(صفحه 369)
وأمّا إن كان التعارض بين الروايتين المتواترين بحسب الظاهر فلا ينحصرطريق الالتئام بينهما بما ذكره قدسسره ، وهو حمل أحدهما على التقيّة وصدوره خوفواتّقاء لدماء الشيعة، وهذا لا ينافي تواتر السند كما لا يخفى.
وممّا ذكرنا يظهر أنّ خروج النصّ والظاهر، والأظهر والظاهر من الأخبارالعلاجيّة يكون خروجاً موضوعيّاً؛ إذ الموضوع فيها الخبران المتعارضانوالحديثان المختلفان، وبعد تحّقق الجمع الدلاليّ المقبول عند العقلاء بينهما فليبقى عنوان التعارض والاختلاف فيهما، ولا فرق بينهما من هذه الجهة.
ولكنّ الشيخ الأنصاري قدسسره في المقام الرابع من رسالة التعادل والترجيحقائل بالفرق بين النصّ والظاهر، والأظهر والظاهر من جهتين:
الجهة الاُولى: أنّ خروج النصّ والظاهر من الأخبار العلاجيّة خروجموضوعيّ بخلاف الأظهر والظاهر؛ فإنّ خروجهما منها خروج حكميّ، مثلخروج الفسّاق من عموم «أكرم العلماء».
وجوابه أوّلاً: أنّ خروج الأظهر والظاهر منها أيضاً خروج موضوعيّ وإليلزم أن يتحقّق التعارض بينهما في جميع الاستعمالات المجازيّة حقيقة، مثل:«رأيت أسداً يرمي»، وهذا ممّا لم يلتزم به أحد.
وثانياً: لو سلّمنا عدم خروجهما من موضوع التعارض لا شكّ في احتياجالتخصيص والإخراج الحكميّ إلى الدليل المخرج، مع أنّ المراد من التعارضفيها هوالتعارض الاستقراري ـ أي بقاء التحيّر بعد التأمّل والدقّة أيضاً ـ لالتعارض البدوي، فلا دليل لخروجهما عنها.
الجهة الثانية: أنّ النصّ قرينة للتصرّف في الظاهر ومقدّم عليه أبداً بلا قيدوشرط، بخلاف الأظهر؛ فإنّ قرينيّته وتقدّمه على الظاهر مقيّد بالمقبوليّة عندالعقلاء(1).
(صفحه370)
والإنصاف: أنّ قيد المقبوليّة عند العقلاء لاشبهة في دخالته في الجمع العرفي،سواء كان في الأظهر والظاهر أو النصّ والظاهر؛ إذ التعارض قد يتحقّق فيالنصّ والظاهر عند العقلاء، كما في قوله: «صلّ في الحمام» فإنّه ظاهر في الدلالةعلى الوجوب ونصّ في الدلالة على المشروعيّة، وقوله: «لاتصلّ في الحمام»فإنّه ظاهر في عدم المشروعيّة، ومع ذلك يتحقّق التعارض بينهما عند العقلاء،فالمعيار في هذه الموارد نظر العرف ومساعدة العقلاء بدون الفرق بين الأظهروالظاهر، والنصّ والظاهر.
- (1) فرائد الاُصول 4: 81 ـ 82 .
(صفحه 371)
(صفحه372)
فصل
في تشخيص موارد النصّ والظاهر عن الأظهر والظاهر
والتحقيق: أنّه لا يمكن لنا جعل القانون الكلّيّ والضابطة الكلّيّة لتعيينمواردهما؛ لارتباطهما بمقام الدلالة وتختلف الدلالة بحسب اختلاف المقاماتوالموارد، ومع ذلك نرى في كلمات المحقّقين من الاُصوليّين ذكر كلّيّات منهبعنوان المصداق لهما، ولا بّد من البحث فيها لترتّب الأثر الفقهي عليها،وملاحظتها من حيث التماميّة وعدمها، ونتعرّض لما ذكره المحقّق النائينيّ قدسسره لأنّهجامع في المقام، ونضمّ إليه ما عندنا من إشكال.
فنقول: قال المحقّق النائيني قدسسره : فمن الموارد التي تندرج في النصوصيّة ما إذكان أحد الدليلين أخصّ من الآخر وكان نصّاً في مدلوله، قطعيّ الدلالة؛ فإنّهيوجب التصرّف في العامّ وروداً أو حكومة، على التفصيل المتقدّم.
ومنها: ما إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن في مقام التخاطب؛ فإنّ القدرالمتيقّن في مقام التخاطب وإن كان لاينفع في مقام تقييد الإطلاق مالم يصل إلىحدّ يوجب انصراف المطلق إلى المقيّد، إلاّ أنّ وجود القدر المتيقّن ينفع في مقامرفع التعارض عن الدليلين؛ فإنّ الدليل يكون كالنصّ في القدر المتيقّن، فيصلحلأن يكون قرينة على التصرّف في الدليل الآخر مثلاً: لو كان مفاد أحدالدليلين وجوب إكرام العلماء، وكان مفاد الآخر حرمة إكرام الفسّاق، وعلم
(صفحه 373)
من حال الآمر أنّه يبغض العالم الفاسق ويكرهه أشدّ كراهةً من الفاسق الغيرالعالم، فالعامّ الفاسق متيقّن الاندراج في عموم قوله: «لا تكرم الفساق»،ويكون بمنزلة التصريح بحرمة إكرام العالم الفاسق، فلابّد من تخصيص قوله:«أكرم العلماء» بما عدا الفسّاق منهم(1).
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره : أولاً: بأنّ القدر المتيقّن الذييوجب أن يكون الدليل نصّاً بالنسبة إليه هو ما يوجب الانصراف، وليس لهفردان، فرد موجب للانصراف، وفرد غير موجب له، ومع وجود الانصرافلا تعارض بين الدليلين أصلاً، بل يصيران من قبيل العامّ والخاصّ المطلقالذي عرفت أنّه لايصدق عليهما عنوان التعارض أصلاً.
وثانياً: أنّه على تقدير تسليم كون القدر المتيقّن مطلقاً موجباً لصيرورةالدليل نصّاً بالنسبة إليه نقول: تخصيص ذلك بخصوص ماإذا كان هنا قدرمتيقّن في مقام التخاطب لاوجه له؛ فإنّ النصوصيّة على تقديرها ثابتة بالنسبةإلى مطلق القدر المتيقّن، سواء كان في مقام التخاطب أو في غير هذا المقام.
وثالثاً ـ وهو العمدة في الجواب ـ : أنّ المراد بالقدر المتيقّن إن كان هوالمقدار الذي علم حكمه بحيث لم يكن في الحكم المتعلّق به ريب ولا شبهة،مثلاً: علم في المثال أنّ العالم الفاسق محرّم الإكرام، فمع وجود هذا العلم يتحقّقالانصراف بالنسبة إلى الدليل الآخر الدالّ بظاهره على وجوب إكرام العلماءعموماً؛ فإنّه مع العلم بعدم وجوب إكرام العالم الفاسق بل حرمته كيف يبقىالشكّ في مقدار دلالة ذلك الدليل وإن كان ظاهره العموم؟
وإن كان المراد به أنّ ذلك المقدار متيقّن على تقدير ثبوت الحكم بالنسبةإلى غيره ـ مثلاً: لو كان الجاهل الفاسق محرّم الإكرام لكان العالم الفاسق كذلك
- (1) فوائد الاُصول 4: 728.