(صفحه52)
والعرضي والعاطفي والغريزة الجنسيّة وأمثال ذلك.
والمستفاد من كلام ابن الأثير في النهاية كون «لا» ناهية، فإنّه قال: «لضرر: يعني لايجوز أن يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئا. لا ضرار: يعني لايجوزأن يجاز الرجل على ضرر»، ولكنّه ليس بصحيح، فإنّ «لا» الناهية منمختصّات الفعل لاتدخل على الاسم والمصدر، كما هو ثابت في محلّه، والمصدرقد يكون بمعنى اسم الفاعل، وقد يكون بمعنى اسم المفعول، وكونه بمعنى الفعلمخالف لما عليه أهل النحو، فلا يجوز الالتزام به.
والمتّفق عليه تقريبا عند الأعاظم هو كون «لا» نافية بنفي الجنس، إلاّ أنّنفي الضرر عن الإسلام بالنفي الحقيقي خلاف للواقع كما قال به الشيخالأنصاري رحمهالله فلابدّ من ارتكاب المجاز هنا والالتزام به، بأنّ معناه أنّه: «لميشرّع الشارع حكما ضرريا، سواء كان حكما تكليفيّا أو وضعيّا، فلميشرّعالشارع الوضوء الضرري، والصوم الضرري، ولميحكم باللزوم في المعاملةالغبنيّة مثلاً، ولكنّ البحث في أنّ المجاز هنا من قبيل استعمال اللفظ الموضوعللمسبّب في السبب ـ أي لم يجعل الشارع ما هو سببا للضرر ـ أو أنّه من المجازفي الحذف والتقدير، أو إرجاعه إلى حقيقة ادّعائيّة، كما ذكره السكّاكي فيالاستعارة وبعض في جميع المجازات، والتحقيق في محلّه.
والتزم عدّة من الأعاظم بأنّ استعمال قوله: «لا ضرر ولا ضرار» استعمالحقيقي بدون ارتكاب أيّ نوع من المجاز والعناية كالمحقّق الحائري والنائيني رحمهالله والعراقي رحمهالله ، وذكر كلّ منهم وجهاً للمدّعى، إلاّ أنّ الوجوه متقاربة، والمفصّلمنها ماذكره المحقّق النائيني رحمهالله فإنّه ذكر للمدّعى مقدّمات ثمّ استفاد منهالاستعمال الحقيقي، ولكن لابدّ لنا من نقل بعضها على نحو الاختصار:
منها: أنّه قال: لافرق بين حديث «لا ضرر ولا ضرار» وحديث الرفع،
(صفحه 53)
فإنّ ما تعلّق به الرفع من الواقعيّات الخارجيّة المتحقّقة ففي بادي النظر لايمكننسبة الرفع إليها حقيقة، فلابدّ من القول بارتكاب المجاز، وأنّ المؤاخذة فيالتقدير كأنّه قال: «رفع المؤاخذة على ما لا يعلمون، ورفع المؤاخذة على ماستكرهوا عليه» وأمثال ذلك.
ولكنّ الرفع في عنوان الحديث بحسب الدقّة والتأمّل رفع انشائي في عالمالتشريع، لا في مقام الإخبار والحكاية عن الواقعيّات الخارجيّة وتختلفالعناوين المتعلّق بها الرفع التشريعي، فإنّ رفع بعضها يكون بنفسه، مثل: «ملا يعلمون» إذا كان الموصول بمعنى الحكم المجهول، فالمرفوع في عالم التشريعحقيقة هو الحكم المجهول بحسب الحكم الظاهري لابعنوان الحكم الواقعي،ورفع بعضها يكون برفع أثره، مثل: «رفع النسيان» إذا كان النسيان بمعنىالمنسي، وفي عالم التشريع إذا كان أثر موضوع مرفوعا معناه رفع نفسالموضوع، فلا فرق في الاستعمال الحقيقي هنا بين أن يكون المرفوع نفسالشيء أو آثاره، فالرفع حقيقي بدون أيّ نوع من المجاز والعناية والتقدير.
ثمّ قال: إنّه يجري هذا المعنى بعينه في حديث «لا ضرر»؛ إذ لا فرق في نفيالضرر الإنشائي تشريعا في تعلّق النفي بنفس الضرر أو آثاره من حيثالاستعمال الحقيقي.
