(صفحه 83)
الاحتمال الثاني: أن يكون الاستصحاب من الأمارات، وكانت له كاشفيّةوطريقيّة إلى الواقع، مثل طريقيّة خبر الواحد إلى الواقع، وعلى هذا يمكن أنيكون طريقا شرعيّا محضا من دون أيّ دخل لسيرة العقلاء، ويمكن أن يكونطريقا عقلائيّا أمضاه الشارع كما أمضى طريقيّة خبرالواحد.
الاحتمال الثالث: أن يكون الاستصحاب وظيفة مجعولة للشاكّ الكذائيللتحفّظ على الواقع، نظير ما قال به الأخباريّون من الاحتياط في الشبهاتالبدويّة، وكما أنّ الاحتياط في شرب المشكوك بالشكّ البدوي يكون للتحفّظعلى الواقع، كذلك الاستصحاب يكون للتحفّظ على الواقع.
الاحتمال الرابع: أن يكون الاستصحاب حكما من أحكام العقل، ولكنّحكم العقل قد يكون حكما عقليّا مستقلاًّ، وهو ما يعبّر عنه بالمستقلاّتالعقليّة كحكمه بأنّ الظّلم قبيح، وقد يكون حكما عقليّا غيرمستقلّ بمعنى أنّحكم العقل يحتاج إلى ضميمة مقدّمة من الشارع، كحكم العقل بالملازمة بينوجوب المقدّمة وذيها، فإنّه حكم عقليّ غيرمستقلّ؛ لاحتياجه إلى بيانالشارع في الأمر بالصلاة أوّلاً بقوله: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»، ثمّ حكم العقل بتحقّقالملازمة بين وجوب شرعيّ الصلاة ووجوب شرعيّ الوضوء، من بابالمقدّمة، فيمكن أن يكون الاستصحاب من هذا القبيل، فكما أنّ العقل حاكمبتحقّق الملازمة بينهما كذلك إذا تيقّنت بوجوب صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ في عصرالحضور وشككت في وجوبه في عصر الغيبة يحكم العقل بتحقّق الملازمة بينوجوبها في زمان الحضور ووجوبها في زمان الغيبة.
وبعد الفراغ من بيان الاحتمالات في موقعيّة الاستصحاب فلنبدأ في بيانالتعاريف المناسبة لها.
(صفحه84)
تعريف الشيخ الأنصاري للاستصحاب
قال الشيخ الأنصاري رحمهالله : «وعند الاُصوليّين عرّف بتعاريف أسدّهوأخصرها: إبقاء ما كان»(1).
يحتمل أن يكون المراد من الإبقاء في التعريف هو الإبقاء بحكم الشارع،ويحتمل أن يكون المراد منه إبقاء المكلّف وجريه على طبق الحالة السابقة فيمقام العمل.
وعلى أيّ تقدير أنّ هذا التعريف يناسب الاستصحاب إذا كان أصلاً منالاُصول العمليّة ظاهرا، ولا يناسب أماريّته وكاشفيّته أصلاً؛ إذ لاطريقيّةلإبقاء ما كان إلى الواقع، سواء كان بحكم الشارع أو عمل المكلّف على طبقالحالة السابقة، كما أنّ الطريقيّة في خبرالواحد ـ مثلاً ـ لاترتبط بعمل المكلّفعلى طبق خبر العادل ولا بحكم الشارع بتصديقه، بل ترتبط بنفس خبر محمّدبن مسلم ـ مثلاً ـ حيث إنّه رجل عادل يكون خبره طريقا إلى الواقع وكاشفعنه.
فعلى القول بأماريّته لابدّ من تعريفه بأنّه: عبارة عن اليقين السابق الملحوقبالشكّ؛ فإنّ اليقين بهذا الوصف يفيد الظنّ بالبقاء وكاشف عن الواقع، بمعنىكون الشيء متحقّقا ومتيقّنا في السابق وبضميمة الشكّ في البقاء يفيد الظنّ
(صفحه 85)
بالبقاء.
وأمّا على القول بكونه وظيفة مجعولة للشاكّ للتحفّظ على الواقع فلابدّ منتعريفه بأنّه عبارة عن الشكّ المسبوق باليقين، بمعنى أنّ الشكّ مع هذا الوصفيوجب تنجّز الواقع وحجّة على الواقع، ويوجب استحقاق العقوبة علىالمخالفة، كما أنّ الاحتمال في الشبهات البدويّة على القول بوجوب الاحتياطيكون كذلك.
وأمّا على القول بكونه حكما عقليّا غيرمستقلّ فلابدّ من تعريفه بأنّه:عبارة عن الملازمة بين كون الشيء في السابق متيقّنا وكونه في اللاحقمشكوكا.
وأشار المحقّق الخراساني قدسسره إلى ماذكرناه في حاشيته على الفرائد بقوله: «ليخفى أنّ حقيقة الاستصحاب وماهيّته يختلف بحسب اختلاف وجه حجّيّته،وذلك لأنّه إن كان معتبرا من باب الأخبار كان عبارة عن حكم الشارع ببقاءمالميعلم ارتفاعه، وإن كان من باب الظنّ كان عبارة عن ظنّ خاصّ به، وإنكان من باب بناء العقلاء عليه عملاً تعبّدا كان عبارة عن التزام العقل به فيمقام العمل(1).
