(صفحه 435)
فانّ تعليق الحكم بالتوسعة على مجرّد الجهل وعدم العلم ـ خصوصا معإعادته في الجواب مع كونه مذكورا في السؤال ـ يدلّ على أنّ تمام الموضوعللحكم بالتوسعة هو مجرّد الجهل بالواقع وعدم العلم والتردّد الناشيء من مجيءالحديثين المختلفين، ومن الواضح بقاء التردّد بعد الأخذ بأحدهما؛ لأنّ الأخذبه لايوجب العلم بالواقع، أو قيام أمارة عليه التي لابدّ من الأخذ بها.
وقد عرفت أن التخيير وظيفة مجعولة في مقام الشكّ والتحيّر، وليسمرجعه إلى كون المأخوذ من الخبرين أمارة تعبّديّة في صورة التعارض حتّىيكون قيام الأمارة رافعا لموضوع الحكم بالتوسعة تعبّدا، بل التحقيق: أنّه معالتخيير والأخذ بأحد الخبرين لايرتفع التحيّر والتردّد من البين، والمفروضأنّه الموضوع الفريد للحكم بالتوسعة وجواز الأخذ بما شاء منهما.
ثانيتهما: رواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال عليهالسلام : «إذسمعت من أصحابك الحديث ـ وكلّهم ثقة ـ فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليهالسلام فتردّ عليه»(1).
وهذه الرواية وإن كان ربّما يناقش في دلالتها على التخيير في المتعارضين؛لعدم التعرّض لهما في الموضوع، بل موضوع الحكم بالتوسعة مطلق الحديث،إلاّ أنّ التمسّك بها لمكان كونها من أدلّة التخيير عند الشيخ رحمهالله القائل بهذهالمقالة، وهي قصور أدلّة التخيير عن الدلالة لحال المتحيّر بعد الالتزامبأحدهما.
مضافا إلى أنّه يمكن أن يستفاد من التعبير بالتوسعة المستعملة في سائرروايات التخيير كون الموضوع هو المتعارضان(2)، وإلى أنّ إطلاقه لهما يكفي لنا،
- (1) الوسائل 18: 87 ، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
- (2) المصدر السابق، الحديث 41.
- (3) في الأصل: «المتعارضين» والصحيح ما اُثبت.
(صفحه436)
كما لا يخفى.
وكيف كان، فدلالتها على استمرار التخيير أوضح من الرواية السابقة؛ لأنّهجعلت الغاية للحكم بالتوسعة هي رؤية القائم عليهالسلام والردّ عليه، فتدلّ على بقائهمع عدم حصول الغاية، سواء كان في ابتداء الأمر أو بعد الأخذ بأحد الخبرين،كما لا يخفى. فانقدح أنّه لا مجال لدعوى الإهمال في جميع الروايات الواردة فيباب التخيير»، إنتهى كلامه رفع مقامه(1).
والتحقيق: أنّ هذا كلام جيّد قابل للمساعدة وبعد إثبات استمرار التخييربالروايتين لاتصل النوبة إلى إثباته من طريق الاستصحاب، ولكن نبحث فيهأيضا لمزيد الاطمئنان، وعلى فرض عدم إمكان التمسّك بإطلاق الروايات.
وأمّا الاستصحاب فهل يمكن التمسّك به لبقاء استمرار التخيير أم لا؛لاشتراط اتّحاد الموضوع في القضيّة المتيقّنة والمشكوكة فيه، فلابدّ من ملاحظةما جعل في الأخبار موضوعا للحكم بالتخيير؟ ويحتمل فيه وجوه أربعة:
أحدها: أن يكون الموضوع هو شخص المكلّف مجتهدا كان أو مقلّدا لميعلمما هو الحقّ من الخبرين المتعارضين، كما يستفاد من رواية الحسن بن جهمعن الرضا عليهالسلام .
ثانيها: أن يكون الموضوع هو من لميعلم حقّيّة واحد منهما.
ثالثها: أن يكون الموضوع هو المتحيّر بما هو متحيّر.
رابعها: أن يكون الموضوع خصوص من لميختر أحد الخبرين، كما يظهرمن الشيخ رحمهالله (2)، فعلى الأوّلين لا مانع من الاستصحاب؛ لبقاء الموضوعالمأخوذ في الدليل بعد الأخذ أيضا؛ إذ المكلّف بعد الأخذ لايتبدّل عدم علمه
- (1) معتمد الاُصول 2: 396 ـ 397.
- (2) فرائد الاُصول 2: 764.
(صفحه 437)
بالعلم، وأمّا على الثالث فالظاهر أنّه بعد الأخذ بأحد الخبرين لايبقى متحيّرا،فيتبدّل الموضوع ولا يجري استصحاب بقاء التخيير، وهكذا على الرابع: لعدمبقاء الموضوع بعد اختيار أحد الخبرين والعمل به.
ولكنّ التحقيق: أنّه لا مانع من جريانه على الثالث والرابع أيضا؛ لأنّهبعدما صار الشخص الخارجي موردا للحكم بالتخيير نقول: هذا الشخصكان مخيّرا والآن نشكّ في بقاء تخييره، فهو بعد باق عليه، نظير الاستصحابالجاري في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه.
