(الصفحة 300)
الغالب العدم فتدبّر.
وامّا الروايات الدالّة على وجوب الإزالة فمنها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن الدابة تبول فتصيب بولها المسجد أو حائطه أيُصلّى فيه قبل أن يُغسل؟ قال: إذا جفّ فلا بأس. بتقريب انّ المستفاد من الرواية انّ وجوب إزالة النجاسة عن المسجد كان مرتكزاً ومفروغاً عنه عند السائل وانّما كان مورد ترديده هو وقتها وانّه هل يكون على الفور أو انّه يجوز تأخيرها عن الصلاة وقد قرّره الإمام (عليه السلام) على هذا الارتكاز ولم يردعه عن هذا الاعتقاد.
ويمكن المناقشة في الاستدلال بالصحيحة بوجوه:
أحدها: عدم وجوب الإزالة في خصوص موردها فانّ بول الدابة لا يكون نجساً حتّى ينجس المسجد ويقع المصلّي في ضيق التكليف من هذه الجهة.
وقد اُجيب عنه بأنّ سؤاله عن بول الدابة يحتمل أن يكون مستنداً إلى احتماله نجاسة أبواب الدواب أو اعتقاده لها ـ كما ذهب إليه جملة من فقهاء العامّة ـ ومنه يظهر انّ عدم حكمه (عليه السلام) بطهارته مستند إلى التقية وعدم إظهاره المخالفة مع المخالفين، كما انّ تعليق نفي البأس على صورة الجفاف لعلّه من جهة استقذاره مع الرطوبة وعدمه مع عدمها ولا يقدح ذلك في الاستدلال بالرواية أصلاً.
ثانيها: انّه يحتمل أن لا يكون السؤال في الرواية ظاهراً في الارتكاز والمفروغية عند السائل بل كان سؤاله راجعاً إلى حكم ترجيح أحد الأمرين المستحبّين على الآخر حيث انّ ظاهر الصحيحة سعة الوقت للصلاة وتمكّن المكلّف من الإتيان بها بعد الغسل ومن الظاهر انّ المبادرة إلى الواجب الموسع مستحبّة كما انّ تنظيف المسجد عن القذارة والكثافة ولو لم تكن نجسة أمر مرغوب فيه في الشريعة، فالسؤال إنّما يرجع إلى انّ المستحبّين أيّهما أولى بالتقديم من غيره ويؤيّد ذلك
(الصفحة 301)
التفصيل في الجواب بين صورة الجفاف وعدمه فانّه لا يلائم مع نجاسة بول الدابة مضافاً إلى انّه من البعيد في حق علي بن جعفر أن يكون محتملاً أو معتقداً بنجاسته بل يناسب التفصيل مع ما ذكر فانّه مع عدم حصول الجفاف يكون استقذاره باقياً بحاله، فتقديم الغسل أولى، وامّا مع الجفاف فتقديم الصلاة كذلك.
وفيه: انّ التعبير بعدم البأس لا يلائم مع كون السؤال عن ترجيح أحد المستحبّين على الآخر كما هو ظاهر.
والإنصاف: انّ الرواية ـ سؤالاً وجواباً ـ ناظرة إلى مطلب آخر وهو انّ تنجّس المسجد بإصابة بول الدابة النجس إليه هل يمنع عن الصلاة فيه باعتبار اشتراط طهارة مكان المصلّي أو خصوص مسجد الجبهة أو لا يمنع عن ذلك، امّا كون المفروض نجاسة بول الدابة فلدلالة قوله: «قبل أن يغسل» عليه ضرورة أن الغسل إنّما يطلق في موارد النجاسة فلا ينبغي الإشكال من هذه الجهة في كون المفروض نجاسة بول الدابة وعليه فالدابة انّما هي بمعناها العامّ الشامل لمثل الكلب أيضاً، وامّا كون النظر إلى اعتبار طهارة المكان فمضافاً إلى ظهور السؤال فيه في نفسه وإلى دلالة الجواب المشتمل على خصوصية التعبير بنفي البأس وعلى تعليقه على صورة الجفاف الظاهر في انّ الرطوبة مانعة لأجل السراية يدلّ عليه كثير من روايات علي بن جعفر في المقام المتقدّم فانّ التعبير فيها وفي هذه الرواية واحد ولنقتصر على ذكر واحدة منها وهي صحيحته عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلّى فيهما إذا جفا؟ قال: نعم.
