(الصفحة 52)
الملاقاة مع الرطوبة قد تتّفق نادراً فكيف يمكن حمل الإطلاقات عليها ولأجل ذلك ينفتح باب المناقشة بالإضافة إلى الجهة الاُولى المتعرّضة لأصل النجاسة بتقريب انّه لو كان جسد الميّت نجساً لكان اللازم حسب ما هو المركوز في الأذهان تخصيص نجاسة الملاقى بصورة وجود الرطوبة وحيث لا يمكن حمل المطلقات ـ مع تكثّرها ـ على الافراد النادرة فلابدّ أن يقال بعدم كون الميّت نجساً وانّ نجاسة الملاقى مطلقاً حكم تعبّدي غير مرتبط بالنجاسة والسراية أصلاً كما التزم به جملة من القائلين بوجوب غسل اليد مع الجفاف.
ولكن المناقشة في تلك الجهة مندفعة بما ذكرنا فيها من وضوح دلالة الروايات على نجاسة الميت كسائر الأعيان النجسة وعليه فلِمَ لا يكون الارتكاز العرفي في اعتبار الرطوبة في السراية قرينة صارفة للمطلقات خصوصاً مع ملاحظة الموثقة الدالّة على طهارة كل يابس ولكن لا ينبغي مع ذلك ترك الاحتياط. وقد انقدح ممّا ذكرنا منشأ سائر الاحتمالات والجواب عنها فتدبّر جيّداً خصوصاً ما أفاده الحلّي في العبارة المحكية فإنّ الإجماعين على تقدير الثبوت لا يثبتان عدم نجاسة من مسّ الميّت أصلاً فمن الممكن الالتزام بحصول الطهارة التبعية له كما مرّ، مع عدم ثبوتهما أصلاً خصوصاً بعد ملاحظة انّه قد ورد الأمر بغسل يديه قبل التكفين في الروايات.
بقي الكلام في هذه المسألة في انّه هل تتحقّق النجاسة بمجرّد الموت كما عليه جماعة من المحقّقين ، أو يتوقّف على حصول البرد فبعد الموت وقبل البرد لم تحدث النجاسة كما عليه جماعة اُخرى منهم؟ قولان:
والظاهر هو القول الأوّل لإطلاق أدلّة النجاسة المتقدّمة والتفسير في رواية ابن ميمون بما إذا برد الميّت قد عرفت انّه من الراوي ومن المعلوم انّ تفسيره لا يكون
(الصفحة 53)
حجّة بحيث يرفع اليد بسببه عن الإطلاق فيها فضلاً عن إطلاق غيرها من الروايات.
وما يمكن أن يكون مقيّداً لها هي صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)قال: مسّ الميّت عند موته وبعد غسله والقبلة ليس بها بأس. ورواه الصدوق مرسلاً. قال المحدّث الكاشاني ـ على ما حكي عنه ـ : «ربّما يوجد في بعض النسخ: بعد موته، وهو تصحيف» وفي بعض النسخ: «به» بدل «بها» وفي النسخة المطبوعة من الفقيه أخيراً: «وقال أبو جعفر (عليه السلام) :من مسّ الميّت بعد موته وبعد غسله والقبلة ليس بها بأس» لكن جعل علامة بدل النسخة: «عند موته وعند غسله».
وكيف كان فإن كانت الرواية مروية بالكيفية الاُولى الدالّة على نفي البأس عن مسّ الميّت عند موته ومسّه بعد غسله والقبلة ـ أي في إحدى الحالتين ـ فلابدّ من ملاحظة المراد من كلمة «عند» وانّه هل يكون المقصود منها هو قبيل الموت ـ كما في نظائره ـ أو انّ المقصود منها التقارن بمعنى وقوع الموت والمسّ في آن واحد أو انّه يراد بها بعد الموت أي الانات الأوّلية المتّصلة بالموت، والاستشهاد بالرواية للتقييد انّما يتوقّف على إثبات الاحتمال الثالث مع انّه خلاف الظاهر لأنّه لا يطلق كلمة «عند» على ما يقع بعد المضاف إليه لها فلا يقال: عند الزوال لما بعد الزوال وهكذا والاحتمال الأوّل وإن كان ملائماً لمعنى الكلمة إلاّ انّه لا يجتمع مع إضافة المسّ إلى الميّت الظاهرة في وقوع الموت قبل المسّ فلابدّ من التصرّف في إحداهما أو القول بالإجمال، وامّا الاحتمال الثاني فهو وإن كان في نفسه ممّا لا مانع منه وبه يتحقّق الجمع بين إطلاق تلك الكلمة وإضافة المسّ إلى الميّت إلاّ انّه يبعده عدم وجود المورد له إلاّ نادراً فانّه قلّما يتّفق التقارن بين الأمرين كما لا يخفى.
