(صفحه 455)
فتكون موافقة الكتاب بعنوان إحدى المرجّحات للخبرين المتعارضين، ولمخالفة بين الطائفة الاُولى والثانية.
وأمّا الأخبار الواردة فيما يتعلّق بمخالفة العامّة فهي أيضا على طائفتين:
الطائفة الاُولى: ما يدلّ على أنّ الخبر الموافق لهم ممّا لم يصدر أصلاً، سواءكان له معارض أم لا، كما هو مقتضى إطلاقها.
والطائفة الثانية: ما وردت في خصوص المتعارضين وأنّه يرجّح الخبرالمخالف لهم على الموافق، معلّلاً في بعضها بأنّ الرشد في خلافهم، ونذكر من كلّالطائفتين رواية بعنوان الشاهد، أمّا من الطائفة الاُولى فما رواه الصدوقبإسناده عن عليّ بن أسباط، قال: قلت للرضا عليهالسلام : يحدث الأمر لا أجد بُدّمن معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال:«ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإنّ الحقّفيه»(1).
وأمّا من الطائفة الثانية فما ذكرناه عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه، قال: قالالصادق عليهالسلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فموافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه، فإن لمتجدوهما في كتاباللّه فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وماخالفأخبارهم فخذوه»(2).
فلابدّ إمّا من حمل الطائفة الاُولى على مورد الطائفة الثانية، والقولباختصاص ذلك أيضا بالمتعارضين، وإمّا من طرح تلك الطائفة وردّ علمهإلى أهلها؛ لعدم إمكان الالتزام بوجوب ردّ مطلق الخبر الموافق للعامّة وإن لم
- (1) الوسائل 27: 115، كتاب القضاء، الباب 9 أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
- (2) المصدر السابق، الحديث 29.
(صفحه456)
يكن له معارض.
فانقدح إلى هنا أن المستفاد من الروايات أن المرجّحات المنصوصة ثلاثة:
إحداها: موافقة الشهرة الفتوائيّة.
الثانية: موافقة الكتاب.
الثالثة: مخالفة العامّة.
إنّما وقع البحث في الترتيب بينها، وأنّ المتقدّم في مقام الترجيح منالأخيرتين أيّهما؟ بعد عدم الإشكال في تقدّم موافقة الشهرة الفتوائيّة عليهموبعد إطلاق الروايات الواردة فيهما، إلاّ أنّ مصحّحة عبدالرحمان بن أبيعبداللّه المتقدّمة ترفع النزاع، لصراحتها في تقدّم الترجيح بموافقة الكتاب علىالترتجيح بمخالفة العامّة، فالظاهر من الأخبار العلاجيّة بعد الدقّة والتأمّل: أنّالواجب علينا رعاية هذه المرجّحات المنصوصة ورعاية الترتيب بينها فيالخبرين المتعارضين، ولا يصحّ الالتزام بالاستصحاب للتعدّي عن المرجّحاتالمنصوصة إلى غيرها.
وهل اللازم في باب الترجيح الاقتصار على خصوص المرجّحاتالمنصوصة التي عرفت انحصارها بالثلاثة المذكورة أو أنّه يتعدّي منها إلى كلّمايمكن أن يكون مرجّحا، كما حكي عن جمهور المجتهدين الذاهب إليه، بلادّعى بعضم عدم ظهور الخلاف في وجوب العمل بالراجح من الدليلين، بلادّعي الإجماع عليه بعد أن حكاه عن جماعة.
واستدلّ الشيخ الأعظم رحمهالله في كتاب الرسائل بوجوه للتعدّي عنهكالترجيح بالأصدقيّة في المقبولة وبالأوثقيّة في المرفوعة، بأنّ اعتبار هاتينالصفتين ليس إلاّ لترتجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر فيالمتعارضين، فنتعدّى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة
(صفحه 457)
لأقربيّة صدورها(1).
ولكنّك عرفت أنّ هذه الأوصاف مرجّحات للقاضيين والحاكمين ولدخل لها بباب الرواية، خصوصا بعد ملاحظة أنّ الغرض في باب القضاء، هوفصل الخصومة واختتام النزاع، فلا مجال للتخيير فيه، فلا يمكن أن يكون كلّما كان مرجّحا في باب القضاء يكون في باب الفتوى أيضا مرجّحا؛ إذ لا دليللتحقّق الملازمة بينهما، كما لا يخفى.
