(صفحه450)
بالذات، والآخر بيّن الرشد بالإضافة، ودخول الخبر الموافق للمشهور فيالقسم الثاني، وهذا خلاف الظاهر وبعيد عن الأذهان.
ولكن لابدّ لنا من الالتزام بهذا المعنى بعد ملاحظة ارتباط التعليل بالتثليثوالقرائن المذكورة، وهذا الاستبعاد الجزئي لايوجب رفع اليد عن المعنىالمذكور.
فتكون موافقة الشهرة الفتوائيّة بعنوان المرجّح لإحدى الحجّتين علىالاُخرى كما لا يخفى.
ويمكن أن يقال: إنّ الشهرة في الفتوى أو المجمع عليه يرتبط بباب القضاءوالحكم، كما أنّ الأعدليّة والأصدقيّة ونحو ذلك مربوطة به؛ إذ قال عليهالسلام :«الحكم ما حكم به أعدلهما وأصدقهما في الحديث»، كذلك الشهرة الفتوائية؛إذ قال عليهالسلام : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب»، فكيف يمكن استفادة كونهمرجّحا في باب تعارض الخبرين؟
وجوابه: أنّ الفرق بين الموردين واضح، بأنّ الرواية هناك في صدد بيانأوصاف القاضيين بعنوان المرجّح بدون ملاحظة مستند حكمهما وروايتهما،بخلاف ما نحن فيه، فإنّ محطّ النظر هنا هو مستند حكمهما وأنّ الموافقةللمشهور مرجّح للرواية وصفة لها.
فالمرجّحات المستفادة من المقبولة عبارة عن: موافقة الشهرة، وموافقةالكتاب، ومخالفة العامّة، بخلاف ما ذكره اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله من أنّ المرجّحفي مقام الفتوى الذي تدلّ عليه المقبولة ليس إلاّ موافقة الكتاب، ومخالفةالعامّة(1).
ربّما يقال: إنّ المستفاد من المقبولة مرجّحيّة موافقة الكتاب ومخالفة العامّة
- (1) معتمد الاُصول 2: 406.
(صفحه 451)
في خصوص الخبرين المتعارضين المشهورين، للإرجاع إليهما بعد قول السائل:(فإن كان الخبران عنكما مشهورين).
وجوابه: أنّ الإرجاع بهما بعد عدم كون الشهرة مرجّحا وعدم مرجّحيّتهقد يكون بلحاظ كونهما مشهورين معا، وقد يكون بلحاظ فقدان هذا الوصففيهما معا.
فتحصّل ممّا ذكرنا: أوّلاً: أنّ المقبولة معتبرة من حيث السند.
وثانياً: أنّ المرجّحات المستفادة منها ثلاثة: الشهرة الفتوائيّة، وموافقةالكتاب ومخالفة العامّة.
وأما المرفوعة فقد ذكرها صاحب عوالى اللئالي بقوله: «روى العلاّمةمرفوعا إلى زرارة بن أعين، قال: سألت الباقر عليهالسلام ، فقلت: جعلت فداك، يأتيعنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟ فقال عليهالسلام : «يا زرارة، خذبما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر»، فقلت: يا سيّدي! إنّهما معمشهوران مرويّان مأثوران عنكم؟ فقال عليهالسلام : «خذ بقول أعدلهما عندكوأوثقهما في نفسك»، فقلت: إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان؟ فقال عليهالسلام :«اُنظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه، وخذ بما خالفهم»، قلت: ربّما كانمعا موافقين لهم، أو مخالفين، فكيف أصنع؟ فقال: «إذن فخذ بما فيه الحائطةلدينك، واترك ما خالف الاحتياط»، فقلت: إنّهما معا موافقان للاحتياط أومخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال عليهالسلام : «إذن فتخيّر أحدهما، فتأخذ به وتدعالأخير»(1).
ودلالتها واضحة، لكنّها ضعيفة السند؛ إذ لا سند لها، إلاّ أنّ الشيخ
- (1) عوالي اللئالي 4: 133، 229، مستدرك الوسائل 17: 303، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفاتالقاضي، الحديث 2.
(صفحه452)
الأنصاري رحمهالله بعد نقلها في كتاب الرسائل والاعتراف بضعف سندها كانبصدد جبر ضعف سندها بالشهرة الفتوائيّة وعمل مشهور الأصحاب علىطبقها.
ولكن الشهرة الجابرة على فرض قبولها عبارة عن الشهرة بين القدماء، ولفائدة للشهرة بين المتأخّرين، ولا يترتّب عليها أثر.
والمستفاد منها: أنّ الأعدليّة والأوثقيّة أيضا من المرجّحات، ولكنّ موافقةالكتاب ليس بمذكور فيها، إلاّ أنّ ضعف سندها يوجب عدم الاعتماد عليهوخروج الأعدليّة والأوثقيّة من دائرة المرجّحات وانحصارها في الثلاثةالمذكورة في المقبولة.