فهل ترى فرقاً بين السؤال في هذه الرواية والسؤال في رواية المقام وعلى ما ذكر فلا دلالة في الرواية على وجوب إزالة النجاسة عن المسجد أصلاً بل هي ناظرة إلى ما عرفت. نعم يبقى فيما ذكرنا شيء وهو انّ إصابة البول إلى حائط المسجد لا يلائم
(الصفحة 302)
معه وجوابه ـ مضافاً إلى ورود هذا الإيراد على الصحيحة الواردة في البيت والدار أيضاً فإنّ إصابة البول إليهما لا ظهور فيها في إصابة أرضهما فمن الممكن أن يصيب البول إلى حائطهما ـ ان ذكر الحائط بلحاظ تماس المصلّي معه في حال الجلوس أو القيام فتدبّر.
وكيف كان فهذه الصحيحة لا يمكن الاستدلال بها على وجوب إزالة النجاسة وارتكازه ومفروغيته بوجه أصلاً.
ومنها: موثقة محمد الحلبي قال: نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر فدخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: أين نزلتم؟ فقلت: نزلنا في دار فلان، فقال: إنّ بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً، أو قلنا له: إنّ بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً؟ فقال: لا بأس; إنّ الأرض تطهّر بعضها بعضاً، قلت: والسرقين الرطب أطأ عليه؟ فقال: لا يضرّك مثله.
وعن الحلبي بطريق آخر عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: إنّ طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه فربما مررت فيه وليس على حذاء فيلصق برجلي من نداوته؟ فقال: أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس انّ الأرض تطهر بعضها بعضاً، قلت: فأطأ على الروث الرطب؟ قال: لا بأس أنا والله ربّما وطئت عليه ثمّ اُصلّي ولا أغسله.
ويرد على الاستشهاد بها انّ الظاهر من السؤال والجواب كون النظر إلى نجاسة رجل المصلّي وبدنه المانعة عن الصلاة لا إلى تنجيس المسجد وتحريمه ويشهد لهذا الظهور قوله (عليه السلام) : «أنا والله ربّما وطئت عليه ثمّ اُصلّي...» بداهة عدم ارتباطه بالمسجد بل غرضه (عليه السلام) حصول الطهارة للرجل وجواز الصلاة معه من دون حاجة إلى الغسل فانّ الأرض يوجب حصول الطهارة له فهذه الرواية أيضاً أجنبية عن
(الصفحة 303)
المقام.
ومنها: الروايات المستفيضة الدالّة على جواز اتخاذ الكنيف مسجداً بعد تنظيفه أو طمّه مثل صحيحة عبدالله بن سنان قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المكان يكون حشاً زماناً فينظف ويتّخذ مسجداً فقال: الق عليه من التراب حتّى يتوارى فإنّ ذلك يطهر إن شاء الله. وغيرها من الأخبار الواردة في ذلك فانّ مفادها مفروغية عدم ملائمة النجاسة والمسجدية ولزوم إزالتها عن المسجد.
