(صفحه358)
للتمسّك بأصالة الظهور في صورة العلم بمراد المتكلّم من قوله: «رأيت أسداً»بأيّ طريق، وأنّه الحيوان المفترس أو الرجل الشجاع.
إذا عرفت ذلك فنقول: يمكن القول بأنّ كلمة «الأسد» في المثال تكونقرينة على التصرّف في كلمة «يرمي» لا بالعكس؛ إذ التصرّف في الظهورالإطلاقي أولى وأسهل من التصرّف في الظهور الوضعيّ، فيكون معناه فيالواقع رأيت أسداً يرمي بالمخلب؛ إذ الأسديّة تلازم الرمي بالمخلب، فلا دليللأن تكون كلمة «يرمي» قرينة، وكلمة «الأسد» ذي القرينة.
إن قلت: علمنا بقرينيّة كلمة «يرمي» بطريق من الطرق.
قلت: إذا كنت عالماً بالقرينة فلا مجال للتمسّك بأصالة الظهور، ولا تصلالنوبة إليها، وحكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في ذيها، فإنّمورد جريانها صورة الشكّ في مراد المتكلّم، وبعد إحراز القرينة لا يبقى مجالللشكّ في القرينيّة، فلا مجال لجريان أصالة الظهور والتمسّك بها حتّى نقولبحكومة أحد الأصلين على الآخر، وإذا لم تكن القرينيّة محرزة فلا أثرللحاكميّة والمحكوميّة.
والتحقيق: أنّ الملاك في تشخيص القرينيّة منحصر في أقوائيّة الظهور،وكلمة «يرمي» في المثال تكون أقوى ظهوراً في الرمي بالنبل عند العرف،ولعلّه كان منشأ ضعف ظهور كلمة «الأسد» شيوع استعمالها في المعنى المجازي،فيصير الظهور الوضعي بلحاظ غلبة الاستعمال في المجاز موهوناً في مقابلالظهور الإطلاقي، ولا تتحقّق قاعدة كلّيّة لأقوائيّة الظهور؛ لاختلافها بحسبالمقامات والموارد، فإذا كان الملاك لتشخيصها أقوائيّة الظهور فلا يبقى مجالللحاكميّة، وبهذا الملاك يكون الخاصّ مقدّماً على العامّ، هذا أوّلاً.
وثانياً: لو سلّمنا كلّيّة تقدّم أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في
(صفحه 359)
ذي القرينة بنحو الحكومة لا يصحّ الالتزام بكون الخاصّ، قرينة علىالتصرّف في العامّ وفي مقابل العامّ؛ لعدم مغايرته معه وعدم التنافي بينهما، كمذكرنا أنّ التخصيص لا يستلزم المجازيّة في العامّ؛ إذ التخصيص تضييق فيدائرة المراد الجدّي للمتكلم، ولا دخل له في المراد الاستعمالي والإرادةالاستعماليّة والمستعمل فيه، ولا فرق من هذه الجهة بين العامّ المخصّص وغيره،كما ذكره صاحب الكفاية قدسسره .
وذكرنا أيضاً أنّ عدم التنافي والتعارض مختصّ بمقام جعل القانون ومحيطالتقنين، ولا يتحقّق في المحاورات العرفيّة والتأليفات والتصنيفات والرسائلالعمليّة؛ فإنّ الفقيه لا يكون مقنّناً، بل هو في مقام الإخبار عمّا استنبطه منالقانون، فلا ينبغيله الحكم في مورد بخلاف ما حكم به بنحو العموم؛ إذيتحقّق التنافي بينهما لدى العرف والعقلاء.
