(صفحه50)
اللغة ومن الاختلاف فيها.
ولكنّ المستفاد من موارد استعمال كلمة «الضرار» في القرآن هو ما ذكره فيالقاموس من استعمال الضرر في الخسران الجسمي والمالي، والضرار فيالخسران الاعتقادي والروحي، كما في مثل قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْمَسْجِدًا ضِرَارًا...»(1)، فإنّ الغرض من تأسيس المسجد المذكور إيجاد الضعففي عقائد المسلمين والتشكيك في إيمانهم والتفرقة بينهم، ولا يتصوّر هنالإضرار بين الاثنين والمفاعلة.
وكما في مثل قوله تعالى: «وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا»(2)، والظاهر أنّه في قبالقوله تعالى: «الطَّـلَـقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُم بِمَعْرُوفٍ...»(3).
ومن الروايات الواردة في تفسير الآية ما عن الصادق عليهالسلام : أنّه قال:«لاينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثمّ يراجعها وليس له فيها حاجة ثمّ يطلّقها،فهذا الضرار الذي نهى اللّه عنه إلاّ أن يطلّق ثمّ يراجع وهو ينوي الإمساك»(4).
والمستفاد منها أنّ الإمساك بقصد التحقير وإيجاد النقص الروحي، ومقدّمةللطلاق الثالث أو التاسع بدون الاحتياج إلى الاستمتاع منها يكون إضراربها.
وهكذا في قوله تعالى: «لاَ تُضَآرَّ وَ لِدَةُم بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُو بِوَلَدِهِى»(5)،وفي تفسيرها اختلاف، ويقول بعض: إنّه لايصحّ إيقاع الوالدة موردا للضرربالنسبة إلى ولدها، وهكذا الوالد بالنسبة إلى مولود له، وكأنّه كان عنوانان
- (4) وسائل الشيعة 22: 171، الباب 34 من أقسام الطلاق وأحكامه، الحديث 1.
(صفحه 51)
مستقلاّن: أحدهما: لاتضارّ والدة بولدها، والآخر: لايضارّ مولود له بولده.
هذا، ولكن يستفاد من الروايات الواردة في تفسيرها معنى آخر، منها: معن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: سألته عن قول اللّه:«لاَ تُضَآرَّ وَ لِدَةُم بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُو بِوَلَدِهِى». فقال: «كانت المراضع ممّتدفع إحداهنّ الرجل إذا أراد الجماع تقول: لاأدعك إنّي أخاف أن أحبل فأقتلولدي هذا الذي أرضع، وكان الرجل تدعوه المرأة، فيقول: أخاف أن أجامعكفأقتل ولدي فيدعها ولم يجامعها، فنهى اللّه عزّوجلّ عن ذلك أن يضارّ الرجلالمرأة، والمرأة الرجل»(1).
والمراد امتناع الزوج أو الزوجة المرضعة من الجماع للخوف من الحملالذي يوجب قلّة اللبن الموجب لهلاك الرضيع، ومعلوم أنّ الضرر الموجود هنهو الحرمان من لذّة الجماع.
وهكذا في قضية سمرة بن جندب، قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : «ما أراك يا سمرة إلمضارّا ولا ضرر ولا ضرار»، ومعلوم أنّ انطباق عنوان المضارّ عليه من ناحيةرسول اللّه صلىاللهعليهوآله لايكون لتحقّق الضرر بين الاثنين، بل لإيجاده ضررا عرضيّوروحيّا على الأنصاري.
فيستفاد من ملاحظة الآيات والرويات وكلمات جمع من اللغويّين: أوّلاً: أنّهلا إشكال في اختلاف معنى «لا ضرر» مع «لاضرار»، ولا يكون الثاني تأكيدللأوّل.