ومنها: أنّه قال إنّ الجمل قد تكون متمحّضة في الإنشائيّة، ولا تكون فيهشائبة من الإخبار، مثل: «وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»، و«لا يشرب الخمر»، وأمثالذلك، وقد تكون متمحّضة في الخبريّة، وهي عبارة عن الجمل التي كانالموضوع فيها من الجوامد لا من المشتقّات، ولم يكن مصدّرا بكلمة «ليس»و«لا» وأمثال ذلك، والمحمول فيها لم يكن من الإيقاعات كالعتق والطلاقوأمثال ذلك، مثل: «زيد قائم»؛ إذ المحمول إذا كان من الإيقاعات يكون له
(صفحه54)
عنوان الانشائيّة، مثل جملة: «الوطي في العدّة الرجعيّة رجوع عن الطلاق»،والمحمول هنا من الإيقاعات، فإنّ الرجوع من الطلاق إيقاع باختيار الزوج،وإن كانت هذه الجملة بحسب الظاهر خبريّة، ولكن باطنها جملة إنشائيّة؛ إذالشارع ينشأ بها: أنّ ممّا يوجب الرجوع عن الطلاق هو الوطي، وقد تكونمشتركة بين الإنشائيّة والخبريّة مثل جملة: «يعيد الصلاة» فإنّها جملة خبريّة،ولكن إذا صدرت في مقام الجواب عن السؤال تصير إنشائيّة، وهكذا مثلكلمة «بعت» قد يستعمل في مقام الإنشاء، وقد يستعمل في مقام الإخبار إذصدرت بعد الاستخبار عن وضع ملك كذا مثلاً.
ولا يخفى أنّ اختلاف الاستعمال لايرتبط بالوضع، بل يرتبط بالمداليلالسياقيّة، وأنّ سياق الكلام قد يقتضي الإخباريّة إذا وقع في الجواب عنالسؤال، وقد يقتضي الإنشائيّة إذا وقع في مقام النقل والانتقال، ويمكن اجتماعالإنشائيّة والإخباريّة في جملة واحدة بلحاظ خصوصيّات المورد، فلا مانعمن الالتزام بذلك في قوله: «لا ضرر»، وأنّ المدلول السياقي فيه يختلف بحسباختلاف الموارد، وكون «لا» نافية في كثير من الموارد وناهية في بعض الموارد،وهذا لايوجب أن لايكون الاستعمال حقيقيّا.
ثمّ قال بعد ذكر المقدّمات: إنّ أصوب الوجوه في معنى «لا ضرر» أنّه ينفيالحكم الضرري على نحو الحقيقة بدون أيّ نوع من المسامحة والتجوّز.
ثمّ قال: لا يتوهّم أنّ للضرر في الواقعيّات الخارجيّة عنوانين: أحدهمالعنوان الأوّلى الأصلي، والآخر العنوان الثانوي المتولّد والمسبّب من الأوّل، إذتحقّق الضرب ـ مثلاً ـ في الخارج، فالضرب عنوان من العناوين الأوّليّة،والعنوان المسبّبي المتولّد منه عبارة عن الضرر إن كان معنى «لا ضرر» النفيعلى نحو البسيط في قبال النفي المركّب ـ أي كان مثل «ليس زيد» لا مثل
(صفحه 55)
«ليس زيد بعالم» ـ فيرتبط النفي بالاُمور التكوينيّة بمعنى توجّهه إلى الأفعالالتي لها عنوانان، والعنوان الثانوي المتولّد من العنوان الأوّلي عبارة عنالضرر، فينطبق في الشرعيّات بعنوان المجازي لا بعنوان الحقيقي.
فإنّا نقول: هذا توهّم فاسد؛ لانطباق ما ذكر بعينه في الشرعيّات بأنّ لزومعقد البيع ولو في المعاملة الغبنيّة عنوان أوّلي، والعنوان الثانوي المتولّد منه هوالضرر، وهكذا في إيجاب الوضوء ـ مثلاً ـ إن كان ضرريّا، ولا فرق بينهما إلأنّ نفس الحكم واللزوم في المعاملة الغبنيّة مستلزم للضرر بدون أيّ واسطة فيالبين، وأمّا الموجب للضرر في مسألة إيجاب الوضوء ليس نفس الإيجاب، بلهو عبارة عن الوضوء الخارجي، ولكن بلحاظ مقهوريّة إرادة المكلّف لحكمالشارع يصحّ استناد الضرر إلى الحكم، والإيجاب استناد المعلول إلى العلة،فنقول: إيجاب الوضوء يكون ضرريّا ومستلزما للضرر.
