(صفحه86)
ودوامه على إتيان صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ في عصر الغيبة حجّة أم لا؟ أو أنّحكم الشارع ببقاء ما كان حجّة أم لا؟ أو أنّ حكم العقل بالبقاء هل هوحجّة أم لا؟ بناءً على الاحتمالات المذكورة، وهذا ممّا لايصحّ ولا يمكن القولبه.
فإن كان المأخوذ في عنوان النزاع كلمة الحجّة فلابدّ من جعلالاستصحاب من الطرق والأمارات، والبحث بأنّ اليقين الملحوق بالشكّ هلهو حجّة أم لا؟ كما أنّه على القول بكونه قاعدة لتحفّظ الواقع يصحّ البحثبأنّ احتمال بقاء الشكّ المسبوق باليقين حجّة أم لا؟ بمعنى أنّه منجّز للواقع علىتقدير الإصابة، ومعذّر على تقدير عدم الإصابة، فلا مناسبة بين تعريفالاستصحاب بإبقاء ما كان وجعل النزاع في حجّيّته.
الثاني: أنّه لايمكن الجمع بين هذا التعريف وجعل النزاع في بابالاستصحاب من المسائل الاُصوليّة، بمعنى وقوعه في قياس استنباط الأحكامعلى القول بكون الإبقاء بمعنى جري المكلّف وداومه على طبق الحالة السابقة؛إذ لابدّ على هذا من تشكيل القياس بأنّ «وجوب صلاة الجمعة مشكوكالبقاء، والمكلّف يعمل ويأتي بصلاة الجمعة في عصر الغيبة، فصلاة الجمعةواجبة في عصر الغيبة» ومايستفاد من هذا القياس لايكون حكما شرعيّا.
نعم، على القول بكون الإبقاء حكما شرعيّا يصحّ وقوع الاستصحاب فيقياس استنباط الحكم الشرعي، وتشكيل القياس بأنّ «وجوب صلاة الجمعةمشكوك البقاء، وحَكَم الشارع ببقاء ما كان في السابق، فوجوب صلاة الجمعةحَكَم الشارع ببقائه في عصر الغيبة»، وعلى هذا يكون النزاع والبحث في بابالاستصحاب من المسائل الاُصوليّة؛ كما أنّه على القول بكونه أمارة أو قاعدةللتحفّظ على الواقع يكون مسألة اُصوليّة، نظير خبر الواحد، وقاعدة
(صفحه 87)
الاحتياط.
وممّا التزم به الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره أنّ من خواصّ المسألة الاُصوليّةأنّ تطبيقها في المورد وتشخيص مواردها فعل المجتهد؛ ونحن نقول: إنّه ليسبصحيح، فإنّ تشخيص موارد قاعدة «مايضمن بصحيحه يضمن بفاسده»ـ مثلاً ـ وقاعدة «لاضرر» أيضا من أفعال المجتهدين، ولا يتمكّن المقلّد منتشخيصها، مع عدم كونها من المسائل الاُصوليّة.
تنبيه:
والظاهر انحصار موضوع علم الاُصول بالأدلّة الأربعة، أي الكتاب بما أنّهدالّ على الحكم الشرعي، والسنّة بما أنّها قائمة على الحكم الشرعي، وهكذالعقل والإجماع عبارة عن الموضوع، كما هو المعروف، فلابدّ من جزئيّةالاستصحاب لأحدها، فيحتمل في بادئ النظر أن يكون الاستصحاب بما أنّهسنّة من الأدلّة الأربعة، بلحاظ كون منشأ الاستصحاب ومناطه الرواياتالمشتملة على كلمة «لاتنقض».
ولكنّه ليس بصحيح؛ إذ لايمكن القول بأنّ دليل وجوب صلاة الجمعة فيعصر الغيبة ـ مثلاً ـ عبارة عن السنّة على فرض إثباته بالاستصحاب، فإنّدلالة السنّة على الوجوب تكون بواسطة الاستصحاب، والدليليّة ترتبطبالواسطة لابالسنّة، فإنّها دليل لحجّيّة الاستصحاب واعتباره لا لوجوبالصلاة؛ كما أنّ ظاهر الكتاب مثل آية النّبأ لايكون دليلاً لحرمة شرب التتنالمستفادة من خبر زرارة ـ مثلاً ـ ؛ لعدم كونه دليلاً على الحكم، بل يكون دليلعلى الدليل، وخبر الواحد المعتبر به دليل على الحكم، فلا يكون الاستصحابمن الأدلّة الأربعة، ولا بدّ لنا من القول بعدم انحصار الأدلّة بالأربعة كما قال بهاُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1).
(صفحه88)
تتمة
يؤيّد ماذكرناه في باب الاستصحاب ماذكره السيّد بحر العلوم قدسسره حيثجعل الاستصحاب دليلاً على الحكم في مورده، وجعل قولهم عليهمالسلام : «لاتنقضاليقين بالشكّ» دليلاً على الدليل، نظير آية النّبأ بالنّسبة إلى خبر الواحد حيثقال: «وليس عموم قولهم عليهمالسلام : «لاتنقض اليقين بالشكّ»(1) بالقياس إلى أفرادالاستصحاب إلاّ كعموم آية النّبأ بالقياس إلى آحاد الأخبار المعتبرة(2).
واعترض عليه الشيخ الأنصاري قدسسره بقوله: «معنى الاستصحاب الجزئي فيالمورد الخاصّ كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ـ ليس إلاّ الحكم بثبوتالنجاسة في ذلك الماء النجس سابقا، وهل هذا إلاّ نفس الحكم الشرعي؟!وهل الدليل إلاّ قولهم عليهمالسلام : «لاتنقض اليقين بالشكّ؟»(3).