لكن ربّما يقال: إنّ مقتضاها وجوب إزالة النجاسة عن ظاهر المسجد فقط وامّا باطنه فلا تجب إزالة النجاسة عنه ولا يحرم تنجيسه لما يستفاد منها من عدم منافاة نجاسة الباطن مع المسجدية وإلاّ لم يكن الطمّ وإلقاء التراب كافياً في جواز اتّخاذ الكنيف مسجداً لأنّ إلقاء التراب لا يوجب حصول الطهارة المصطلحة له بل غايته منعه من السراية كما لا يخفى وعليه فقد وقع الكلام في انّه هل يستفاد من هذه الروايات حكم تعبّدي مخصوص بموردها أو انّ الحكم المذكور فيها يشمل جميع الموارد فقد ذهب صاحب الجواهر (قدس سره) تبعاً للأردبيلي (قدس سره) إلى اختصاص الحكم بخصوص موردها وما يشبهه ممّا تتعذّر إزالة النجاسة عنه أو تتعسّر فلا يشمل ما يتيسّر تطهيره.
ويرد عليه أمران:
الأوّل: إنّ ظاهر الروايات كون الطمّ واخلقاء التراب مطهراً بل كونه أطهر من تنظيف المكان الذي يكون ظاهره التنظيف بالماء لا مجرّد جمع العذرات والكثافات عنه وعليه فظاهرها كونه محقّقاً للطهارة المعتبرة في المسجدية لا انّه حكم تعبّدي مخصوص بما تتعذّر إزالة النجاسة عنه أو تتعسّر ويؤيّده عدم إشعار شيء منها بثبوت الحكم التعبّدي الخاص خصوصاً مع اشتمال أكثرها على التعليل بكون إلقاء
(الصفحة 304)
التراب مطهراً أو انّه أطهر من التنظيف وخصوصاً مع دلالة بعضها على اعتبار التنظيف والإصلاح، ففي خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن بيت كان حشاً زماناً هل يصلح أن يجعل مسجداً؟ قال: إذا نظف واُصلح فلا بأس. فإنّ مقتضى الجمع بينه وبين غيرها اعتبار التنظيف والإصلاح وانّه يحصل بإلقاء التراب والطمّ أيضاً، وعليه فإلقاء التراب أحد الطريقين لحصول الطهارة المعتبرة في المسجدية مطلقاً من دون فرق بين صورة التعذّر والتعسّر وعدمهما.
الثاني: انّه لم يقم دليل على وجوب إزالة النجاسة عن باطن المسجد لأنّ عمدة الأدلّة هي ارتكاز المتشرّعة وانعقاد الإجماع في المسألة. ومن الواضح عدم ثبوت الارتكاز بالإضافة إلى الباطن ولم يعلم اندراجه في معقد الإجماع مع انّه دليل لبّي خصوصاً مع فتوى المجمعين بجواز اتّخاذ الكنيف مسجداً بعد طمّه بل بعد طرح التراب بمقدار يقطع ريحه من غير إشعار في كلامهم بكونه حكماً خاصّاً تعبّدياً مستثنى ممّا أجمعوا عليه من وجوب إزالة النجاسة عن المساجد.
وامّا صحيحة علي بن جعفر فهي على تقدير الدلالة واردة في نجاسة ظاهر المسجد أو جداره لأنّ المفروض فيها إصابة بول الدباة إليهما على خلاف العادة.
وامّا هذه الروايات فموردها نجاسة الباطن ومفادها عدم لزوم التطهير على هذا الفرض فكيف يمكن تعميم الحكم بالإضافة إلى البواطن أيضاً.
ولكن الإنصاف انّ الفتوى بعدم وجوب إزالة النجاسة عن باطن المسجد مشكلة لأنّه ـ مضافاً إلى انّ المرتكز عند المتشرّعة منافاة المسجدية مع النجاسة ومن الواضح انّ باطن المسجد لا يكون خارجاً عن عنوان المسجدية بمجرّد كونه متّصفاً بأنّه باطن ـ يكون المستفاد من روايات اتخاذ الكنيف مسجداً الحاجة إلى التطهير، غاية الأمر كون طمّه بالتراب مطهّراً له بالطهارة المعتبرة في المسجدية