(الصفحة 124)
على المبنى الآخر يكون الوجه في النجاسة عدم دلالة الوجوه الدالّة على طهارة الدم المتخلّف على استثناء مثل الفرض أيضاً فتدبّر. وكيف كان فقد ظهر انّ الملاك في مسألة رجوع الدم إلى الجوف يغاير ما هو الملاك في هذه المسألة من كون رأس الذبيحة في علوّ فلا يختلط عليك الأمر هذا كلّه في صورة العلم بالحال.
وامّا لو شكّ في الدم المتخلّف في الذبيحة في انّه من القسم الطاهر أو النجس فقد قال في العروة: «الظاهر الحكم بنجاسته عملاً بالاستصحاب وإن كان لا يخلو عن إشكال، ويحتمل التفصيل بين ما إذا كان الشكّ من جهة احتمال ردّ النفس فيحكم بالطهارة لأصالة عدم الردّ، وبين ما كان لأجل احتمال كون رأسه على علوّ فيحكم بالنجاسة عملاً بأصالة عدم خروج المقدار المتعارف».
والظاهر انّ مراده (قدس سره) من الاستصحاب هو استصحاب بقاء الدم المذكور على النجاسة لكونه معلوم النجاسة سابقاً حال كونه في عروق الحيوان في حياته فإذا شككنا في طرو الطهارة عليه تستصحب نجاسته.
وفيه: انّه لا دليل على نجاسة الدم في الباطن لأنّ القدر المتيقّن من نجاسة الدم انّما هو بعد خروجه عن العروق وبلوغه إلى الظاهر ولعلّه لذا حكم بأنّه لا يخلو عن إشكال كما انّ أصالة عدم ردّ النفس لا مجال لها لعدم كون ردّ النفس حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي والمستصحب لابدّ وأن يكون من أحدهما والموضوع للحكم الشرعي هو الدم المتخلّف وأصالة عدم ردّ النفس لا يثبت خروج الدم بالمقدار المتعارف فضلاً عن كون الباقي متّصفاً بأنّه دم متخلّف كما انّ أصالة عدم خروج المقدار المتعارف لا تثبت نجاسة هذا الدم لأنّ الدم النجس هو الدمّ غير المتخلّف أو الدم المسفوح أو مثلهما من العناوين والأصل لا يثبت هذه العناوين مضافاً إلى انّه على تقدير الإغماض عن ذلك نقول إنّ الشكّ في خروج المقدار
(الصفحة 125)
المتعارف في هذا الفرض يكون ناشياً عن الشكّ في كون رأسه على علوّ فما المانع على هذا التقدير من إجراء اصالة عدم كون رأسه على علوّ وحكومته على الأصل المقتضى للنجاسة، لكن التحقيق عدم جريان شيء من هذه الاُصول لكون جريان الاُصول المثبتة على خلاف التحقيق.
المقام الثاني: في حرمة أكل الدم المتخلّف الطاهر وقد استثنى منها المتن موردين أحدهما ما كان مستهلكاً في الامراق ونحوه وثانيهما ما يعدّ جزء من اللحم وتابعاً له امّا أصل الحرمة فهو المشهور بين الأصحاب وقد خالف فيه صاحب الحدائق (قدس سره) حيث ذهب إلى عدم حرمة الدم المتخلّف في الذبيحة ولم يقتصر على ذلك بل نسبه إلى الأصحاب واستدلّ عليه بما لا يمكن المساعدة عليه بوجه.
والحقّ: ما ذهب إليه المشهور من عدم الحلّية وعدم ثبوت الملازمة بين الطهارة والحلية وعدم دليل آخر عليها في مقابل الآية الشريفة: (حرّمت عليكم الميتة والدم...) الدالّة على أصالة حرمة أكل الدم وإنّ الحكم العام فيه هي الحرمة.
إن قلت: الدليل على جواز أكل الدم المتخلّف في الذبيحة قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أُوحي إليَّ محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً...)(1) فانّه يمكن الاستدلال به على جواز أكل المتخلّف من جهتين:
الاُولى: انّ الآية تدلّ على حصر المحرمات فيما ذكر فيها من الاُمور كما هو مقتضى كلمة: «إلاّ» الواقعة بعد النفي، ولم يعدّ من تلك الاُمور الدم المتخلّف.
الثانية: انّ مفهوم الوصف يقتضي حلّية الدم غير المسفوح لتوصيف الدم الحرام بكونه مسفوحاً.