ولا يخفى عليك صحّة ماذكره السيّد بحرالعلوم قدسسره لعدم إثبات نجاسة الماءالمتغيّر مستقيما وبلا واسطة بقولهم عليهمالسلام : «لاتنقض اليقين بالشكّ»، فإنّه دليلعلى الاستصحاب المثبت للنجاسة، وهكذا في آية النبأ.
إذا فرغنا من تعريف الاستصحاب والأقوال والخصوصيّات المبحوثة هنا،فلنبحث في التفصيل الذي ذكره الشيخ الأنصاري قدسسره (4) بقوله: «إنّ المستصحبقد يثبت بالدليل الشرعي وقد يثبت بالدليل العقلي، ولمأجد من فصّل فيها، إلأنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي ـ وهو الحكم العقليالمتوصّل به إلى حكم شرعي ـ تأمّلاً؛ نظرا إلى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة
- (2) الوسائل 1: 174، الباب من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
- (3) فوائد السيّد بحر العلوم: 116.
(صفحه 89)
مفصّلة من حيث مناط الحكم، والشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لابدّ وأنيرجع إلى الشكّ في موضوع الحكم؛ لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقليبالحسن والقبح كلّها راجعة إلى قيود فعل المكلّف الذي هو الموضوع. فالشكّفي حكم العقل حتّى لأجل وجود الرافع لايكون إلاّ للشكّ في موضوعه،والموضوع لابدّ أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب كما سيجيء.
ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في وجود الرافع،وبين أن يكون لأجل الشكّ في استعداد الحكم؛ لأنّ ارتفاع الحكم العقليلايكون إلاّ بارتفاع موضوعه، فيرجع الأمر بالتالي إلى تبدّل العنوان، ألاترىأنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ، فحكمه يرجع إلى أنّ الضارّ من حيثإنّه ضارّ حرام، ومعلوم أنّ هذه القضيّة غيرقابلة للاستصحاب عند الشكّ فيالضرر مع العلم بتحقّقه سابقا؛ لأنّ قولنا: «المضرّ قبيح» حكم دائمي لايحتملارتفاعه أبدا، ولا ينفع في إثبات القبح عند الشكّ في بقاء الضرر، ولا يجوز أنيقال: إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه؛ لأنّ الموضوع فيحكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق، بل عنوان المضرّ، والحكم له مقطوعالبقاء، وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة؛ فإنّه قد يحكم الشارع على الصدقبكونه حراما، ولا يعلم أنّ المناط الحقيقي فيه باقٍ في زمان الشكّ أو مرتفعـ إمّا من جهة جهل المناط أو من جهة الجهل ببقائه مع معرفته ـ فيستصحبالحكم الشرعي.
وحاصل كلامه التفصيل في جريان الاستصحاب وعدمه في الحكمالشرعي المستفاد من العقل أو الملازمة العقليّة ـ مثل: كلّ ما حكم به العقلحكم به الشرع ـ والمستفاد من الأدلّة الثلاثة الاُخرى.
واستشكل عليه المحقّق النائيني قدسسره بقوله(1): ولكنّ للنظر فيه مجال، أمّا أوّل
- (1) فوائد الاُصول 4: 321.
(صفحه90)
فلأنّ دعوى كون كلّ خصوصيّة أخذها العقل في موضوع حكمه لابدّ وأنيكون لها دخل في مناط حكمه واقعا ممنوعة؛ بداهة أنّه ربّما لايدرك العقلدخل الخصوصيّة في مناط الحسن والقبح واقعا، وإنّما أخذها في الموضوعلمكان أنّ الموضوع الواجد لتلك الخصوصيّة هو المتيقّن في قيام مناط الحسنأو القبح فيه، مع أنّه يحتمل واقعا أن لايكون لها دخلٌ في المناط.
مثلاً: يمكن أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضارّ الذي لايترتّب عليهنفع للكاذب ولا لغيره، إنّما هو لأجل أنّ الكذب المشتمل على هذهالخصوصيّات هو القدر المتيقّن في قيام مناط القبح فيه، مع أنّه يحتمل أنلايكون لخصوصيّة عدم ترتّب النفع دخل في القبح، بل يكفي في القبح مجرّدترتّب الضرر عليه وإن لزم منه حصول النفع للكاذب أو لغيره؛ والحكمالشرعي المستكشف من حكم العقل إنّما يدور مدار ما يقوم به مناط القبحواقعا، فيمكن بقاء الحكم الشرعي مع إنتفاء بعض الخصوصيّات التي أخذهالعقل في الموضوع من باب القدر المتيقّن؛ لإحتمال أن لايكون لتلك الخصوصيّةدخل فيما يقوم به الملاك واقعا فيكون وزان الحكم الشرعي المستفاد منالحكم العقلي وزان الحكم الشرعي المستفاد من الكتاب والسنّة، يصحّاستصحابه عند الشكّ في بقائه؛ لأجل زوال بعض خصوصيّات الموضوع التيلاتضرّ بصدق بقاء الموضوع واتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة عرفا.
والتحقيق: أنّ المراد من العقل هنا ليس عقول الأنبياء والأولياء المحيطةبكلّ الأشياء، بل المراد منه العقول البشريّة العاديّة الناقصة التي تدرك بعضالأشياء، وبالنسبة إلى بعض الأشياء، لها حالة الإبهام والإجمال، ومع فقدبعض الخصوصيّات من الموضوع يحصل لها الشكّ في البقاء، فيتحقّق مجرى