وأمّا الشائع في مقام التقنين فهو جعل القانون بنحو العموم، ثمّ إلحاقالتخصيص والتبصرة به بحسب اقتضاء الشرائط والموارد، وربّما لا يلتفتالمقنّن في حال جعل القانون إلى موارد التبصرة والتخصيص، مع ذلك قابليّةإلحاق التبصرة لكلّ قانون محفوظة، فلذا نرى إلحاق التبصرة إليه تدريجاً بعدالالتفات إلى مواردها، فلا منافاة بين العامّ والخاصّ عند العقلاء في محيطالتقنين حتى يكون الخاصّ قرينة على التصرّف فيه.
نكتة: ذكرنا فيما تقدّم أنّ الاُصول اللفظيّة ـ مثل أصالة الحقيقة وأصالةالعموم وأصالة عدم القرينة وأصالة الإطلاق ـ من شعب أصالة الظهور، وأنّهلا تختصّ في الاستعمالات الحقيقيّة، بل تجرى في الاستعمالات المجازيّة أيضاً،فلا تجرى أصالة الظهور لتشخيص صغرى الظهور، وأنّ هذا المعنى ظاهر منهذا اللفظ أم لا، بل تجري لتشخيص الكبرى، ومعناها أصالة كون الظهور
(صفحه360)
مراداً جدّيّاً للمتكلّم، ويعبّر عنها بأصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّةوالإرادة الجديّة، فلا يصحّ أن يكون مستند أصالة الظهور هو أصالة عدمالقرينة؛ إذ تتحقّق في مثل قولنا: «رأيت أسداً يرمي» أصالة الظهور، بخلافأصالة عدم القرينة، بل يكون مستندها بناء العقلاء الثابت في الألفاظوالأعمال والأفعال؛ لحملهم الأعمال الموجبة للوهن على الالتفات والإرادةالجديّة إلاّ أن يتحقّق دليلاً على الخلاف.
والحاصل: أنّ تقدّم الخاصّ على العامّ لا يكون بلحاظ أظهريّة الخاصّ،ولا بلحاظ حكومة أصالة الظهور في الخاصّ على أصالة الظهور في العامّ، بللعدم المنافاة بينهما في محيط التقنين عند العقلاء، فلا تشملهما الأخبار العلاجيّةمن الترجيح والتخيير في صورة فقدان المرجّحات.
ولكن يستفاد من كلام صاحب الكفاية قدسسره ـ بعد الاعتراف بعدم تحقّقالمنافاة والتعارض بينهما وبمساعدة نظر المشهور لهذا المعنى ـ أنّ شمول الأخبارالعلاجيّة لهما يمكن أن يكون لأحد الاُمور التالية:
الأوّل: أن يكون السؤال فيها بملاحظة التحيّر في الحال والنظر البدوي؛لأجل ما يتراءى من المعارضة وإن كان يزول عرفاً بحسب المآل.
الثاني: أن يكون السؤال للتحيّر في الحكم واقعاً وإن لم يتحيّر فيه ظاهراً،وهو كافٍ في صحّة السؤال قطعاً.
الثالث: أن يكون السؤال لاحتمال الردع شرعاً عن هذه الطريقة المتعارفةبين أبناء المحاورة في المعاملة مع العامّ والخاص. وجلَّ العناوين المأخوذة فيأسألة الأخبار العلاجيّة تعمَّ هذه الاُمور كما لا يخفى. إنتهى كلامه مع زيادةتوضيح(1).
- (1) كفاية الاُصول 2: 402.
(صفحه 361)
والتحقيق: أنّ هذا الكلام لا يكون قابلاً للالتزام به؛ إذ التحيّر الابتدائيالزائل بأدنى تأمّل لا يقتضي كونهما داخلين في عنوان المتعارضين حتى نحتاجإلى علاج التنافي والتعارض بالأخبار العلاجيّة، بعد مرجعيّة النظر الدقّيللعرف في هذه الموارد لا نظره البدوي.
مع أنّا لا نرى في الأخبار العلاجيّة مورداً كان السؤال فيه عن العامّوالخاصّ حتّى نقول بكون السائل متحيّراً في الحكم الظاهريّ والواقعيّ، بلكان السؤال فيها عن مطلق الخبرين المتعارضين مع حجّيّة كليهما ووظيفةالمكلّف بالنسبة إليهما.
