(صفحه 55)
«ليس زيد بعالم» ـ فيرتبط النفي بالاُمور التكوينيّة بمعنى توجّهه إلى الأفعالالتي لها عنوانان، والعنوان الثانوي المتولّد من العنوان الأوّلي عبارة عنالضرر، فينطبق في الشرعيّات بعنوان المجازي لا بعنوان الحقيقي.
فإنّا نقول: هذا توهّم فاسد؛ لانطباق ما ذكر بعينه في الشرعيّات بأنّ لزومعقد البيع ولو في المعاملة الغبنيّة عنوان أوّلي، والعنوان الثانوي المتولّد منه هوالضرر، وهكذا في إيجاب الوضوء ـ مثلاً ـ إن كان ضرريّا، ولا فرق بينهما إلأنّ نفس الحكم واللزوم في المعاملة الغبنيّة مستلزم للضرر بدون أيّ واسطة فيالبين، وأمّا الموجب للضرر في مسألة إيجاب الوضوء ليس نفس الإيجاب، بلهو عبارة عن الوضوء الخارجي، ولكن بلحاظ مقهوريّة إرادة المكلّف لحكمالشارع يصحّ استناد الضرر إلى الحكم، والإيجاب استناد المعلول إلى العلة،فنقول: إيجاب الوضوء يكون ضرريّا ومستلزما للضرر.
نعم، إذا كان لكلّ السبب والمسبّب وجود مستقلّ ـ كحركة اليد وحركةالمفتاح ـ لايصحّ إطلاق أحدهما على الآخر على نحو الحقيقة، وأمّا إذالم يكنكذلك فلا مانع؛ لإطلاق أحدهما على الآخر كالضرب والتألّم بدون أيّ نوعمن المجازيّة، ففي ما نحن فيه يصحّ القول بأنّ الحكم الذي يتولّد منه الضرر،والضرر لباسه لايتحقّق في محيط التشريع، فلزوم البيع في المعاملة الغبنيّةلايتحقّق، وإيجاب الوضوء الضرري لايتحقّق، فلا إشكال في نفي الحكمالضرري بقوله: «لا ضرر» على نحو الحقيقة(1). هذا تمام كلامه مع التوضيحوالتصرّف منا.
ولكن التحقيق: أنّ ما ذكره في المقدّمة الاُولى ـ من عدم مجازيّة إسناد الرفعإلى الشيء بلحاظ آثاره وإسناد النفي إليه بلحاظ آثاره، بل هي حقيقيّة في
- (1) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم والاُصولي محمّد حسن الغروي النائيني: 110.
(صفحه56)
عالم التشريع ـ ليس بتامّ.
توضيح ذلك: أنّ المجاز قد يكون في الكلمة، مثل: «رأيت أسدا يرمي»،وقد يكون في الإسناد، مثل: «أنبت الربيع البقل»، فإنّ إسناد الإنبات إلىالربيع دون الباري تعالى مجازي، والمجاز في حديث الرفع عند القائل به مجازفي الإسناد إن كان معناه أنّ شرب الخمر عن إكراه في جوّ الشرع لا حرمة فيهولا حدّ عليه، فلا إشكال فيه، وأمّا اسناد الرفع إلى ما استكرهوا عليه ـ أيإلى شرب الخمر في الواقع ـ بمعنى أنّ هذا ليس بشرب الخمر فكيف يكونإسنادا حقيقيّا ولو في محيط التشريع؟ مع أنّه لا فرق بين الشارع وغيره فيالاستعمالات، ولا دخل للشارع بما أنّه شارع في كيفيّة الاستعمال، لتبعيّةاستعمالاته الاستعمالات العرفيّة من حيث الحقيقة والمجاز، ففي الاستعمالاتالعرفيّة يمكن نفي الرجوليّة بلحاظ نفي الآثار مجازا أو بعنوان الحقيقة الادّعائيّةلا الحقيقة الواقعيّة، وهكذا في الاستعمالات الشرعيّة بلا فرق بينهما أصلاً.