وبعبارة اُخرى: أنّ الاختيار وعدم الاختيار من حالات الموضوع لا منمقوّماته، فلذا لايكون كلّ منهما موجبا لتغيير الموضوع وتبدّله.
فهذا المجتهد كان مخيّرا وإن كانت العلّة في حدوث التخيير هي عدم الأخذ،ولكن يحتمل أن يكون دخيلاً في الحدوث فقط دون البقاء، فلذا نشكّ في أنّالمؤثّر في الحدوث مؤثّر في البقاء أم لا؟ كالشكّ في أنّ هذا الماء كان نجسلأجل كونه متغيّرا والآن مع عدم كونه متغيّرا بالفعل نشكّ في بقاء نجاسته،فنجري الاستصحاب، فلا إشكال في جريان الاستصحاب.
التنبيهالرابع: في شمول أخبارالتخيير لجميع صورالخبرينالمختلفين
لا إشكال في تحقّق الموضوع المأخوذ في أخبار التخيير ـ وهو مجيءالرجلين بحديثين مختلفين ـ فيما إذا كان سند الروايتين مختلفين جميعا في الأخبارمع الواسطة بأن لم يشتركا أصلاً حتّى في واحد، إنّما الإشكال فيما إذا اشتركا فيمنتهى السلسلة، سواء اشتركا في غيره أم لا، كما إذا روى الكليني بإسنادهحديثا عن زرارة دالاًّ على وجوب شيء، وروى الشيخ بإسناده حديثا عنهأيضا دالاًّ على حرمة ذلك الشيء، أو روى الكليني عنه أيضا ذلك الحديث،
(صفحه438)
فإنّه ربّما يمكن أن يقال بعدم كون هذا المورد مشمولاً لأخبار التخيير أصلاً؛نظرا إلى أنّ المورد هو مجيء الرجلين بحديثين مختلفين، وهنا كان الجائي بهمشخصا واحدا، وهو زرارة فقط، فلا تشمله أدلّة التخيير.
هذا، ولكنّ الظاهر عدم دخالة مجيء الرجلين بما هما رجلان، ولذا لو أتىبحديثين غير رجلين بل امرأتان أو رجل وامرأة، لا شكّ في دخوله فيموردها، مضافا إلى أنّه يستفاد من أدلّة التخيير أنّ الشارع لميرض برفع اليدعن المتعارضين مع كون القاعدة تقتضي التساقط، فخلافه يوجب عدم رفعاليد في المقام أيضا، فلا دخل للرجوليّة والتعدّد في المسألة.
ولو كان الحديث المنقول في الجوامع المتأخّرة مختلفا من حيث النقل عنالجوامع الأوّليّة، مثل: ما إذا روى الكليني في الكافي حديثا عن كتاب الحسينبن سعيد الأهوازي، وروى الشيخ في التهذيب ـ مثلاً ـ مايغايره عن ذلكالكتاب أيضا، فالظاهر أيضا شمول أخبار التخيير له إذا لميعلم بكونالاختلاف مستندا إلى اختلاف نسخ ذلك الكتاب؛ لأنّ الظاهر أنّ مثلالكليني والشيخ لم يعتمدا في نقل الحديث على ما هو المنقول في الكتب،بل كان دأبهم على الأخذ من الشيوخ، إمّا بالقراءة عليهم أو بقرائتهم عليه،فهذا الاختلاف دليل على اختلاف الشيوخ النقلة لهذا الحديث.
نعم، لو كان الاختلاف في نسخ الاُصول المتأخّرة والجوامع الموجودةبأيدينا، كما إذا اختلفت نسخ الكافي ـ مثلاً ـ في حديث، فالظاهر عدم كونهمشمولاً لأخبار التخيير أصلاً؛ لأنّ هذا الاختلاف يكون مستندا إلى الكتابلا محالة، فلا يصدق مجيء الرجلين بحديثين مختلفين.
إلى هنا تمّ البحث عن الخبرين المتعارضين المتكافئين.
(صفحه 439)
المقصد الثاني
في الخبرين المتعارضين مع عدم التكافؤ
والكلام فيه أيضا يقع في مقامين:
المقام الأوّل: فيما يحكم به العقل في هذا الباب
لا يخفى أنّ التكلّم في حكم العقل إنّما هو بناءً على التخيير الثابت بينالخبرين المتعارضين بمقتضى الروايات المذكورة في المقصد السابق، لا بناء علىالتساقط الذي هو مقتضى القاعدة، وهكذا بناء على اعتبار الخبر من بابالطريقيّة، لا بناء على السببيّة؛ لكونها غيرقابلة للالتزام، فلا فائدة للبحثعنها.
وعلى هذا إن قلنا بأنّ المجعول عند التعارض هي الطريقيّة والكاشفيّةللتخيير بعنوان الأصل العملي في مورد الشكّ ـ مثل سائر الاُصول العمليّة فلابدّ من الأخذ بذي المزيّة أو بما يحتمل اشتماله عليها؛ لأنّه يدور الأمر بين أنيكون الطريق المجعول بعد التعارض هو خصوص الخبر الراجح أو أحدهمتخييرا، فحجّيّة الخبر الراجح متيقّنة لاريب فيها عقلاً، وأمّا الخبر غيرالراجحفيشكّ في طريقيّته وكاشفيّته عند التعارض؛ لأنّه يحتمل اعتبار الشارع بالمزيّة