على أنّه لانجد في الأخبار العلاجيّة بعد التتبّع فيها من السؤال عن ردعالشارع عن الطريقة المتعارفة بين العقلاء بالنسبة إليهما وعدمه أثرا ولا خبرا.وعلى فرض إمكان وجوده يمكن أن يكون جواب الإمام عليهالسلام عدم الردع عنالطريقة المذكورة.
والمحقّق الحائرى قدسسره أيضاً قائل بشمول الأخبار العلاجيّة للعامّ والخاصّبعد الاعتراف بأنّ عدم تحقّق المعارضة بينهما من المرتكزات العرفيّة، ولكن معذلك يقول بعدم استلزام هذا لحمل السؤالات الواردة في الأخبار على غيرمورد العامّ والخاصّ؛ إذ المرتكزات العرفيّة لا يلزم أن تكون مشروحةومفصّلة عند كلّ أحد حتّى يرى السائل في هذه الأخبار عدم احتياجه إلىالسؤال عن حكم العامّ والخاصّ المنفصل وأمثاله؛ إذ ربّ نزاع بين العلماء يقعفي الأحكام العرفيّة مع أنّهم من أهل العرف.
ثمَّ قال: سلّمنا التفات كلّ الناس إلى هذا الحكم حتّى لا يحتمل عدم التفاتالسائلين في تلك الأخبار، فمن الممكن السؤال أيضاً لاحتمال عدم إمضاء
(صفحه362)
الشارع هذه الطريقة.
وجوابه: أنّه سلّمنا عدم لزوم كون المرتكزات العرفيّة مشروحة... ولكن لنرى في الأخبار العلاجيّة أثر من السؤال عن كلّي العامّ والخاصّ، ولا منمصاديقهما، بل السؤال فيها عن الخبرين المتعارضين أو الحديثين المختلفين،وعدم مشروحيّة المرتكز العرفي عند بعض أهل العرف لا يوجب أن يكونالسؤال عن الخبرين المتعارضين شاملاً للعامّ والخاصّ، وعدم التفات السائلإلى ما هو المرتكز عند العرف.
ثمّ قال قدسسره : «ودعوى السيرة القطعيّة على التوفيق بين العامّ والخاصّوالمطلق والمقيّد من لدن زمان الأئمّة عليهمالسلام ، وعدم رجوع أحد العلماء إلىالمرجّحات الاُخر يمكن منعها، كيف؟ ولو كانت لما خفيت على مثل شيخالطائفة قدسسره ، فلا يظن بالسيرة، فضلاً عن القطع، بعد ذهاب مثله إلى العملبالمرجّحات في تعارض النصّ والظاهر، كما يظهر من عبارته المحكّيّة عنه فيالاستبصار والعدّة، وقد نقل العبارتين شيخنا المرتضى الأنصاري قدسسره في رسالةالتعادل والتراجيح(1)، فلا حظ.
وجوابه: أنّ لازم عدم كون الخاصّ مخصّصاً للعامّ أن لا يبقى مجال للبحثعن العامّ والخاصّ في علم الاُصول، ولا بدّ من ملاحظة المرجّحات فيهموتقديم ذوالمزيّة أو التخيير، مع أنّا نرى عدم حذف شيخ الطائفة البحثالمذكور عن كتاب العدّة، ومعناه التزامه بتخصيص العامّ بالخاص.
على أنّه لا نرى في كتبه الفقهيّة من المبنى المذكور أثراً ولا خبراً، مع أنّلازم الالتزام به ترتّب أحكامه عليه في الفقه، مع أنّه لا يستفاد من عبارةكتاب العدّة والاستبصار هذا المعنى.
- (1) فرائد الاُصول 4: 82 ـ 83 .