فالحاصل: أنّه يمكن تقييد الروايات الدالّة على التخيير في المتعارضينبالمقبولة بعد عدم كونها متكثّرة وعدم لزوم حملها على الموارد النادرة،فالواجب الأخذ بالمرجّحات المذكورة في المقبولة، ولا يصحّ حملها علىالاستحباب.
وربّما يقال: إنّ اختلاف روايات الترجيح من حيث قلّة المرجّحاتوكثرتها من حيث التقديم والتأخير أقوى شاهد على حملها على الاستحباب،نظير اختلاف الأخبار الواردة في البئر ومنزوحاته حيث استكشف منهالاستحباب.
والجواب عنه يحتاج إلى ملاحظة أخبار الترجيح وملاحظة المرجّحاتالمذكورة فيها على حده، فنقول: إنّ من المرجّحات موافقة الكتاب، ولا بدّ منملاحظة ما يدلّ عليها وأنّ المقصود منها ما هو؟
والأخبار الواردة فيما يتعلّق بموافق الكتاب ومخالف الكتاب على طائفتين:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على أنّ الخبر المخالف للكتاب ممّا لميصدر عنهم عليهالسلام
(صفحه 453)
أصلاً.
ومن المعلوم أنّ موافقة الكتاب في الطائفة الاُولى علامة للحجّيّة، والمخالففاقد للحجّيّة، وأمّا في الطائفة الثانية فالظاهر أنّها تكون مرجّحا لإحدىالحجّتين على الاُخرى في مقام التعارض، فيتحقّق الاختلاف بين الطائفتين.
وقد جمع المحقّق النائيني رحمهالله بينهما بحمل المخالفة في الطائفة الاُولى على المخالفةبالتباين الكلّي، وفي الطائفة الثانية على المخالفة بغيره، سواء كان بالعموموالخصوص المطلق أو من وجه(1).
ولكن قال اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله : «إنّ هذا الجمع وإن كان يبعّده اتّحادالتعبيرات الواقعة في الطائفتين من أنّ «المخالف زخرف أو باطل»، و«لم نقله»،أو «اضربه على الجدار»، وغير ذلك من التعبيرات، إلاّ أنّ التحقيق يقتضيالمصير إليه».
وتوضيحه: أنّ إطلاق المخالفة في الطائفة الاُولى يشمل جميع أنحاءالمخالفات: بالتباين أو بالعموم والخصوص بقسميه؛ ضرورة أنّك عرفت فيأوّل هذا الكتاب أنّ السالبة الكلّيّة تناقض الموجبة الجزئيّة وكذا العكس،لكنّك عرفت أنّه في محيط التقنين وجعل الأحكام على سبيل العموم لايعدّمثل العامّ والخاصّ مخالفين أصلاً، ولا يحكمون بتساقطهما في مورد التعارضأو الرجوع إلى المرجّح، فبهذه القرينة العقلائيّة ترفع اليد عن إطلاق الطائفةالاُولى، وانحصارها بخصوص المخالفة بالتباين، سواء كان له معارض أم لا،وقد أورد جملة منها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي،منها: موثّقة السكوني، عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: «قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : إنّ على كلّحقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب
- (1) فوائد الاُصول 4: 791.
(صفحه454)
اللّه فدعوه»(1).
ومنها: رواية أيّوب بن راشد، عن أبي عبداللّه عليهالسلام ، قال: «ما لميوافق منالحديث القرآن فهو زخرف»(2).
ولكنّ العرف يفهم أنّ المراد من قوله: «ما لميوافق» هو مخالف الكتاب، وإليلزم أن يكون كثير من الروايات زخرفا، مثل قوله عليهالسلام : «إذا شككت بينالثلاث والأربع فابن على الأربع» ونحو ذلك، فإنّه لايوافق كتاب اللّه، فيكونمفاد هذه الرواية مع مفاد موثّقة السكوني واحدا، وهو أنّ ما خالف كتاب اللّهوإن لميكن له معارض فهو مردود، أو باطل، أو زخرف، أو غيرصادر عنّا، أولمنقله، بحسب اختلاف التعبيرات في هذه الطائفة.
والطائفة الثانية: ما وردت في خصوص المتعارضين وترجيح الموافقللكتاب على المخالف، مثل: رواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه، قال: قالالصادق عليهالسلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فموافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه»، الحديث(3). وعبّر الشيخ رحمهالله عنها في كتاب الوسائل بالصحيحة.
فلا توجد قرينة في أخبار هذه الطائفة تدلّ على رفع اليد عن إطلاقالمخالفة الواردة فيها، فمقتضاها أنّ في الخبرين المتعارضين يردّ الخبر المخالفللكتاب، سواء كان مخالفته بنحو التباين أو بنحو العموم والخصوص بقسميه،وهذا لاينافي وجوب ردّ الخبر المخالف للكتاب بالمخالفة بنحو التباين ولولميكن له معارض، كما هو مقتضى الطائفة الاُولى(4).
- (1) وسائل الشيعة 27: 109، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
- (2) المصدر السابق، الحديث 12.
- (3) المصدر السابق، الحديث 29.
- (4) معتمد الاُصول 2: 408 ـ 409.