وأمّا ما ذكره في المقدّمة الثانية ـ من ارتباط الإخبار والإنشاء في مثل كلمة«بعت» بمداليل السياق لا بالوضع والموضوع له وأنّ السياق قد يقتضي دلالتهعلى الخبر، وقد يقتضي دلالتها على الإنشاء ـ فلابدّ من ملاحظته حتّى يتّضحما هو الواقع، فنقول: إنّ مادّة كلمه «بعت» ـ أي البيع ـ وضعت للمعنىالمشترك بين جميع الهيئات المشتقّة، وأمّا هيئتها فلا إشكال في عدم كونها منالألفاظ المهملة، بل لها أيضا وضع كسائر الألفاظ المشتقّة، وحينئذ فيحتملأن يكون بصورة تعدّد الوضع بأنّها وضعت تارة للمعني الإنشائي إذاستعملت في مقام إنشاء التمليك والنقل والإنتقال، واُخرى للمعنى الإخباريإذا استعملت في مقام الحكاية عمّا مضى، كما هو الحقّ، ويحتمل أن يكونبالوضع الواحد بصورة المشترك المعنوي للقدر المشترك بين الإنشاء
(صفحه 57)
والإخبار، فنحتاج إلى القرينة المعيّنة في مقام الاستعمال، وهي قد تكون عبارةعن السياق، وقد تكون غيره من القرائن الاُخرى، ولا مانع منه بحسب بادئالنظر.
ولكن قلنا: إنّ الوضع في باب الحروف عامّ والموضوع له خاصّ، بمعنىلحاظ الواضع كلّي الابتداء ـ مثلاً ـ ثمّ وضع لفظ «من» لمصاديقه، بخلافما ذكره صاحب الكفاية رحمهالله ، وللهيئة أيضا عنوان حرفي مثل كلمة «من»والهيئات من ملحقات الحروف في باب الوضع، والمعنى الحرفي مساوقالجزئيّة والفرديّة والتشخّص والمصداقيّة الواقعيّة الخارجيّة لا الذهنيّة، فليمكن وضع هيئة «بعت» للقدر المشترك والجامع بين الإنشاء والإخبار؛ إذالجامع معنى إسمي، وليس لمصاديق الابتداء جامع بل لايصوّر سوى مفهومالابتداء، وهو معنى إسمي، فالقدر المشترك من العناوين الكلّيّة الاسميّة، ومنشاهد في باب الحرف بعنوان الموضوع له عبارة عن المصاديق والأفراد،فكيف يمكن أن يكون المصداق قدر الجامع؟فلابدّ من الالتزام بتعدّد الوضع،بأنّ الواضع بعد ملاحظة كلّي البيع الإنشائي في المقام وضع كلمة «بعت»لمصاديقه، ثمّ لاحظ كلّي البيع الإخباري ووضعها لمصاديقه، فما ذكره منارتباط الإنشاء والإخبار بالمداليل السياقيّه لا بالوضع والموضوع له ليسبتامّ.
وهكذا ما ذكره في ذيل كلامه ـ من ارتباط العلّيّة والمعلوليّة بين إيجابالوضوء، والوضوء الخارجي الضرري، وأنّ إرادة العبد مقهورة لحكم المولىفي عالم التشريع ـ ليس بصحيح، فإنّ المشاهد في الخارج أنّ إطاعة الأمربالوضوء ضرري، ولا تحقّق نسبة العليّة التامّة والمعلوليّة بين الأمر وإطاعته،وإلاّ لميتحقّق العصيان والمخالفة أصلاً، ولا العلّيّة الناقصة، فإنّ معناها إيصال
(صفحه58)
المطيع العلّيّة الناقصة بمرحلة الكمال وانسداد العاصي من تأثيرها، وهوكما ترى.