نعم، إذا كان لكلّ السبب والمسبّب وجود مستقلّ ـ كحركة اليد وحركةالمفتاح ـ لايصحّ إطلاق أحدهما على الآخر على نحو الحقيقة، وأمّا إذالم يكنكذلك فلا مانع؛ لإطلاق أحدهما على الآخر كالضرب والتألّم بدون أيّ نوعمن المجازيّة، ففي ما نحن فيه يصحّ القول بأنّ الحكم الذي يتولّد منه الضرر،والضرر لباسه لايتحقّق في محيط التشريع، فلزوم البيع في المعاملة الغبنيّةلايتحقّق، وإيجاب الوضوء الضرري لايتحقّق، فلا إشكال في نفي الحكمالضرري بقوله: «لا ضرر» على نحو الحقيقة(1). هذا تمام كلامه مع التوضيحوالتصرّف منا.
ولكن التحقيق: أنّ ما ذكره في المقدّمة الاُولى ـ من عدم مجازيّة إسناد الرفعإلى الشيء بلحاظ آثاره وإسناد النفي إليه بلحاظ آثاره، بل هي حقيقيّة في
- (1) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم والاُصولي محمّد حسن الغروي النائيني: 110.
(صفحه56)
عالم التشريع ـ ليس بتامّ.
توضيح ذلك: أنّ المجاز قد يكون في الكلمة، مثل: «رأيت أسدا يرمي»،وقد يكون في الإسناد، مثل: «أنبت الربيع البقل»، فإنّ إسناد الإنبات إلىالربيع دون الباري تعالى مجازي، والمجاز في حديث الرفع عند القائل به مجازفي الإسناد إن كان معناه أنّ شرب الخمر عن إكراه في جوّ الشرع لا حرمة فيهولا حدّ عليه، فلا إشكال فيه، وأمّا اسناد الرفع إلى ما استكرهوا عليه ـ أيإلى شرب الخمر في الواقع ـ بمعنى أنّ هذا ليس بشرب الخمر فكيف يكونإسنادا حقيقيّا ولو في محيط التشريع؟ مع أنّه لا فرق بين الشارع وغيره فيالاستعمالات، ولا دخل للشارع بما أنّه شارع في كيفيّة الاستعمال، لتبعيّةاستعمالاته الاستعمالات العرفيّة من حيث الحقيقة والمجاز، ففي الاستعمالاتالعرفيّة يمكن نفي الرجوليّة بلحاظ نفي الآثار مجازا أو بعنوان الحقيقة الادّعائيّةلا الحقيقة الواقعيّة، وهكذا في الاستعمالات الشرعيّة بلا فرق بينهما أصلاً.
وأمّا ما ذكره في المقدّمة الثانية ـ من ارتباط الإخبار والإنشاء في مثل كلمة«بعت» بمداليل السياق لا بالوضع والموضوع له وأنّ السياق قد يقتضي دلالتهعلى الخبر، وقد يقتضي دلالتها على الإنشاء ـ فلابدّ من ملاحظته حتّى يتّضحما هو الواقع، فنقول: إنّ مادّة كلمه «بعت» ـ أي البيع ـ وضعت للمعنىالمشترك بين جميع الهيئات المشتقّة، وأمّا هيئتها فلا إشكال في عدم كونها منالألفاظ المهملة، بل لها أيضا وضع كسائر الألفاظ المشتقّة، وحينئذ فيحتملأن يكون بصورة تعدّد الوضع بأنّها وضعت تارة للمعني الإنشائي إذاستعملت في مقام إنشاء التمليك والنقل والإنتقال، واُخرى للمعنى الإخباريإذا استعملت في مقام الحكاية عمّا مضى، كما هو الحقّ، ويحتمل أن يكونبالوضع الواحد بصورة المشترك المعنوي للقدر المشترك بين الإنشاء