(صفحه 57)
والإخبار، فنحتاج إلى القرينة المعيّنة في مقام الاستعمال، وهي قد تكون عبارةعن السياق، وقد تكون غيره من القرائن الاُخرى، ولا مانع منه بحسب بادئالنظر.
ولكن قلنا: إنّ الوضع في باب الحروف عامّ والموضوع له خاصّ، بمعنىلحاظ الواضع كلّي الابتداء ـ مثلاً ـ ثمّ وضع لفظ «من» لمصاديقه، بخلافما ذكره صاحب الكفاية رحمهالله ، وللهيئة أيضا عنوان حرفي مثل كلمة «من»والهيئات من ملحقات الحروف في باب الوضع، والمعنى الحرفي مساوقالجزئيّة والفرديّة والتشخّص والمصداقيّة الواقعيّة الخارجيّة لا الذهنيّة، فليمكن وضع هيئة «بعت» للقدر المشترك والجامع بين الإنشاء والإخبار؛ إذالجامع معنى إسمي، وليس لمصاديق الابتداء جامع بل لايصوّر سوى مفهومالابتداء، وهو معنى إسمي، فالقدر المشترك من العناوين الكلّيّة الاسميّة، ومنشاهد في باب الحرف بعنوان الموضوع له عبارة عن المصاديق والأفراد،فكيف يمكن أن يكون المصداق قدر الجامع؟فلابدّ من الالتزام بتعدّد الوضع،بأنّ الواضع بعد ملاحظة كلّي البيع الإنشائي في المقام وضع كلمة «بعت»لمصاديقه، ثمّ لاحظ كلّي البيع الإخباري ووضعها لمصاديقه، فما ذكره منارتباط الإنشاء والإخبار بالمداليل السياقيّه لا بالوضع والموضوع له ليسبتامّ.
وهكذا ما ذكره في ذيل كلامه ـ من ارتباط العلّيّة والمعلوليّة بين إيجابالوضوء، والوضوء الخارجي الضرري، وأنّ إرادة العبد مقهورة لحكم المولىفي عالم التشريع ـ ليس بصحيح، فإنّ المشاهد في الخارج أنّ إطاعة الأمربالوضوء ضرري، ولا تحقّق نسبة العليّة التامّة والمعلوليّة بين الأمر وإطاعته،وإلاّ لميتحقّق العصيان والمخالفة أصلاً، ولا العلّيّة الناقصة، فإنّ معناها إيصال
(صفحه58)
المطيع العلّيّة الناقصة بمرحلة الكمال وانسداد العاصي من تأثيرها، وهوكما ترى.
والتحقيق في مسألة الإطاعة والعصيان: أنّ المكلّف بعد ملاحظة الأمروترتّب الثواب على إطاعته والعقاب على مخالفته يختار طرف الإتيان به، وقديختار طرف العصيان؛ لعدم مبالاته في الدين أو اتّكالاً على العفو والشفاعةوالتوبة، فلا يرتبط العصيان والإطاعة بالأمر، بل يتحقّق بسبب الأمر موضوعللموافقة والمخالفة فقط، ولا علّيّة له، فكيف يمكن استناد الضرر المربوطبالإطاعة إلى الأمر وإيجاب الوضوء؟
وأمّا المثال المذكور في مسألة الإيلام والضرب، أو القتل والضرب وأنّترتّب الإيلام على الضرب ترتّب عِلّي، مع عدم استقلالهما في الوجود، وإطلاقأحدهما على الآخر شائع.
فيرد عليه: أوّلاً: أنّ الاتّحاد في الوجود لايرتبط بعالم الألفاظ والاستعمال،سواء كان الاتّحاد فيه على الدوام أو أحيانا، ولا يسري الاتّحاد الوجودي إلىعالم المفاهيم، وإلاّ يجوز استعمال لفظ الإنسان مكان لفظ الضاحك أوبالعكس، لاتّحادهما من حيث الوجود دائما، ويجوز استعمال لفظ الغصبمكان الصلاة أو بالعكس، لاتّحادهما من حيث الوجود أحيانا.