والتحقيق في مسألة الإطاعة والعصيان: أنّ المكلّف بعد ملاحظة الأمروترتّب الثواب على إطاعته والعقاب على مخالفته يختار طرف الإتيان به، وقديختار طرف العصيان؛ لعدم مبالاته في الدين أو اتّكالاً على العفو والشفاعةوالتوبة، فلا يرتبط العصيان والإطاعة بالأمر، بل يتحقّق بسبب الأمر موضوعللموافقة والمخالفة فقط، ولا علّيّة له، فكيف يمكن استناد الضرر المربوطبالإطاعة إلى الأمر وإيجاب الوضوء؟
وأمّا المثال المذكور في مسألة الإيلام والضرب، أو القتل والضرب وأنّترتّب الإيلام على الضرب ترتّب عِلّي، مع عدم استقلالهما في الوجود، وإطلاقأحدهما على الآخر شائع.
فيرد عليه: أوّلاً: أنّ الاتّحاد في الوجود لايرتبط بعالم الألفاظ والاستعمال،سواء كان الاتّحاد فيه على الدوام أو أحيانا، ولا يسري الاتّحاد الوجودي إلىعالم المفاهيم، وإلاّ يجوز استعمال لفظ الإنسان مكان لفظ الضاحك أوبالعكس، لاتّحادهما من حيث الوجود دائما، ويجوز استعمال لفظ الغصبمكان الصلاة أو بالعكس، لاتّحادهما من حيث الوجود أحيانا.
وثانياً: لو سلّمنا أنّ إطلاق أحدهما على الآخر شائع، لكنّ الشياع هليكون بنحو الحقيقة أو بنحو المجاز؟ والأوّل لا طريق لإثباته، والثاني خلافالمدّعى، فما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله من دلالة «لا ضرر» على نفي الحكمالضرري بالدلالة الحقيقيّة لا بالمسامحة ولا بالحقيقة الادّعائيّة ليس بتامّ، كملا يخفى.
وقال صاحب الكفاية رحمهالله : «إنّ الأصل الأوّلي في مثل قوله: «لا ضرر ول
(صفحه 59)
ضرار» هو نفي الماهيّة والحقيقة، إلاّ أنّه قد يكون بنحو الحقيقة كما في مثل «لرجل في الدار»، وقد يكون بنحو الادّعاء والكناية بلحاظ عدم تحقّق الحكمأو الصفة المترقبة عن مدخول «لا»، مثل قوله: «يا أشباه الرجال ولا رجال»،وقوله: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد».
ولا يخفى أنّ نفي أوصاف الرجوليّة ـ كالشجاعة والسخاوة وأمثال ذلك وإن كان صحيحا، ولكنّه لايكون واجدا للخصوصيّة البلاغيّة، وأمّا نفىالماهيّة والحقيقة بلحاظ فقدان الآثار والأوصاف فلا بأس في واجديّتهللمرتبة الكاملة من البلاغة، وما نحن فيه من هذا القبيل، كما إذا قلنا: لا قمار فيالإسلام، لا سرقة في الإسلام، لا أكل مال بالباطل في الإسلام»(1).
هذا حاصل ما يستفاد من الكفاية وحاشية الرسائل في المقام.
ويرد عليه: أنّ هذا البيان صحيح وقابل للالتزام في مثل «لا صلاة، ولرجال»، فإنّ موضوعيّة ماهيّة الصلاة للأحكام والآثار ـ كالمعراجيّة مثلاً لا شبهة فيها، وهكذا موصوفيّة ماهيّة الرجل للأوصاف، فيصحّ نفي الماهيّةبنحو الحقيقة الادّعائيّة بلحاظ فقدان الآثار والأوصاف، بخلاف مثل قوله:«لا ضرر»؛ فإنّ ماهيّة الضرر لا تكون موضوعة للآثار والأحكام كملا يخفى، والموضوع لها هو الوضوء الضرري، ولزوم المعاملة الغبنيّة ونحو ذلك،والمنفي هو الضرر، بما أنّه عنوان الضرر، فلا أحكام في البين حتّى تكون نفيالماهيّة بلحاظ فقدانها.
أمّا القول بالمجازيّة بعلاقة السببيّة والمسببيّة بإطلاق لفظ الضرر الموضوعللمسبّب في السبّب بنحو المجاز والمسامحة، وكون المراد من نفي الضرر هو نفيالحكم الضرري، فهو أيضا ليس بصحيح بعد إنكار أصل السببيّة، كما مرّ في
- (1) كفاية الاُصول 2: 268.