(صفحه432)
بتمام مفاده من المطابقي والالتزامي وغيرهما، وعدم طريقيّته لايمنع من التعبّدبالتخيير، وإلاّ يمنع من حجّيته في المدلول المطابقي أيضا؛ إذ التعارض يقع أوّلوبالذات في المدلول المطابقي.
فالتخيير هنا أصل عملي ومثبتاته ليست بحجّة، ولكن لايسري هذا إلىالخبر الذي اُخذ بعنوان طرفي التخيير، كأنّه قال الشارع: «أنت مخيّر في الأخذبهذا الخبر في تمام مداليله والأخذ بذاك الخبر في تمام مداليله»، وليس معناهحجّيّة مثبتات الاُصول، ولا يمكن القول بأنّه لايمكن للشارع التعدّي منالمدلول المطابقي كما لا يخفى، فهذا الوجه أقرب عندنا.
التنبيه الثاني: في اختصاص التخيير بالمفتي وعدمه
بعد ما عرفت من كون التخيير الذي يدلّ عليه أخباره هو التخيير فيالمسألة الاُصوليّة، فهل يجوز للمجتهد الفتوى بالتخيير في المسألة الفرعيّةالراجعة إلى كون المقلّد مخيّرا في مقام العمل، أم التخيير ينحصر بالمجتهد ويجبعليه الأخذ بمضمون أحد الخبرين والفتوى على طبقه، بعد ما علم أن جريانالاُصول في الشبهات الموضوعيّة لاينحصر بالمجتهد، بل يجوز للمقلّد أيضإجراؤها؟
وأمّا في إجرائها في الشبهات الحكميّة فوجهان:
قد يقال: بانحصار الخطابات الواردة في المسائل الاُصوليّة بخصوصالمجتهد؛ نظرا إلى أنّه هو الذي يتحقّق عند موضوع تلك الخطابات؛ لأنّه هوالذي يشكّ في الحكم الفلاني بالشبهة الحكميّة، وهو الذي يجيء عنده الخبرانالمتعارضان، وغير ذلك من الموضوعات، ومع انحصار تحقّق الموضوع بهلاتكون تلك الخطابات شاملة لغيره.
(صفحه 433)
هذا، ولكنّ الظاهر خلافه؛ لأنّ مجرّد كون المقلّد غير مشخّص لموضوعاتتلك الخطابات لايوجب انحصارها بالمجتهد، بل يمكن أن يقال: بأنّ المجتهديشخّص الموضوع للمقلّد ويفتي بمفاد تلك الخطابات، وبالنتيجة يكونجريانها في ذلك الموضوع عند المقلّد، فالمجتهد يعلّم المقلّد بأنّ صلاة الجمعةكانت واجبة في عصر ظهور أئمّة النور عليهمالسلام ، والآن مشكوك الوجوب، ويفتيبأنّ كلّ شيء كان كذلك يحرم نقض اليقين فيه بالشكّ على ما هو مدلولخطابات الاستصحاب، فالمقلّد حينئذ يتمسّك بالاستصحاب ويحكمبوجوبها في هذه الأعصار أيضا.
وإن كانت الشبهة حكميّة فلا يصحّ القول بالتبعيض في خطاب واحد، مثل:قوله عليهالسلام : «لاتنقض اليقين بالشكّ»، وقوله عليهالسلام : «كلّ شيء لك حلال»، والحكمالمستفاد منه من حيث عموميّته بالنسبة إلى المجتهد والمقلّد في الشبهاتالموضوعيّة واختصاصه بالمجتهد في الشبهات الحكميّة، ومجرّد كون تشخيصالموضوع فيها بيد المجتهد لايوجب اختصاص الخطاب به، بل الخطابوالحكم عامّ.
والحاصل: أنّ المجتهد عند تعارض الخبرين يتخيّر بين الأخذ بمفاد أحدالخبرين والفتوى على طبقه، كالأخذ بالخبر مع عدم المعارض له، وبين إعلامالمقلّد بالحال وأنّ هذا المورد ممّا ورد فيه الخبران المتعارضان وحكمه التخييرفي الأخذ، وبين الفتوى بالتخيير في مقام العمل من دون إعلامه بالحال.
أمّا الأوّل والثاني فواضحان، وأمّا الثالث فلأنّ التخيير ـ كما عرفت ـ حكمطريقي ومرجعه إلى جواز أخذ كلّ من الخبرين طريقا وأمارة، فلا مانع منالفتوى بالتخيير.
والتحقيق: أنّ الفتوى بالتخيير في المقام غير قابلة للالتزام، فإنّ الظاهر منه
(صفحه434)
التخيير في المسألة الفرعيّة ـ كالتخيير بين الخصال الثلاث في كفّارة الإفطار وأنّ حكم اللّه في المسألة هو التخيير، مع أنه ليس كذلك، وجواز الأخذ بكلّمن الخبرين هو التخيير في المسألة الاُصوليّة ـ أي التخيير في مقام الأخذبالحجّة والعمل على طبقه، ولا يصحّ الخلط بينهما، فالطريق الثالث بعد عدمدلالة كلّ من الروايتين على التخيير ليس بتامّ.