وثانياً: لو سلّمنا أنّ إطلاق أحدهما على الآخر شائع، لكنّ الشياع هليكون بنحو الحقيقة أو بنحو المجاز؟ والأوّل لا طريق لإثباته، والثاني خلافالمدّعى، فما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله من دلالة «لا ضرر» على نفي الحكمالضرري بالدلالة الحقيقيّة لا بالمسامحة ولا بالحقيقة الادّعائيّة ليس بتامّ، كملا يخفى.
وقال صاحب الكفاية رحمهالله : «إنّ الأصل الأوّلي في مثل قوله: «لا ضرر ول
(صفحه 59)
ضرار» هو نفي الماهيّة والحقيقة، إلاّ أنّه قد يكون بنحو الحقيقة كما في مثل «لرجل في الدار»، وقد يكون بنحو الادّعاء والكناية بلحاظ عدم تحقّق الحكمأو الصفة المترقبة عن مدخول «لا»، مثل قوله: «يا أشباه الرجال ولا رجال»،وقوله: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد».
ولا يخفى أنّ نفي أوصاف الرجوليّة ـ كالشجاعة والسخاوة وأمثال ذلك وإن كان صحيحا، ولكنّه لايكون واجدا للخصوصيّة البلاغيّة، وأمّا نفىالماهيّة والحقيقة بلحاظ فقدان الآثار والأوصاف فلا بأس في واجديّتهللمرتبة الكاملة من البلاغة، وما نحن فيه من هذا القبيل، كما إذا قلنا: لا قمار فيالإسلام، لا سرقة في الإسلام، لا أكل مال بالباطل في الإسلام»(1).
هذا حاصل ما يستفاد من الكفاية وحاشية الرسائل في المقام.
ويرد عليه: أنّ هذا البيان صحيح وقابل للالتزام في مثل «لا صلاة، ولرجال»، فإنّ موضوعيّة ماهيّة الصلاة للأحكام والآثار ـ كالمعراجيّة مثلاً لا شبهة فيها، وهكذا موصوفيّة ماهيّة الرجل للأوصاف، فيصحّ نفي الماهيّةبنحو الحقيقة الادّعائيّة بلحاظ فقدان الآثار والأوصاف، بخلاف مثل قوله:«لا ضرر»؛ فإنّ ماهيّة الضرر لا تكون موضوعة للآثار والأحكام كملا يخفى، والموضوع لها هو الوضوء الضرري، ولزوم المعاملة الغبنيّة ونحو ذلك،والمنفي هو الضرر، بما أنّه عنوان الضرر، فلا أحكام في البين حتّى تكون نفيالماهيّة بلحاظ فقدانها.
أمّا القول بالمجازيّة بعلاقة السببيّة والمسببيّة بإطلاق لفظ الضرر الموضوعللمسبّب في السبّب بنحو المجاز والمسامحة، وكون المراد من نفي الضرر هو نفيالحكم الضرري، فهو أيضا ليس بصحيح بعد إنكار أصل السببيّة، كما مرّ في
- (1) كفاية الاُصول 2: 268.
(صفحه60)
الجواب عن المحقّق النائيني رحمهالله .
وأمّا القول بالمجاز في الحذف والتقدير وكون معنى قوله: «لا ضرر» أنّ كلّحكم ينشأ منه الضرر ويرتبط به ارتباطا مّا ـ ولو بنحو المعدّ أو أضعف منه منفي، فلزوم المعاملة الغبنيّة ينشأ منه الضرر، وهو منفي، وإيجاب الوضوءالضرري ينشأ منه الضرر، وهو منفي، فهو أيضا لايخلو عن الإشكال؛ فانّهتتحقّق في الشريعة أحكام متمحّضة في الضرر، ومع ذلك لاينفيها قوله: «لضرر» مثل باب الزكاة والخمس، والحكم بضمان من أتلف مال الغير، والحكمبضمان يد العارية، والحكم بانفساخ المعاملة في مورد تلف المبيع قبل قبضهوكونه على عهدة البائع، مع أنّ الإقباض لايكون من شرائط صحّة المعاملة،وهكذا الحدود والتعزيرات، وسلب الماليّة عن الخمر والخنزير، وأمثال ذلك،وخروجها عنه بصورة التخصيص يوجب تخصيص الأكثر المستهجن قطعا.