فصرّح بأنّه لايكون للاستصحاب تعريف جامع ينطبق على جميع المبانيوالاحتمالات المذكورة.
ويرد على تعريف الاستصحاب بـ «إبقاء ما كان» ـ كما قال به الشيخالأنصاري قدسسره ـ إشكالان:
الأوّل: أنّه لايمكن الجمع بين هذا التعريف وجعل النزاع في هذا الباب بأنّههل الاستصحاب حجّة أم ليس بحجّة؟ فإنّ معناه أنّ إبقاء عمل المكلّف
(صفحه86)
ودوامه على إتيان صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ في عصر الغيبة حجّة أم لا؟ أو أنّحكم الشارع ببقاء ما كان حجّة أم لا؟ أو أنّ حكم العقل بالبقاء هل هوحجّة أم لا؟ بناءً على الاحتمالات المذكورة، وهذا ممّا لايصحّ ولا يمكن القولبه.
فإن كان المأخوذ في عنوان النزاع كلمة الحجّة فلابدّ من جعلالاستصحاب من الطرق والأمارات، والبحث بأنّ اليقين الملحوق بالشكّ هلهو حجّة أم لا؟ كما أنّه على القول بكونه قاعدة لتحفّظ الواقع يصحّ البحثبأنّ احتمال بقاء الشكّ المسبوق باليقين حجّة أم لا؟ بمعنى أنّه منجّز للواقع علىتقدير الإصابة، ومعذّر على تقدير عدم الإصابة، فلا مناسبة بين تعريفالاستصحاب بإبقاء ما كان وجعل النزاع في حجّيّته.
الثاني: أنّه لايمكن الجمع بين هذا التعريف وجعل النزاع في بابالاستصحاب من المسائل الاُصوليّة، بمعنى وقوعه في قياس استنباط الأحكامعلى القول بكون الإبقاء بمعنى جري المكلّف وداومه على طبق الحالة السابقة؛إذ لابدّ على هذا من تشكيل القياس بأنّ «وجوب صلاة الجمعة مشكوكالبقاء، والمكلّف يعمل ويأتي بصلاة الجمعة في عصر الغيبة، فصلاة الجمعةواجبة في عصر الغيبة» ومايستفاد من هذا القياس لايكون حكما شرعيّا.
نعم، على القول بكون الإبقاء حكما شرعيّا يصحّ وقوع الاستصحاب فيقياس استنباط الحكم الشرعي، وتشكيل القياس بأنّ «وجوب صلاة الجمعةمشكوك البقاء، وحَكَم الشارع ببقاء ما كان في السابق، فوجوب صلاة الجمعةحَكَم الشارع ببقائه في عصر الغيبة»، وعلى هذا يكون النزاع والبحث في بابالاستصحاب من المسائل الاُصوليّة؛ كما أنّه على القول بكونه أمارة أو قاعدةللتحفّظ على الواقع يكون مسألة اُصوليّة، نظير خبر الواحد، وقاعدة
(صفحه 87)
الاحتياط.
وممّا التزم به الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره أنّ من خواصّ المسألة الاُصوليّةأنّ تطبيقها في المورد وتشخيص مواردها فعل المجتهد؛ ونحن نقول: إنّه ليسبصحيح، فإنّ تشخيص موارد قاعدة «مايضمن بصحيحه يضمن بفاسده»ـ مثلاً ـ وقاعدة «لاضرر» أيضا من أفعال المجتهدين، ولا يتمكّن المقلّد منتشخيصها، مع عدم كونها من المسائل الاُصوليّة.
تنبيه:
والظاهر انحصار موضوع علم الاُصول بالأدلّة الأربعة، أي الكتاب بما أنّهدالّ على الحكم الشرعي، والسنّة بما أنّها قائمة على الحكم الشرعي، وهكذالعقل والإجماع عبارة عن الموضوع، كما هو المعروف، فلابدّ من جزئيّةالاستصحاب لأحدها، فيحتمل في بادئ النظر أن يكون الاستصحاب بما أنّهسنّة من الأدلّة الأربعة، بلحاظ كون منشأ الاستصحاب ومناطه الرواياتالمشتملة على كلمة «لاتنقض».
ولكنّه ليس بصحيح؛ إذ لايمكن القول بأنّ دليل وجوب صلاة الجمعة فيعصر الغيبة ـ مثلاً ـ عبارة عن السنّة على فرض إثباته بالاستصحاب، فإنّدلالة السنّة على الوجوب تكون بواسطة الاستصحاب، والدليليّة ترتبطبالواسطة لابالسنّة، فإنّها دليل لحجّيّة الاستصحاب واعتباره لا لوجوبالصلاة؛ كما أنّ ظاهر الكتاب مثل آية النّبأ لايكون دليلاً لحرمة شرب التتنالمستفادة من خبر زرارة ـ مثلاً ـ ؛ لعدم كونه دليلاً على الحكم، بل يكون دليلعلى الدليل، وخبر الواحد المعتبر به دليل على الحكم، فلا يكون الاستصحابمن الأدلّة الأربعة، ولا بدّ لنا من القول بعدم انحصار الأدلّة بالأربعة كما قال بهاُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1).