(صفحه 437)
بالعلم، وأمّا على الثالث فالظاهر أنّه بعد الأخذ بأحد الخبرين لايبقى متحيّرا،فيتبدّل الموضوع ولا يجري استصحاب بقاء التخيير، وهكذا على الرابع: لعدمبقاء الموضوع بعد اختيار أحد الخبرين والعمل به.
ولكنّ التحقيق: أنّه لا مانع من جريانه على الثالث والرابع أيضا؛ لأنّهبعدما صار الشخص الخارجي موردا للحكم بالتخيير نقول: هذا الشخصكان مخيّرا والآن نشكّ في بقاء تخييره، فهو بعد باق عليه، نظير الاستصحابالجاري في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه.
وبعبارة اُخرى: أنّ الاختيار وعدم الاختيار من حالات الموضوع لا منمقوّماته، فلذا لايكون كلّ منهما موجبا لتغيير الموضوع وتبدّله.
فهذا المجتهد كان مخيّرا وإن كانت العلّة في حدوث التخيير هي عدم الأخذ،ولكن يحتمل أن يكون دخيلاً في الحدوث فقط دون البقاء، فلذا نشكّ في أنّالمؤثّر في الحدوث مؤثّر في البقاء أم لا؟ كالشكّ في أنّ هذا الماء كان نجسلأجل كونه متغيّرا والآن مع عدم كونه متغيّرا بالفعل نشكّ في بقاء نجاسته،فنجري الاستصحاب، فلا إشكال في جريان الاستصحاب.
التنبيهالرابع: في شمول أخبارالتخيير لجميع صورالخبرينالمختلفين
لا إشكال في تحقّق الموضوع المأخوذ في أخبار التخيير ـ وهو مجيءالرجلين بحديثين مختلفين ـ فيما إذا كان سند الروايتين مختلفين جميعا في الأخبارمع الواسطة بأن لم يشتركا أصلاً حتّى في واحد، إنّما الإشكال فيما إذا اشتركا فيمنتهى السلسلة، سواء اشتركا في غيره أم لا، كما إذا روى الكليني بإسنادهحديثا عن زرارة دالاًّ على وجوب شيء، وروى الشيخ بإسناده حديثا عنهأيضا دالاًّ على حرمة ذلك الشيء، أو روى الكليني عنه أيضا ذلك الحديث،
(صفحه438)
فإنّه ربّما يمكن أن يقال بعدم كون هذا المورد مشمولاً لأخبار التخيير أصلاً؛نظرا إلى أنّ المورد هو مجيء الرجلين بحديثين مختلفين، وهنا كان الجائي بهمشخصا واحدا، وهو زرارة فقط، فلا تشمله أدلّة التخيير.
هذا، ولكنّ الظاهر عدم دخالة مجيء الرجلين بما هما رجلان، ولذا لو أتىبحديثين غير رجلين بل امرأتان أو رجل وامرأة، لا شكّ في دخوله فيموردها، مضافا إلى أنّه يستفاد من أدلّة التخيير أنّ الشارع لميرض برفع اليدعن المتعارضين مع كون القاعدة تقتضي التساقط، فخلافه يوجب عدم رفعاليد في المقام أيضا، فلا دخل للرجوليّة والتعدّد في المسألة.
ولو كان الحديث المنقول في الجوامع المتأخّرة مختلفا من حيث النقل عنالجوامع الأوّليّة، مثل: ما إذا روى الكليني في الكافي حديثا عن كتاب الحسينبن سعيد الأهوازي، وروى الشيخ في التهذيب ـ مثلاً ـ مايغايره عن ذلكالكتاب أيضا، فالظاهر أيضا شمول أخبار التخيير له إذا لميعلم بكونالاختلاف مستندا إلى اختلاف نسخ ذلك الكتاب؛ لأنّ الظاهر أنّ مثلالكليني والشيخ لم يعتمدا في نقل الحديث على ما هو المنقول في الكتب،بل كان دأبهم على الأخذ من الشيوخ، إمّا بالقراءة عليهم أو بقرائتهم عليه،فهذا الاختلاف دليل على اختلاف الشيوخ النقلة لهذا الحديث.
نعم، لو كان الاختلاف في نسخ الاُصول المتأخّرة والجوامع الموجودةبأيدينا، كما إذا اختلفت نسخ الكافي ـ مثلاً ـ في حديث، فالظاهر عدم كونهمشمولاً لأخبار التخيير أصلاً؛ لأنّ هذا الاختلاف يكون مستندا إلى الكتابلا محالة، فلا يصدق مجيء الرجلين بحديثين مختلفين.
إلى هنا تمّ البحث عن الخبرين المتعارضين المتكافئين.
(صفحه 439)
المقصد الثاني
في الخبرين المتعارضين مع عدم التكافؤ
والكلام فيه أيضا يقع في مقامين:
المقام الأوّل: فيما يحكم به العقل في هذا الباب
لا يخفى أنّ التكلّم في حكم العقل إنّما هو بناءً على التخيير الثابت بينالخبرين المتعارضين بمقتضى الروايات المذكورة في المقصد السابق، لا بناء علىالتساقط الذي هو مقتضى القاعدة، وهكذا بناء على اعتبار الخبر من بابالطريقيّة، لا بناء على السببيّة؛ لكونها غيرقابلة للالتزام، فلا فائدة للبحثعنها.