وثانياً: أنّ الاختلاف بينهما لايكون اختلاف الثلاثي المجرّد وباب المفاعلةالمتحقّق بين الاثنين، بل هو اختلاف حقيقي، وأنّ الضرر عبارة عن النقصالمالي والضرر الجسمي، والضرار عبارة عن غيره من الضرر الاعتقادي
- (1) وسائل الشيعة 20: 189، الباب 102 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الحديث 1.
(صفحه52)
والعرضي والعاطفي والغريزة الجنسيّة وأمثال ذلك.
والمستفاد من كلام ابن الأثير في النهاية كون «لا» ناهية، فإنّه قال: «لضرر: يعني لايجوز أن يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئا. لا ضرار: يعني لايجوزأن يجاز الرجل على ضرر»، ولكنّه ليس بصحيح، فإنّ «لا» الناهية منمختصّات الفعل لاتدخل على الاسم والمصدر، كما هو ثابت في محلّه، والمصدرقد يكون بمعنى اسم الفاعل، وقد يكون بمعنى اسم المفعول، وكونه بمعنى الفعلمخالف لما عليه أهل النحو، فلا يجوز الالتزام به.
والمتّفق عليه تقريبا عند الأعاظم هو كون «لا» نافية بنفي الجنس، إلاّ أنّنفي الضرر عن الإسلام بالنفي الحقيقي خلاف للواقع كما قال به الشيخالأنصاري رحمهالله فلابدّ من ارتكاب المجاز هنا والالتزام به، بأنّ معناه أنّه: «لميشرّع الشارع حكما ضرريا، سواء كان حكما تكليفيّا أو وضعيّا، فلميشرّعالشارع الوضوء الضرري، والصوم الضرري، ولميحكم باللزوم في المعاملةالغبنيّة مثلاً، ولكنّ البحث في أنّ المجاز هنا من قبيل استعمال اللفظ الموضوعللمسبّب في السبب ـ أي لم يجعل الشارع ما هو سببا للضرر ـ أو أنّه من المجازفي الحذف والتقدير، أو إرجاعه إلى حقيقة ادّعائيّة، كما ذكره السكّاكي فيالاستعارة وبعض في جميع المجازات، والتحقيق في محلّه.
والتزم عدّة من الأعاظم بأنّ استعمال قوله: «لا ضرر ولا ضرار» استعمالحقيقي بدون ارتكاب أيّ نوع من المجاز والعناية كالمحقّق الحائري والنائيني رحمهالله والعراقي رحمهالله ، وذكر كلّ منهم وجهاً للمدّعى، إلاّ أنّ الوجوه متقاربة، والمفصّلمنها ماذكره المحقّق النائيني رحمهالله فإنّه ذكر للمدّعى مقدّمات ثمّ استفاد منهالاستعمال الحقيقي، ولكن لابدّ لنا من نقل بعضها على نحو الاختصار:
منها: أنّه قال: لافرق بين حديث «لا ضرر ولا ضرار» وحديث الرفع،
(صفحه 53)
فإنّ ما تعلّق به الرفع من الواقعيّات الخارجيّة المتحقّقة ففي بادي النظر لايمكننسبة الرفع إليها حقيقة، فلابدّ من القول بارتكاب المجاز، وأنّ المؤاخذة فيالتقدير كأنّه قال: «رفع المؤاخذة على ما لا يعلمون، ورفع المؤاخذة على ماستكرهوا عليه» وأمثال ذلك.
ولكنّ الرفع في عنوان الحديث بحسب الدقّة والتأمّل رفع انشائي في عالمالتشريع، لا في مقام الإخبار والحكاية عن الواقعيّات الخارجيّة وتختلفالعناوين المتعلّق بها الرفع التشريعي، فإنّ رفع بعضها يكون بنفسه، مثل: «ملا يعلمون» إذا كان الموصول بمعنى الحكم المجهول، فالمرفوع في عالم التشريعحقيقة هو الحكم المجهول بحسب الحكم الظاهري لابعنوان الحكم الواقعي،ورفع بعضها يكون برفع أثره، مثل: «رفع النسيان» إذا كان النسيان بمعنىالمنسي، وفي عالم التشريع إذا كان أثر موضوع مرفوعا معناه رفع نفسالموضوع، فلا فرق في الاستعمال الحقيقي هنا بين أن يكون المرفوع نفسالشيء أو آثاره، فالرفع حقيقي بدون أيّ نوع من المجاز والعناية والتقدير.
