(صفحه92)
العقلي.
نعم، يمكن أن يتحقّق هنا حكم شرعي آخر ذا مناط أوسع غير مناطالحكم العقلي، ولكنّه مشكوك الحدوث، فلا مجال للاستصحاب هنا.
وكان لاُستاذنا السيّد الإمام قدسسره تحقيق جامع في المقام، وهو قوله(1):«والتحقيق في المقام أن يقال: إنّه لو سلّمنا أنّ العناوين المبيّنة المفصّلة ـ التييدرك العقل مناط الحسن أو القبح فيها ـ إنّما تكون في نظر العقل مع التجرّدعن كافّة اللواحق والعوارض الخارجيّة، حسنة أو قبيحة ذاتا، فلا يمكن أنيشكّ العقل في حكمه المتعلّق بذلك العنوان المدرك مناطه.
ولكن تلك العناوين الحسنة والقبيحة قد تصدق على موضوع خارجي؛لأنّ الوجود الخارجي قد يكون مجمع العناوين المتخالفة، فالعناوين المتكثّرةالممتازة في الوجود العقلي التحليلي قدتكون متّحدة غيرممتازة في الوجودالخارجي، ويكون الوجود الخارجي بوحدته مصداقا للعناوين الكثيرة،وتحمل عليه حملاً شايعا، فإذا صدقت عليه العناوين الحسنة والقبيحة يقعالتزاحم بين مناطاتها، ويكون الحكم العقلي في الوجود الخارجي تابعا لما هوالأقوى بحسب المناط، مثال ذلك: أنّ الكذب بما أنّه كذبٌ ـ مع قطع النظر عنعروض عنوان آخر عليه في الوجود الخارجي ـ قبيح عقلاً، وإنجاء المؤمن منالهلكة حسن، وكلّ من الحسن والقبح ذاتي بالنسبة إلى عنوانه بما أنّه عنوانه،ولكن قد يقع التزاحم بينهما في الوجود الخارجي إذا صدقا عليه، فيرجّح مهو الأقوى ملاكا وهو الإنجاء، فيحكم العقل بحسن الكلام الخارجي المنجيمع كونه كذبا.
وكذا إيذاء الحيوان بما أنّه حيوان قبيح عقلاً، ودفع المؤذي حسن لازم
(صفحه 93)
عقلاً، وفي صورة صدقهما على الموجود الخارجي يكون الحسن والقبح تابعلما هو الأقوى مناطا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قد يصدق عنوان حسن على موجود خارجيمن غير أنيصدق عليه عنوان قبيح، فيكون الموضوع الخارجي حسنا محضحُسنا ملزما، فيكشف العقل منه الوجوب الشرعي، ثمّ يشكّ في صدق عنوانقبيح عليه ممّا هو راجح مناطا، فيقع الشكّ في الموضوع الخارجي بأنّه حسنأو قبيح، وقديكون بعكس ذلك.
مثال الأوّل: أنّ إنقاذ الغريق حسن عقلاً، فقد يغرق مؤمن فيحكم العقلبلزوم إنقاذه، ويكشف الحكم الشرعي بوجوبه، ثمّ يشكّ في تطبيق عنوانالسابّ للّه ورسوله عليه في حال الغرق، وحيث يكون تطبيق هذا العنوانعليه ممّا يوجب قبح إنقاذه، ويكون هذا المناط أقوى من الأوّل أو دافعا له،فيشكّ العقل في حسن الإنقاذ الخارجي وقبحه، ويشكّ في حكمه الشرعي.
مثال الثاني: أنّه قديكون حيوان غير مؤذٍ في الخارج، فيحكم العقل بقبحقتله، ثمّ يشكّ بعد بلوغه في صيرورته مؤذيا، فيشكّ في حكمه الشرعي،فاستصحاب الحكم العقلي في مثل المقامات ممّا لامجال له؛ لأنّ حكم العقلمقطوع العدم، فإنّ حكمه فرع إدراك المناط، والمفروض أنّه مشكوك فيه.
وأمّا الحكم الشرعي المستكشف منه ـ قبل الشكّ في عروض العنوانالمزاحم عليه ـ فلا مانع من استصحابه إذا كان عروض العنوان أو سلبه عنالموضوع الخارجي لايضرّان ببقاء الموضوع عرفا، كالمثالين المتقدّمين، فإنّعنوان السابّ والمؤذي من الطوارئ التي لايضرّ عروضها وسلبها ببقاءالموضوع عرفا.
فتلخّص ممّا ذكرنا: جواز جريان الاستصحاب في الأحكام المستكشفة من
(صفحه94)
الحكم العقلي».
وحاصل كلامه قدسسره : أنّه لامانع من جريان الاستصحاب في الحكم الشرعيالمستكشف من الحكم العقلي ولولميكن للعقل من حيث البقاء حكمٌ، كما أنّهقد يثبت الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة أو الإجماع حدوثا، ويثبتبالاستصحاب بقاءً، كذلك في الحكم المستفاد من العقل، فماذكره الشيخالأنصاري قدسسره من عدم وجدان الشكّ في البقاء في الأحكام الشرعيّةالمستكشفة من العقل بعنوان السالبة الكلّيّة ليس بتامّ، فإنّا وجدناه موجبةجزئيّة. هذا كلّه بالنّسبة إلى التفصيل الأوّل للشيخ الأنصاري قدسسره .
