(الصفحة 27)
إن قلت: الحرمة قد علقت على كون الحيوان ميتة لا كونه غير مذكّى لقوله تعالى: (حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير...)(1) فلا يثبت باستصحاب عدم التذكية حرمة الأكل لعدم ثبوت عنوان «الميتة» به.
قلت: الدليل لا يكون منحصراً بالآية الشريفة فانّ الإجماع قائم على حرمة أكل الحيوان غير المذكّى كما هو ظاهر فلا مانع من جريان الاستصحاب والحكم بالحرمة. هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل.
الفرع الثاني: لو شكّ في خرء حيوان انّه من مأكول اللحم أو محرمه من جهة الشكّ في انّ هذا الخرء من الحيوان الفلاني الذي يكون خرؤه نجساً أو من الذي يكون طاهراً كما إذا رأى شيئاً لا يدري انّه بعرة فأر أو خنفساء، والحكم فيه الطهارة لقاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الموضوعية بلا إشكال.
الفرع الثالث: لو شكّ في خرء حيوان انّه ممّا له نفس سائلة أو من غيره ممّا ليس له لحم كالمثال المتقدّم والحكم فيه أيضاً الطهارة لما ذكر وقد عرفت انّه لا حاجة في إجراء قاعدة الطهارة في الشبهات الموضوعية إلى الفحص كما هو المشهور ولكن يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) نوع ترديد في ذلك قال: «بقي شيء بناء على اعتبار هذا القيد ـ أي كونه من ذي النفس ـ وهو انّ مجهول الحال من الحيوان الذي لم يدر أنّه من ذي النفس أم لا يحكم بطهارة فضلته حتّى يعلم انّه من ذي النفس للأصل واستصحاب طهارة الملاقى ونحوه، أو يتوقّف الحكم بالطهارة على اختباره بالذبح ونحوه لتوقّف امتثال الأمر بالاجتناب عليه ولأنّه كسائر الموضوعات التي علّق الشارع عليها أحكاماً كالصلاة للوقت والقبلة ونحوهما، أو يفرق بين الحكم
(الصفحة 28)
بطهارته وبين عدم تنجيسه للغير فلا يحكم بالأوّل إلاّ بعد الاختبار بخلاف الثاني للاستصحاب فيه من غير معارض ولأنّه ـ حينئذ ـ كما لو أصابه رطوبة متردّدة بين البول والماء؟ وجوه لم أعثر على تنقيح منها في كلمات الأصحاب».
وفيه انّه لا فرق بين هذه الشبهة وسائر الشبهات الموضوعية في عدم لزوم الفحص لإطلاق الدليل أعني قوله (عليه السلام) : «كل شيء نظيف...» وقياس المقام بالقبلة والوقت قياس مع الفارق لأنّهما من قيود المأمور به ومع الإتيان بالصلاة بهذه الكيفية التي يشكّ في تحقّق بعض قيودها لم يحرز إتيان المأمور به مع كون التكليف معلوماً أوّلاً وواحداً ثانياً وهذا بخلاف المقام فانّ نجاسة فضلة كلّ ما لا يؤكل لحمه فلها حكم مستقلّ ومانعية كذلك فإذا وجد في الخارج شيء وصدق عليه انّه بول ما لا يؤكل لحمه ـ مثلاً ـ يترتّب عليه حكمه وإذا شككنا في ذلك فلا محالة نشكّ في نجاسته في توجه أصل التكليف بالاجتناب إلينا والأصل الجاري في المقام الطهارة بلحاظ حكمه الوضعي والبراءة بالإضافة إلى الحكم التكليفي. نعم لو قلنا بشرطية الطهارة أو عدم النجاسة يصير من جهة الأصل العقلي كالقبلة والوقت وامّا من جهة الأصل الشرعي فيتفرّق عنهما أيضاً لحكومة اصالة الطهارة على دليل اشتراطها كما لايخفى.
نعم ربّما يستشكل في جريانها في الموارد التي يزول الشكّ بأدنى شيء كمجرّد النظر بدعوى انصراف أدلّة الاُصول عن مثلها واختصاصها بما إذا كان ارتفاع الشكّ متوقّفاً على الاختبار والفحص والدقّة لكن الأقوى تبعاً لما أفاده الماتن ـ دام ظلّه ـ خلاف ذلك سيّما في باب النجاسات لصحيحة زرارة المعروفة في باب الاستصحاب وفيها: «قلت: فهل عليَّ إن شككت في انّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنّك انّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك»، بل لا يبعد دعوى
(الصفحة 29)
ظهورها في انّ عدم لزوم الفحص انّما هو للاتّكال على الاستصحاب من دون خصوصية للنجاسة، ولمنع الانصراف.