ثمّ قال: إنّه يجري هذا المعنى بعينه في حديث «لا ضرر»؛ إذ لا فرق في نفيالضرر الإنشائي تشريعا في تعلّق النفي بنفس الضرر أو آثاره من حيثالاستعمال الحقيقي.
ومنها: أنّه قال إنّ الجمل قد تكون متمحّضة في الإنشائيّة، ولا تكون فيهشائبة من الإخبار، مثل: «وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»، و«لا يشرب الخمر»، وأمثالذلك، وقد تكون متمحّضة في الخبريّة، وهي عبارة عن الجمل التي كانالموضوع فيها من الجوامد لا من المشتقّات، ولم يكن مصدّرا بكلمة «ليس»و«لا» وأمثال ذلك، والمحمول فيها لم يكن من الإيقاعات كالعتق والطلاقوأمثال ذلك، مثل: «زيد قائم»؛ إذ المحمول إذا كان من الإيقاعات يكون له
(صفحه54)
عنوان الانشائيّة، مثل جملة: «الوطي في العدّة الرجعيّة رجوع عن الطلاق»،والمحمول هنا من الإيقاعات، فإنّ الرجوع من الطلاق إيقاع باختيار الزوج،وإن كانت هذه الجملة بحسب الظاهر خبريّة، ولكن باطنها جملة إنشائيّة؛ إذالشارع ينشأ بها: أنّ ممّا يوجب الرجوع عن الطلاق هو الوطي، وقد تكونمشتركة بين الإنشائيّة والخبريّة مثل جملة: «يعيد الصلاة» فإنّها جملة خبريّة،ولكن إذا صدرت في مقام الجواب عن السؤال تصير إنشائيّة، وهكذا مثلكلمة «بعت» قد يستعمل في مقام الإنشاء، وقد يستعمل في مقام الإخبار إذصدرت بعد الاستخبار عن وضع ملك كذا مثلاً.
ولا يخفى أنّ اختلاف الاستعمال لايرتبط بالوضع، بل يرتبط بالمداليلالسياقيّة، وأنّ سياق الكلام قد يقتضي الإخباريّة إذا وقع في الجواب عنالسؤال، وقد يقتضي الإنشائيّة إذا وقع في مقام النقل والانتقال، ويمكن اجتماعالإنشائيّة والإخباريّة في جملة واحدة بلحاظ خصوصيّات المورد، فلا مانعمن الالتزام بذلك في قوله: «لا ضرر»، وأنّ المدلول السياقي فيه يختلف بحسباختلاف الموارد، وكون «لا» نافية في كثير من الموارد وناهية في بعض الموارد،وهذا لايوجب أن لايكون الاستعمال حقيقيّا.
ثمّ قال بعد ذكر المقدّمات: إنّ أصوب الوجوه في معنى «لا ضرر» أنّه ينفيالحكم الضرري على نحو الحقيقة بدون أيّ نوع من المسامحة والتجوّز.
ثمّ قال: لا يتوهّم أنّ للضرر في الواقعيّات الخارجيّة عنوانين: أحدهمالعنوان الأوّلى الأصلي، والآخر العنوان الثانوي المتولّد والمسبّب من الأوّل، إذتحقّق الضرب ـ مثلاً ـ في الخارج، فالضرب عنوان من العناوين الأوّليّة،والعنوان المسبّبي المتولّد منه عبارة عن الضرر إن كان معنى «لا ضرر» النفيعلى نحو البسيط في قبال النفي المركّب ـ أي كان مثل «ليس زيد» لا مثل