والمهمّ التفصيل الثاني الذي التزم به الشيخ الأنصاري قدسسره (1)، وهو التفصيلبين كون الشكّ من جهة المقتضي وبين كونه من جهة الرافع، فأنكر جريانالاستصحاب في الأوّل دون الثاني، وتتحقّق ثلاثة احتمالات في مراده منالمقتضي والرافع في بادئالنظر:
الأوّل: أن يكون المراد من المقتضي هو مناط الحكم وملاكه الذي اقتضىتشريع الحكم على طبقه، والمراد من الرافع هو الحائل والمانع من تأثير الملاكفي الحكم بعد العلم بأنّ فيه ملاك التشريع، فيكون الشكّ في المقتضي عبارةعن الشكّ في ثبوت ملاك الحكم عند انتفاء بعض خصوصيّات الموضوع؛لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصيّة دخل في الملاك، والشكّ في الرافع عبارةعن الشكّ في وجود مايمنع من تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بثبوته؛ لاحتمالأن يكون لتلك الخصوصيّة المنتفية دخل في تأثير الملاك.
الثاني: أن يكون المراد من المقتضي ماجعله الشارع سببا، إمضاءً أوتأسيسا، مثل جعل عقد النكاح سببا للزوجيّة، والمراد من الرافع ماجعله
(صفحه 95)
الشارع مانعا ورافعا لتأثير الملاك كالطلاق ـ مثلاً ـ ، فيكون الشكّ في المقتضيعبارة عن الشكّ في بقاء اقتضاء العقد للزوجيّة أو الوضوء للطّهارة عند انتفاءبعض الخصوصيّات، والشكّ في الرافع عبارة عن الشكّ في رافعيّة قولالزوج:«أنت خليّة» أو خروج المذي عقيب الطهارة ـ مثلاً ـ مع العلم ببقاءالمقتضي.
الثالث: أن يكون المراد من المقتضي استعداد بقاء الحكم وقابليّته، والمرادمن الرافع ما هو المانع من الاستعداد والقابليّة.
والظاهر من عبارة الشيخ قدسسره في الموارد المتعدّدة أنّ مراده هو الاحتمالالثالث.
واستدلّ المحقّق النائيني رحمهالله لهذا المعنى بقوله(1): «فإنّ القول بعدم حجّيّةالاستصحاب عند الشكّ في المقتضي بأحد الوجهين المتقدّمين يساوق القولبعدم حجّيّة الاستصحاب مطلقا؛ فإنّه لاطريق إلى إحراز وجود ملاك الحكمأو إحراز بقاء المقتضيات الشرعيّة في باب الأسباب والمسبّبات عند انتفاءبعض خصوصيّات الموضوع أو طروّ بعض ما يشكّ معه في بقاء الأثر؛ إذ العلمببقاء الملاك أو الأثر يستحيل عادة لمن لايوحى إليه إلاّ من طريق الأدلّةالشرعيّة؛ فإنّه لايمكن إثبات كون الوضوء أو النكاح المتعقّب بالمذي أو بقولالزوج: «أنت خليّة» مقتضيا لبقاء الطهارة وعلقة الزوجيّة.
وبالجملة، لو بنينا على عدم حجّيّة الاستصحاب عند الشكّ في المقتضيبأحد الوجهين يلزم سدّ باب جريان الاستصحاب في جميع المقامات؛ إذ ممن مورد إلاّ ويشكّ في تحقّق المقتضي بمعنى الملاك أو بمعنى اقتضاء السبب،فالظاهر أنّ مراده من المقتضي هو مقدار قابليّة المستصحب للبقاء في الزمان».
- (1) فوائد الاُصول 4: 325.
(صفحه96)
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) بقوله: «وأنت خبير بما فيه، فإنّالاقتضاء بالمعنى المعروف لدى الشيخ لاطريق إلى إحرازه في الأحكامالشرعيّة أيضا إلاّ من قبل الدليل الشرعي، كما اعترف به فيما بعد، فلو دلّالدليل الشرعي على أنّ الحكم الفلاني مستمرّ ذاتا لولا الرافع إلى الأبد، أو إلىغاية كذائيّة، يستكشف منه المقتضي بمعنى الملاك، فلا يكون الشكّ حينئذٍ فيبقائه من قبل الشكّ في المقتضي، لا بالمعنى المعروف ولا بمعنى الملاك.
وبالجملة، لمّا لايكون حكم إلاّ عن ملاك فأصل الحكم يكشف عن أصلالملاك، واستمراره عن استمراره، وكذا الاقتضاء في باب الأسباب والمسبّباتإنّما يستكشف من الأدلّة الشرعيّة، فكما أنّ إحراز المقتضي للبقاء ومقداراستعداد المستصحب في الأحكام يحتاج إلى الدليل، كذلك إحرازه بالمعنيينالآخرين؛ فالمقتضي بأيّ معنىً كان لايوجب سدّ باب الاستصحاب لو قيلبعدم جريانه إلاّ في الشكّ في الرافع.
ويمكن مناقشة ماذكره الإمام قدسسره بأنّه سلّمنا أنّ استمرار الحكم يكشف عنتحقّق الملاك والمناط، إلاّ أنّ الاستمرار في باب الاستصحاب ليس بمحرز لنا،والمحرز هو قابليّة الاستمرار والبقاء، ويستفاد من طريق الاستصحابالاستمرار أيضاً.
ومعلوم أنّه لايستكشف من قابليّة البقاء تحقّق الملاك والمناط، وإللانحتاج إلى الاستصحاب؛ إذ يستفاد من طريق تحقّق الملاك استمرار الحكم،فالحكم كاشف عن ثبوت الملاك، لاقابليّة بقائه واستمراره، فما ذكره قدسسره بعنوانالإشكال على المحقّق النائيني رحمهالله ليس بوارد عليه.