وقال الشيخ الأنصاري رحمهالله : إنّ تخصيص الأكثر إذا كان بدون وجود الجامعوالقدر المشترك بين الموارد المخصّصة كما في مثل: أكرم القوم، ثمّ إخراج الأكثرمنه لا بمناط واحد، بل كان إخراج كلّ واحد منه بمناط مستقلّ، هذا يكونمستهجنا، وإذا كان مع وجود الجامع المشترك بينها وبمناط واحد ليسبمستهجن، كما في مثل: أكرم الناس، ثمّ أخرج الأكثر بعنوان الفسّاق، ومعلومأنّ أفراد الفسّاق أكثر من أفراد العادل، ومع ذلك لا مانع منه؛ لتحقّق العنوانالجامع، والجامع في ما نحن فيه وإن لم يكن معلوما بعنوانه الخاصّ ولكنتحقّقه بنحو الإجمال يكفي لعدم استهجان التخصيص(1).
وأجابه المحقّق النائيني رحمهالله وذكر بعنوان مقدّمة الجواب: أنّ العموم في القضيّةالخارجيّة يشمل الأفراد المحقّقة الوجود في الخارج فقط، والعموم في القضيّة
- (1) فرائد الاُصول 2: 641.
(صفحه 61)
الحقيقيّة يشمل الأفراد المحقّقة الوجود والمقدّرة الوجود معا، وملاك الحكم فيالقضيّة الخارجيّة يمكن أن يكون متعدّدا بتعدّد الأفراد، والجامع بينها هوالجامع اللفظي والعنواني، مثل: «كلّ من كان في هذا المحبس محكوم بالقتل»،وملاك الحكم في كلّ واحد غير الملاك في الآخر، والجامع هو الكون فيالمحبس، بخلاف القضيّة الحقيقيّة؛ إذ لابدّ فيها من وحدة الملاك وشموله لجميعالأفراد، سواء كانت محقّقة الوجود أو مقدّرة الوجود بملاك واحد، فلابدّ لها منالجامع الحقيقي، وتحقّق الملاك فيه حتّى يكون شاملاً للأفراد بعنوان المصداقيّةله، مثل قولنا: «يجوز الاقتداء بكلّ عادل»، فإنّ ملاك الحكم عبارة عنالعدالة، وهذا الملاك يكون جامعا حقيقيّا كلّيّا لها.
ثمّ قال: «إنّ التخصيص في القضيّة الحقيقيّة قد يكون تصرّفا في نفسالكبرى ومدخول كلمة «كلّ» مثل قوله: «أكرم كلّ عالم»، وقوله: «لاتكرمالفسّاق من العلماء»، وهذا التخصيص يرجع إلى تقييد العامّ، كأنّه قال منالابتداء: «أكرم كلّ عالم غير فاسق»، وقد يكون تصرّفا في كلّيّة الكبرىوكلمة «كلّ»، مثل قوله: «أكرم كلّ عالم» وقوله: «لاتكرم زيد العالم»، وقوله:«لاتكرم بكرا العالم» ونحو ذلك، بخلاف التخصيص في القضيّة الخارجيّة،لانحصاره بالنوع الثاني لتصرّفه في كلمة «كلّ» والأداة المفيدة للعموم، مثلقوله: «كلّ من كان في هذا المحبس صار محكوما بالقتل»، وقوله: «إنّ محبوسكذا لايكون محكوما بالقتل».
ثمّ إنّ تخصيص الأكثر في هذا النوع يكون مستهجنا؛ لتقابل التخصيص معأداة العموم، بخلاف النوع الأوّل؛ إذ التخصيص يكون بعنوان واحد وبمنزلةتقييد مدخول كلمة «كلّ»، ولا يلاحظ فيه كثرة الأفراد وقلّتها، فلا استهجانفي البين».