التنبيه الثالث: في أنّ التخيير بدوي أو استمراري
هل التخيير بدوي مطلقا، أو استمراري كذلك، أو تفصيل فيه بين ما إذقيل باختصاص الخطابات الواردة في المسائل الاُصوليّة بالمجتهد فالتخييربدوي، وبين ما إذا قيل بعدم الاختصاص فاستمراري؟
ومن المعلوم أنّ التخيير الاستمراري يحتاج إلى إقامة الدليل عليه بخلافالتخيير البدوي، فإنّه المستفاد من أخبار التخيير إلى هنا، والمستند هوالأخبار الواردة في التخيير، ومع قصورها فالاستصحاب.
وقال الشيخ الأنصاري رحمهالله : «إنّ مستند التخيير إن كان هو الأخبار الدالّةعليه فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر، فلا إطلاق فيهبالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما»(1).
وقال اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله في قباله: «أنّه يمكن أن يستفاد من كثير منالأخبار الواردة في التخيير كونه استمراريّا، والعمدة من ذلك روايتان:
إحداهما: ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا عليهالسلام قلت: يجيئنا الرجلانوكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال عليهالسلام : «فإذا لمتعلمفموسّع عليك بأيّهما أخذت»(2).
- (1) فرائد الاُصول 2: 764.
(صفحه 435)
فانّ تعليق الحكم بالتوسعة على مجرّد الجهل وعدم العلم ـ خصوصا معإعادته في الجواب مع كونه مذكورا في السؤال ـ يدلّ على أنّ تمام الموضوعللحكم بالتوسعة هو مجرّد الجهل بالواقع وعدم العلم والتردّد الناشيء من مجيءالحديثين المختلفين، ومن الواضح بقاء التردّد بعد الأخذ بأحدهما؛ لأنّ الأخذبه لايوجب العلم بالواقع، أو قيام أمارة عليه التي لابدّ من الأخذ بها.
وقد عرفت أن التخيير وظيفة مجعولة في مقام الشكّ والتحيّر، وليسمرجعه إلى كون المأخوذ من الخبرين أمارة تعبّديّة في صورة التعارض حتّىيكون قيام الأمارة رافعا لموضوع الحكم بالتوسعة تعبّدا، بل التحقيق: أنّه معالتخيير والأخذ بأحد الخبرين لايرتفع التحيّر والتردّد من البين، والمفروضأنّه الموضوع الفريد للحكم بالتوسعة وجواز الأخذ بما شاء منهما.
ثانيتهما: رواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال عليهالسلام : «إذسمعت من أصحابك الحديث ـ وكلّهم ثقة ـ فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليهالسلام فتردّ عليه»(1).
وهذه الرواية وإن كان ربّما يناقش في دلالتها على التخيير في المتعارضين؛لعدم التعرّض لهما في الموضوع، بل موضوع الحكم بالتوسعة مطلق الحديث،إلاّ أنّ التمسّك بها لمكان كونها من أدلّة التخيير عند الشيخ رحمهالله القائل بهذهالمقالة، وهي قصور أدلّة التخيير عن الدلالة لحال المتحيّر بعد الالتزامبأحدهما.
مضافا إلى أنّه يمكن أن يستفاد من التعبير بالتوسعة المستعملة في سائرروايات التخيير كون الموضوع هو المتعارضان(2)، وإلى أنّ إطلاقه لهما يكفي لنا،
- (1) الوسائل 18: 87 ، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
- (2) المصدر السابق، الحديث 41.
- (3) في الأصل: «المتعارضين» والصحيح ما اُثبت.
(صفحه436)
كما لا يخفى.
وكيف كان، فدلالتها على استمرار التخيير أوضح من الرواية السابقة؛ لأنّهجعلت الغاية للحكم بالتوسعة هي رؤية القائم عليهالسلام والردّ عليه، فتدلّ على بقائهمع عدم حصول الغاية، سواء كان في ابتداء الأمر أو بعد الأخذ بأحد الخبرين،كما لا يخفى. فانقدح أنّه لا مجال لدعوى الإهمال في جميع الروايات الواردة فيباب التخيير»، إنتهى كلامه رفع مقامه(1).
والتحقيق: أنّ هذا كلام جيّد قابل للمساعدة وبعد إثبات استمرار التخييربالروايتين لاتصل النوبة إلى إثباته من طريق الاستصحاب، ولكن نبحث فيهأيضا لمزيد الاطمئنان، وعلى فرض عدم إمكان التمسّك بإطلاق الروايات.
وأمّا الاستصحاب فهل يمكن التمسّك به لبقاء استمرار التخيير أم لا؛لاشتراط اتّحاد الموضوع في القضيّة المتيقّنة والمشكوكة فيه، فلابدّ من ملاحظةما جعل في الأخبار موضوعا للحكم بالتخيير؟ ويحتمل فيه وجوه أربعة:
أحدها: أن يكون الموضوع هو شخص المكلّف مجتهدا كان أو مقلّدا لميعلمما هو الحقّ من الخبرين المتعارضين، كما يستفاد من رواية الحسن بن جهمعن الرضا عليهالسلام .
ثانيها: أن يكون الموضوع هو من لميعلم حقّيّة واحد منهما.
ثالثها: أن يكون الموضوع هو المتحيّر بما هو متحيّر.
رابعها: أن يكون الموضوع خصوص من لميختر أحد الخبرين، كما يظهرمن الشيخ رحمهالله (2)، فعلى الأوّلين لا مانع من الاستصحاب؛ لبقاء الموضوعالمأخوذ في الدليل بعد الأخذ أيضا؛ إذ المكلّف بعد الأخذ لايتبدّل عدم علمه
- (1) معتمد الاُصول 2: 396 ـ 397.
- (2) فرائد الاُصول 2: 764.