الوجه الثاني الذي استدلّ به الشيخ رحمهالله للتعدّي: هو تعليل الإمام عليهالسلام الأخذبالمشهور بقوله: «فانّ المجمع عليه لا ريب فيه»، وقال: توضيح ذلك: «إنّ معنىكون الرواية مشهورة كونها معروفة عند الكلّ، كما يدلّ عليه فرض السائلكليهما مشهورين، والمراد بالشاذّ: ما لايعرفه إلاّ القليل، ولا ريب أنّ المشهوربهذا المعنى ليس قطعيّا من جميع الجهات ـ قطعي المتن والدلالة ـ حتّى يصيرممّا لا ريب فيه، وإلاّ لميكن فرضهما مشهورين، ولا الرجوع إلى صفاتالراوي قبل ملاحظة الشهرة، ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحاتالاُخر، فالمراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذّ، ومعناه أنّ الريب المحتملفي الشاذّ غير محتمل فيه، فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذّبأنّ في الشاذّ احتمالاً لايوجد في المشهور، ومقتضى التعدّي عن مورد النصّ فيالعلّة وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين أقلّ احتمالاً لمخالفةالواقع»(2). إنتهى.
ويرد عليه: سلّمنا أنّه لو كان للموضوع حكما معلّلاً ـ كما في قولنا: «لتشرب الخمر لأنّه مسكر» ـ يفهم العرف أنّ تمام الملاك لحرمة الشرب هو
- (1) فرائد الاُصول 2: 781.
- (2) فرائد الاُصول 2: 781.
(صفحه458)
السكر، وأنّ الحكم دائر مدار وجود العلّة، وأمّا في المقبولة فليس الأمر كذلك،فإنّ العلّة المذكورة عند ذكر الشهرة لانرى منها أثرا عند ذكر موافقة الكتاببعنوان المرجّح، وهكذا عند ذكر مخالفة العامّة كذلك، وإن كانت العلّة المذكورةمناطا لجميع المرجّحات فلا وجه لرعاية الترتيب بينها، فيستفاد من ذلك أنّلكلّ مرجّح علّة خاصّة ومناطا على حدة بعضها منصوص ومعلوم، وبعضهليس بمعلوم لنا.
وإن كانت العلّة موجبة للتعدّي إلى المرجّحات غير المنصوصة فلابد منالالتزام بتقدّمها على موافقة الكتاب ومخالفة العامّة بمقتضى تحقّق العلّة فيهدونهما، والتالي باطل فالمقدّم مثله، فلا يمكن التمسّك بعموم التعليل هنا.
مضافا إلى أنّ حمل «لا ريب فيه» المطلق على «لا ريب فيه» الإضافيمحدود عرفا بما هو أقرب إلى المطلق من حيث الاحتمال.
نعم، يمكن إثبات التعدّي بأنّ التخيير في الخبرين المتعارضين بمقتضىالروايات على خلاف القاعدة كما عرفت، فإن كان للروايات الدالّة علىالتخيير إطلاق ـ بعد تقييدها بالمرجّحات المنصوصة ـ لايبقى مجال للتعدّيعنها، وإن لم يكن لها إطلاق ـ بعد كونه على خلاف القاعدة ـ يقتصر فيه علىالقدر المتيقّن، وهو فيما لميتحقّق أيّ نوع من المرجّحات، ففي صورة تحقّقالمرجّح غير المنصوص أيضا لاتصل النوبة إلى التخيير.
وهكذا، إن كان مستند التخيير فيهما هو إجماع الفقهاء على خلاف القاعدة،وهو الدليل اللُّبّي، والمتيقّن منه صورة فقد جميع المرجّحات.
هذا تمام الكلام في باب التعادل والتراجيح.
وقد فرغت من تقرير هذا البحث يوم الخميس الخامس عشر من شهرربيع الثاني 1428 هجري قمري، المصادف 13/2/1386 هجري شمسي.
(صفحه 459)