(صفحه440)
الموجودة في الآخر، والشكّ في باب الحجّيّة والطريقيّة مساوق للقطع بعدمالحجّيّة؛ لأنّها ترجع إلى صحّة احتجاج المولى على العبد وكذا العكس، وليصحّ الاحتجاج مع الشكّ.
وإن لمنقل بأنّ المجعول في مورد التعارض هي الطريقيّة والكاشفيّة له، بلقلنا بأنّ المجعول إنّما هو حكم وجوبي ووظيفة للمكلّف المتحيّر عند تعارضالطريقين عنده؛ نظرا إلى استحالة كون الطريقيّة مجعولة، إمّا مطلقا لأنّها منالاُمور التكوينيّة الغير قابلة لتعلّق الجعل بها، أو في خصوص المقام؛ لاستحالةجعل الطريقيّة للمتناقضين، فالأمر يدور بين التعيين والتخيير؛ لأنّه يحتملتعلّق التكليف الوجوبي بالأخذ بخصوص الخبر الراجح، ويحتمل تعلّقه علىسبيل الوجوب التخييري بكلا الخبرين، والحكم فيه هو الاشتغال أو البراءةعلى خلاف كما عرفت في بابه.
المقام الثاني: في مقتضى الأخبار الواردة في هذا الباب وأنّه هل هووجوب الأخذ بذي المزيّة أم لا؟ وما هي المزية المرجّحة؟
قد يقال بعدم وجوب الترجيح بالمرجّحات المنصوصة ولا بغيرها؛ نظرإلى أنّ ظاهر الأخبار الواردة فيه وإن كان هو الوجوب، إلاّ أنّ مقتضى الجمعبينها وبين أخبار التخيير مطلقا هو حملها على الاستحباب؛ لاستلزام إبقائهعلى ظاهره وتقييد أخبار التخيير بصورة عدم ثبوت شيء من المرجّحاتحمل أخبار التخيير على الفرد النادر وإخراج أكثر الأفراد منها، وهو قبيح، أوإلى أنّ اختلاف الأخبار الواردة في الترجيح في المرجّحات من حيث اشتمالكلّ منها على بعض ممّا لم يشتمل عليه الآخر أو من حيث الاختلاف فيالترتيب بين المرجّحات دليل على عدم وجوب الترجيح، كاختلاف الأخبار
(صفحه 441)
الواردة في البئر ومنزوحاته حيث استكشف منه الاستحباب؛ نظرا إلى أنّالاختلاف خصوصا مع كثرته لايجتمع مع الحكم الإيجابي، بل هو دليل علىأصل الرجحان، والاختلاف محمول على مراتبه من الشدّة والضعف(1).
ونقول: لابدّ من ملاحظة أخبار الترجيح والتكلّم في مفادها حتّى يظهر أنّالمرجّح لإحدى الروايتين على ما هو المجعول شرعا المدلول عليه الأخبارليس إلاّ واحدا أو اثنين، وتقييد أخبار التخيير به لايوجب إخراج أكثرالأفراد، ولا مانع منه أصلاً، خصوصا بعدما عرفت من أنّه ليس في الرواياتالتي ادّعي كونها دليلاً على التخيير إلاّ رواية واحدة دالّة عليه، وقد تقدّمت،وغيرها قاصر من حيث الدلالة جدّا.
والعمدة في هذا الباب هي المقبولة(2)، وذكرها المشايخ الثلاثة، والإشكالفيها من حيث السند؛ لعدم ورود القدح والمدح في شأن عمر بن حنظلة، فلاعتبار لها في نفسها، ولكن يمكن أن يقال: إنّ استناد المشهور إليها في مقامالفتوى ومقبوليّتها عندهم يوجب جبران ضعفها، إلاّ أنّه يستلزم الدور، وليمكن القول بهذا المعنى في نفس المقبولة؛ لعدم إمكان تقوية سندها بما يستفادمن متنها، وهكذا نقل أصحاب الإجماع مثل: صفوان بن يحيى عنه أيضلايوجب جبر ضعف السند كما ذكرنا مرارا.
إلاّ أنّ عدد الرواة عن عمر بن حنظلة في أبواب مختلفة اثنان وعشروننفرا وكلّهم مسلّم الوثاقة إلاّ رجلين منهم، وهذا يوجب الاطمئنان بكونهمورد اعتمادهم.
مضافا إلى ما ذكره الصدوق رحمهالله في مقدّمة كتاب «من لايحضره الفقيه»، من
- (1) درر الفوائد: 665 ـ 667.
- (2) الكافي 1: 67، كتاب فضل العلم باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
(صفحه442)
كون الروايات المذكورة فيه حجّة بيني وبين اللّه ومعتبرة عندي، ونقل روايةعمر بن حنظلة فيه.
ومضافا إلى توثيق النجاشي له على ما هو المحكي عنه، فوجود هذهالقرائن كاف للحكم بوثاقته، خصوصا أنّ وجود تلامذة له مسلّمي الوثاقةيدلّ على وثاقة شيخهم واُستاذهم، فلا يبعد كون الرواية صحيحة أو موثّقة.