وعلى هذا إن قلنا بأنّ المجعول عند التعارض هي الطريقيّة والكاشفيّةللتخيير بعنوان الأصل العملي في مورد الشكّ ـ مثل سائر الاُصول العمليّة فلابدّ من الأخذ بذي المزيّة أو بما يحتمل اشتماله عليها؛ لأنّه يدور الأمر بين أنيكون الطريق المجعول بعد التعارض هو خصوص الخبر الراجح أو أحدهمتخييرا، فحجّيّة الخبر الراجح متيقّنة لاريب فيها عقلاً، وأمّا الخبر غيرالراجحفيشكّ في طريقيّته وكاشفيّته عند التعارض؛ لأنّه يحتمل اعتبار الشارع بالمزيّة
(صفحه440)
الموجودة في الآخر، والشكّ في باب الحجّيّة والطريقيّة مساوق للقطع بعدمالحجّيّة؛ لأنّها ترجع إلى صحّة احتجاج المولى على العبد وكذا العكس، وليصحّ الاحتجاج مع الشكّ.
وإن لمنقل بأنّ المجعول في مورد التعارض هي الطريقيّة والكاشفيّة له، بلقلنا بأنّ المجعول إنّما هو حكم وجوبي ووظيفة للمكلّف المتحيّر عند تعارضالطريقين عنده؛ نظرا إلى استحالة كون الطريقيّة مجعولة، إمّا مطلقا لأنّها منالاُمور التكوينيّة الغير قابلة لتعلّق الجعل بها، أو في خصوص المقام؛ لاستحالةجعل الطريقيّة للمتناقضين، فالأمر يدور بين التعيين والتخيير؛ لأنّه يحتملتعلّق التكليف الوجوبي بالأخذ بخصوص الخبر الراجح، ويحتمل تعلّقه علىسبيل الوجوب التخييري بكلا الخبرين، والحكم فيه هو الاشتغال أو البراءةعلى خلاف كما عرفت في بابه.
المقام الثاني: في مقتضى الأخبار الواردة في هذا الباب وأنّه هل هووجوب الأخذ بذي المزيّة أم لا؟ وما هي المزية المرجّحة؟
قد يقال بعدم وجوب الترجيح بالمرجّحات المنصوصة ولا بغيرها؛ نظرإلى أنّ ظاهر الأخبار الواردة فيه وإن كان هو الوجوب، إلاّ أنّ مقتضى الجمعبينها وبين أخبار التخيير مطلقا هو حملها على الاستحباب؛ لاستلزام إبقائهعلى ظاهره وتقييد أخبار التخيير بصورة عدم ثبوت شيء من المرجّحاتحمل أخبار التخيير على الفرد النادر وإخراج أكثر الأفراد منها، وهو قبيح، أوإلى أنّ اختلاف الأخبار الواردة في الترجيح في المرجّحات من حيث اشتمالكلّ منها على بعض ممّا لم يشتمل عليه الآخر أو من حيث الاختلاف فيالترتيب بين المرجّحات دليل على عدم وجوب الترجيح، كاختلاف الأخبار
(صفحه 441)
الواردة في البئر ومنزوحاته حيث استكشف منه الاستحباب؛ نظرا إلى أنّالاختلاف خصوصا مع كثرته لايجتمع مع الحكم الإيجابي، بل هو دليل علىأصل الرجحان، والاختلاف محمول على مراتبه من الشدّة والضعف(1).
ونقول: لابدّ من ملاحظة أخبار الترجيح والتكلّم في مفادها حتّى يظهر أنّالمرجّح لإحدى الروايتين على ما هو المجعول شرعا المدلول عليه الأخبارليس إلاّ واحدا أو اثنين، وتقييد أخبار التخيير به لايوجب إخراج أكثرالأفراد، ولا مانع منه أصلاً، خصوصا بعدما عرفت من أنّه ليس في الرواياتالتي ادّعي كونها دليلاً على التخيير إلاّ رواية واحدة دالّة عليه، وقد تقدّمت،وغيرها قاصر من حيث الدلالة جدّا.
والعمدة في هذا الباب هي المقبولة(2)، وذكرها المشايخ الثلاثة، والإشكالفيها من حيث السند؛ لعدم ورود القدح والمدح في شأن عمر بن حنظلة، فلاعتبار لها في نفسها، ولكن يمكن أن يقال: إنّ استناد المشهور إليها في مقامالفتوى ومقبوليّتها عندهم يوجب جبران ضعفها، إلاّ أنّه يستلزم الدور، وليمكن القول بهذا المعنى في نفس المقبولة؛ لعدم إمكان تقوية سندها بما يستفادمن متنها، وهكذا نقل أصحاب الإجماع مثل: صفوان بن يحيى عنه أيضلايوجب جبر ضعف السند كما ذكرنا مرارا.
إلاّ أنّ عدد الرواة عن عمر بن حنظلة في أبواب مختلفة اثنان وعشروننفرا وكلّهم مسلّم الوثاقة إلاّ رجلين منهم، وهذا يوجب الاطمئنان بكونهمورد اعتمادهم.
مضافا إلى ما ذكره الصدوق رحمهالله في مقدّمة كتاب «من لايحضره الفقيه»، من
- (1) درر الفوائد: 665 ـ 667.
- (2) الكافي 1: 67، كتاب فضل العلم باب اختلاف الحديث، الحديث 10.