(الصفحة 126)
قلت: الآية لا تكون دليلاً على جواز أكله بوجه: امّا من الجهة الاُولى ـ وهي استفادة المطلوب من الحصر في الآية ـ ففيها انّ الحصر فيها لا يكون حقيقياً لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن لوضوح انّ المحرمات غير منحصرة في تلك الاُمور فلا محيص امّا من حملها على الحصر الإضافي بدعوى انّ المحرمات بالإضافة إلى ما جعلته العرب في ذلك العصر محرّماً على أنفسها منحصرة في تلك الاُمور، وامّا من حملها على زمان نزولها وانحصار المحرمات في ذلك الزمان فيها وبالجملة لا يستفاد منها حلية أكل الدم المتخلّف أصلاً.
وامّا من الجهة الثانية ففيها ما لا يخفى من عدم ثبوت مفهوم الوصف ولا غيره من القيود حتّى الشرط لابتنائه على إثبات كون القيد علّة منحصرة لثبوت سنخ الحكم بحيث ينتفي السنخ بانتفاء القيد وأصل العلّية فضلاً عن الانحصار ممنوع فما الدليل على كون المسفوحية علّة حتّى نبحث بعده عن انحصارها فيه فتدبّر فانقدح انّ الآية الشريفة ساكتة عن حكم الدم غير المسفوح مع عدم وضوح معنى المسفوح أيضاً كما عرفت، فاللازم الرجوع في حكم الدم المتخلّف من جهة الأكل إلى الدليل العام المقتضي لحرمة أكل الدم. نعم فيما إذا كان مستهلكاً في الامراق ونحوه لا يكون الموضوع باقياً حتّى يحكم عليه بالحرمة كما انّه فيما إذا كان معدوداً جزء من اللحم وتابعاً يكون مقتضى سيرة المتشرّعة عدم لزوم الاجتناب عنه في الأكل وعدم لزوم تخليص اللحم من الدم بالكلّية كما لا يخفى.
(الصفحة 127)
مسألة 8 ـ ما شكّ في انّه دم أو غيره طاهر مثل ما إذا خرج من الجرح شيء أصفر قد شكّ في انّه دم أو لا، أو شكّ من جهة الظلمة أو العمى أو غير ذلك في انّ ما خرج منه دم أو قيح، ولا يجب عليه الاستعلام، وكذا ما شكّ في انّه ممّا له نفس سائلة أو لا، امّا من جهة عدم العلم بحال الحيوان كالحية ـ مثلاً أو من جهة الشكّ في الدم وانّه من الشاة مثلاً أو من السمك فلو رأى في ثوبه دماً ولا يدري انّه منه أو من البق أو البرغوث يحكم بطهارته 1.
1 ـ قد تقدّم البحث في بعض فروع هذه المسألة وهي صورة الشكّ في كونه ممّا له نفس سائلة أو لا والحكم في الجميع هو الرجوع إلى قاعدة الطهارة لكون الشبهة في جميعها موضوعية والحكم فيها جريان القاعدة وقد مرّ انّه لا يجب الاستعلام وإن كان رفع الشبهة متوقّفاً على مجرّد النظر ونحوه.
(الصفحة 128)
مسألة 9 ـ الدم الخارج من بين الأسنان نجس وحرام ولا يجوز بلعه، ولو استهلك في الريق يطهر ويجوز بلعه، ولا يجب تطهير الفمّ بالمضمضة ونحوها 2.
2 ـ الوجه في نجاسة الدم الخارج من بين الأسنان وحرمته هو الوجه في نجاسة غيره من الدم الخارج من الإنسان وحرمته لعدم الفرق واحتمال كونه ما لم يخرج من الفم إلى الخارج يعدّ من قبيل الدم في الباطن ضعيف جدّاً فانّ كونه في الباطن ما دام لم يخرج من العروق ولم يظهر في الفم فلا مجال للإشكال في الحرمة والنجاسة. نعم لو استهلك في الريق يطهر ويجوز بلعه على ما في المتن ولكن في التعبير مسامحة فانّه بعد الاستهلاك ليس بشيء حتّى يحكم عليه بالطهارة وجواز البلع بل المقصود جواز بلع الريق الذي استهلك فيه الدم من جهة عدم اشتماله على الأجزاء الدموية على ما هو المفروض وعدم تنجّسه بملاقات الدم لعدم الدليل على تنجّس الأجزاء الداخلية بملاقاة شيء من النجاسات والفرق ـ على ما في العروة ـ بين الدم الخارج من الأسنان واستهلاكه في ماء الفم وبين الدم الداخل من الخارج كذلك بإيجاب الاحتياط في الثاني في غير محلّه وإلاّ لكان اللازم عدم جواز تزريق الدم من الخارج لإيجابه نجاسة الدم في العروق كلاًّ.