وإليك نصّ المقبولة: محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بنالحسين، عن محمّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين، عنعمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبداللّه عليهالسلام عن رجلين من أصحابنا بينهممنازعة في دين أو ميراث، فتحا كما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ـ ومعلوم أنّ المنازعة والتخاصم في هذه الموارد والمراجعة إليهم تكون فيالشبهات الموضوعيّة لا في الشبهات الحكميّة، فلا وجه لما ذكره المحقّق الرشتيفي رسالته في مسألة تقليد الأعلم، من كون المنازعة في الشبهة الحكمية ـ فقال:«من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى طاغوت، وما يحكم له فإنّميأخذ سحتا وإن كان حقّه ثابتا؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر اللّه أن يكفربه، قال اللّه تعالى: «يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوآاْ إِلَى الطَّـغُوتِ...»(1). قلت: فكيفيصنعان؟ قال: «ينطران (إلى) من منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنوحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما،فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّعلينا الراد على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه».
قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونالناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ الحديث.
(صفحه 443)
وذكر هنا المحقّق الرشتي رحمهالله شواهدا لاختصاص التنازع في الشبهاتالحكميّة والرجوع إلى الحاكم بعنوان المفتي لا بعنوان القاضي بأنّ اختيارالحاكمين من طرف المتنازعين قد يكون المقصود صدور حكم واحد منهممعا، وقولهما: حكمنا كذا، وقد يكون المقصود حكم واحد منهما ومعاونة الآخرله في مقدّمات الحكم تحرّزا عن الاشتباه في الحكم، وقوله: حكمت كذا، وقديكون المقصود صدور أصل الحكم من أحدهما وإنفاذه من الآخر، والأخيرانخلاف ظاهر الرواية، والأوّل خلاف صريحها، فلابدّ من حمل الحكم فيهبالمعنى اللغوي ـ أي الفتوى ـ وكان الفتوى في زمان صدور المقبولة بمعنى نقلالرواية، فالاختلاف بين الرجلين كان في الشبهة الحكميّة واختار كلّ منهمرجلاً(1).
ولكن بعد ملاحظة صدر الرواية لايبقى مجال لهذه التأويلات؛ إذ لايعقلمنازعة رجلين من أصحابنا في حكم من الأحكام الإلهيّة ومراجعتهما لحلّالنزاع في الشبهة الحكميّة إلى السلطان أو القاضي المنصوب من قبل السلطان،ولعلّه لميلاحظ صدر الرواية بلحاظ تقطيعها في كتاب الوسائل كما ترى.
مضافا إلى أنّه لا وجه للتنازع في الشبهات الحكميّة؛ إذ لو فرض كونهممجتهدين لامعنى لرجوعهما إلى مجتهد آخر، فإنّ المجتهد يخطّئ من يقول بخلافهوإن كان المخالف أعلم منه، وإن فرض كونهما مقلّدين ـ والمقلد تابع لنظرمرجعه ومقلّده ـ فلا مجال لتنازعهما، فالتحاكم إلى السلطان يكون في الشبهاتالموضوعيّة، والمراجعة إليه في الشبهات الحكميّة مضحك للثكلى.
وهذا المعنى يؤيّد بظاهر رواية داود بن الحصين عن أبي عبداللّه عليهالسلام فيرجلين اتّفقا على عدلين، وجعلا هما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف،
- (1) الفروع الكافي 7: 412.
(صفحه444)
فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال:«ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما، فينفذ حكمه، ولا يلتفت إلىالآخر»(1).
وهكذا يؤيّد بما يظهر من رواية موسى بن أكيل، عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال:سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ منازعة في حقّ، فيتّفقان على رجلينيكونان بينهما، فحكما فاختلفا فيما حكما، قال: «وكيف يختلفان؟» قلت: حكمكلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان، فقال: «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما فيدين اللّه فيُمضي حكمه»(2).
فكلاهما ظاهران في مسألة القضاء، وهكذا في المقبولة، فإنّ الإمام عليهالسلام بعدمذكرنا، قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث،وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر»، الحديث.
والحاصل: أنّ الأوصاف المذكورة في كلام بعنوان المرجّح لاترتبطبالخبرين المتعارضين، فإنّ الأعدليّة والأورعيّة ونحو ذلك تكون منمرجّحات الحاكم، لا من مرجّحات الخبر ولا ملازمة بينهما، مضافا إلى أنّالتخيير في الخبرين المتعارضين أمر شائع، مع أنّه لايعقل التخيير في بابالقضاء وفصل الخصومة وتعارض الحكمين، فلا ترتبط هذه المرجّحات بباباختلاف الروايتين وترجيح إحداهما على الاُخرى.
ثمّ ذكر في المقبولة ـ بعد تساوي الحاكمين في الأوصاف المذكورة ـ ملاحظةمستند حكمهما، فإنّه قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا،لايفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال، فقال: «ينظر إلى ما كان من روياتهم
- (1) الوسائل 18: 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
- (2) المصدر السابق، الحديث 45.