الفرع الرابع: لو شكّ في خرء حيوان انّه ممّا له نفس أو من غيره ممّا له لحم محرم وقد استشكل فيه في المتن كما تقدّم في المسألة الاُولى ولكنّك عرفت انّ طهارة الخرء في الحيوان الذي له لحم محرم وليس له نفس سائلة لا يحتاج إلى الدليل ولا تبعد دعوى الانصراف في بوله أيضاً وعليه فالحكم في مورد الشكّ أيضاً الطهارة لما عرفت في الفرعين السابقين.
(الصفحة 30)
الثالث: المني من كل حيوان ذي نفس حلّ أكله أو حرم دون غير ذي النفس فانّه منه طاهر 1.
1 ـ الكلام فيه يقع في أربع مسائل:
المسألة الاُولى: في نجاسة المني من الإنسان ولا ينبغي الإشكال فيها وقد انعقد عليها الإجماع بل وتدلّ عليها الضرورة ولم يخالف فيه أحد من أصحابنا الإمامية ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ .
وعن السيّد المرتضى (قدس سره) الاستدلال عليها في الناصريّات ـ مضافاً إلى الإجماع ـ بقوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان)(1) حيث إنّها نزلت في بدر بعد احتلام جمع من المسلمين وعدم وجدانهم الماء ثمّ نزول المطر عليهم، قال: «دلّت الآية على نجاسة المني من وجهين: أحدهما قوله تعالى: ويذهب عنكم رجز الشيطان، والرجز والنجس بمعنى واحد، إلى أن قال: والثاني من دلالة الآية انّه تعالى أطلق عليه اسم التطهير والتطهير لا يطلق في الشرع إلاّ لإزالة النجاسة أو غسل الأعضاء الأربعة».
وفيه ـ مضافاً إلى توقّفه على إحراز عدم تنجّس أبدانهم بمثل البول مدّة توقّفهم في البدر مع فقدان الماء ولا يكاد يحرز ذلك بوجه ـ انّ الظاهر من عطفه قوله تعالى «يذهب عنكم» على قوله تعالى «ليطهّركم ...» بالواو الظاهر في المغايرة بين الأمرين انّ التطهير بالماء غير إذهاب الرجز. وعليه فالمراد من التطهير امّا التطهير من الخبث أو الأعمّ منه ومن رفع الحدث، والمراد من إذهاب الرجز رفع الجنابة على الأوّل واخذهاب وسوسة الشيطان على الثاني كما عن ابن عبّاس لأنّه قد
(الصفحة 31)
حكى انّ الكفّار في وقعة بدر قد سبقوا المسلمين إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل فأصبحوا محدثين ومجنبين وأصابهم الظماء ووسوس إليهم الشيطان فقال: إنّ عدوّكم قد سبقكم إلى الماء وأنتم تصلّون مع الجنابة والحدث وتسوخ أقدامكم في الرمل فمطّرهم الله حتّى اغتسلوا به من الجنابة وتطهّروا به من الحدث وتلبدت به أرضهم وأوحلت أرض عدوّهم، وعليه فالاستدلال بالآية الشريفة ممّا لا يتمّ أصلاً.
نعم تدلّ على النجاسة ـ مضافاً إلى الإجماع ـ طوائف من الأخبار:
منها: ما أمر فيها بغسله كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن المذي يصيب الثوب فقال: ينضحه بالماء إن شاء، وقال في المني يصيب الثوب؟ قال: إن عرفت مكانه فاغسله وإن خفي عليك فاغسله كلّه.
ورواية عنبسة بن مصعب قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المني يصيب الثوب فلا يدرى أين مكانه؟ قال: يغسله كلّه. فإنّ إطلاق الأمر بالغسل في مثلهما دليل على النجاسة ويدفع احتمال كونه مانعاً عن الصلاة من غير كونه نجساً مع انّ المتفاهم عند العرف من مثل هذا التعبير هي النجاسة.
ومنها: ما أمر فيها بإعادة الصلاة التي صلّيت فيه كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ذكر المني وشدّده وجعله أشدّ من البول ثمّ قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة، فعليك إعادة الصلاة وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت فيه ثمّ رأيته بعد فلا إعادة عليك وكذا البول. فإنّ إيجاب الإعادة وإن لم يكن بمجرّده دليلاً على النجاسة إلاّ ان الإرداف بالبول وجعله أشدّ منه قرينة واضحة عليها كما لا يخفى.
ومنها: ما أمر فيها بالصلاة عرياناً مع انحصار الثوب بما فيه الجنابة كموثّقة