابدّمن تقييد إطلاق التخيير به، وبه يتحقّق انقلاب النسبة من العموم من وجه إلىالعموم المطلق، ومقتضى الصناعة حمل أخبار التوقّف على زمان الحضوروالتمكّن من ملاقاة الإمام عليهالسلام ، فتصير النتيجة هي التخيير في زمان الغيبة كمعليه المشهور(1)، إنتهى كلامه ملخّصا.
ويرد عليه أوّلاً: أنّه لميظهر لنا أنّ النسبة بين ما دلّ على التخيير مطلقا وبينما دلّ على التوقّف كذلك كيف تكون بالعموم من وجه بعد شمول كلّ منهملحالتي الظهور والغيبة، بل النسبة بينهما هي التباين كالنسبة بين أدلّة التوقّفوالتخيير في زمان الحضور، كما لا يخفى.
وثانياً: أنّه لا وجه لملاحظة دليل التخيير مطلقا مع دليل التوقّف في زمانالحضور حتّى يختصّ دليل التخيير بحال الغيبة وصار مخصّصا لدليل التوقّفالمطلق بعدما كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه طبق ما أفاده، فإنّه ليسبأولى من العكس، وملاحظة دليل التوقّف مطلقا مع دليل التخيير في زمانالحضور وتخصيص دليل التوقّف مطلقا بحال الغيبة ثمّ جعله مخصّصا لدليلالتخيير مطلقا، ولازم ذلك انحصار الروايات الدالّة على التخيير في زمان
- (1) فوائد الاُصول 4: 764 ـ 765.
(صفحه 421)
الحضور والحكم بالتوقّف في زمان الغيبة، كما أشار إليه الفاضل المقرّر فيهامش فوائد الاُصول(1).
وثالثاً: أنّه لا وجه لملاحظة دليل التخيير مطلقا مع دليل التوقّف في زمانالحضور بعد كونه مبتلى بالمعارض على ما هو المفروض، وهو دليل التخيير فيزمان الحضور الذي ذكر أنّ النسبة بينهما التباين، فلا وجه لملاحظة دليلالتخيير مطلقا مع إحدى طرفي المعارضة، وفرض الطرف الآخر كالعدم.
والحاصل: أنّ انقلاب النسبة فرع التقييد والتخصيص، وهما فرع عدمالابتلاء بالمعارض، ومع وجود المعارض لايصلح للمقيّدية والمخصّصيّة، فمذكره المحقّق النائيني رحمهالله من الطريق لاستفادة التخيير المشهور في عصر الغيبةليس بتامّ.
ومنها: ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمهالله في مقام الجمع من حمل أخبار التوقّفعلى صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليهالسلام وأخبار التخيير على صورة عدمالتمكّن منه(2).
والتحقيق: أنّ مراده من هذا الجمع إن كان شبيه ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله فيرد عليه ما ورد عليه، وإن كان مراده منه الجمع المقبول عند العقلاء فهذجمع تبرّعي لا شاهد عليه؛ إذ لا شاهد في روايات التخيير يوجب انحصارهفي زمان عدم التمكّن من الوصول إلى الإمام عليهالسلام ولا يكفي في الجمع صرفرفع التعارض على أيّ نحو كان، بل لابدّ من كونه مقبولاً عند العقلاء.
مضافا إلى أنّ المراد من التمكّن إن كان هو التمكّن الذي كان الشخص معهقادرا على الرجوع إلى الإمام فورا، كما إذا كان معه في مدينة واحدة، فمن
- (1) فوائد الاُصول 4: 765.
- (2) فرائد الاُصول 2: 363.
(صفحه422)
الواضح إباء أخبار التوقّف عن الحمل على خصوص هذه الصورة، فإنّاختصاصها بالمتمكّنين عن الوصول بهذه الكيفيّة في كمال البعد.
وإن كان المراد به هو التمكّن بمعنى مجرّد القدرة على الوصول إلى محضره ولومع تحمّل مشقّة السفر فمن الواضح أنّ حمل أخبار التخيير على صورة عدمالتمكّن بهذا المعنى بعيد جدّا، مع كون الرواة المخاطبة بها ساكنين في المدينة أوالكوفة أو البصرة، فكيف يمكن فرض عجزهم عن الوصول بهذه الكيفيّة؟خصوصا مع كون الغاية في بعض الروايات ملاقاة من يخبره، ومن المعلوم أنّالمخبر أعمّ من الإمام عليهالسلام .
ومنها: ما أفاده المحقّق الحائري رحمهالله في مقام الجمع من حمل أخبار التوقّفعلى التوقّف في مقام الرأي والإفتاء، وأخبار التخيير على التخيير في العمل(1).
ويرد عليه: أوّلاً: ـ بعد عدم إشعار حتّى رواية واحدة من الروايات بهذالمعنى ـ أنّه لاشاهد ولا دليل عليه.
وثانياً: أنّ أخبار التوقّف ناظرة في النهي عن العمل بشيء منهما إمّا بالظهوروإمّا بالصراحة، مثل: قوله عليهالسلام في مقبولة عمر بن حنظلة: «فارجئه حتّى تلقىإمامك، فإنّ التوقّف في الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(2). ونحو ذلكمن الروايات، ويظهر هذا المعنى بمراجعتها.
هناك وجوه اُخر للجمع، مثل: حمل أخبار التخيير على العبادات وأخبارالإرجاء والوقوف على المعاملات.
أو حمل أخبار التخيير على حقوق اللّه وأخبار التوقّف على حقوق الناس،واستشهد لذلك بورود المقبولة في مورد الاختلاف في دين أو ميراث، ولازم
- (2) الوسائل 18: 75، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.