ثمّ لو فرض كون المراد هو الاحتمال الثالث لكنّه لم يظهر انّ المراد بنفي البأس هو
(الصفحة 54)
نفيه بالنظر إلى الطهارة والنجاسة فمن الممكن أن يكون ناظراً إلى غسل المسّ لأنّه هو مورد الشبهة غالباً، كما انّه يحتمل قويّاً أن يكون المراد نفيه بالنظر إلى الحكم النفسي وناظراً إلى عدم ثبوت الحزازة النفسية ويؤيّده ـ مضافاً إلى عطف القبلة على المسّ فتدبّر ـ رواية تقبيل أبي عبدالله (عليه السلام) ـ ابنه إسماعيل الآتية. فانقدح انّ الرواية بهذه الكيفية غير صالحة لتقييد المطلقات المتقدّمة.
وامّا بالكيفية الأخيرة المروية في النسخة المطبوعة من الفقيه أخيراً المشتملة على كلمة «بعد» ـ قبل الموت وقبل الغسل ـ فتارة يكون المقصود اشتراط كلا الأمرين وهما البعدية بعد الموت والبعدية بعد الغسل في نفي البأس واُخرى يكون المراد نفي البأس بعد كل واحد من الأمرين مستقلاًّ من دون مدخلية الاجتماع فإن كان المراد هو الاحتمال الأوّل فالرواية مشعرة بل ظاهرة في حصول النجاسة بمجرّد الموت كما هو غير خفي. وإن كان المراد هو الاحتمال الثاني فدلالتها على كون المراد ـ حينئذ ـ عدم البأس النفسي واضحة وإلاّ يلزم عدم وجوب الغسل ـ بالضم والفتح ـ في المس بعد البرد وقبل الغسل وتقييد إطلاقها بما دلّ على إيجابهما في غاية البعد .
وكيف كان لا يمكن رفع اليد عن المطلقات بمثل هذه الصحيحة التي عرفت حالها من جهة اختلاف النسخ ومن الجهات الاُخر.
ومنه يظهر الكلام في صحيحة إسماعيل بن جابر قال: دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) حين مات ابنه إسماعيل الأكبر فجعله يقبّله وهو ميّت فقلت: جعلت فداك: أليس لا ينبغي أن يمسّ الميّت بعد ما يموت ومن مسّه فعليه الغسل؟ فقال: امّا بحرارته فلا بأس انّما ذاك إذا برد. فإنّ الظاهر من نفي البأس هو نفي إيجاب الغسل أو مع حزازته النفسية كما هو ظاهر.
وقد انقدح ممّا ذكرنا الجواب عن الاستدلال للقول الآخر بمثل الصحيحتين كما
(الصفحة 55)
انّه ظهر الجواب عن التشبّث بالأصل موضوعاً ـ للشكّ في الموت قبل البرد ـ أو حكماً، وعمّا ذكره صاحب الحدائق من الجزم بعدم رفع جميع آثار الحياة وعمّا ادّعى من ملازمة الغسل بالفتح والضم مع انّ مضمومه لا يكون إلاّ بعد البرد فانّ التمسّك بالأصل الموضوعي ممنوع بعد العلم بحصول الموت بمجرّد زهاق الروح وإن لم يتحقّق البرد وبالأصل الحكمي لا مجال له مع وجود الدليل اللفظي وهي الإطلاقات المتقدّمة، والجزم بعدم رفع جميع آثار الحياة لا يدلّ على بقاء الطهارة أيضاً ودعوى الملازمة ممنوعة جدّاً بل ربّما استشهد على عدمها بمرسلة أيّوب بن نوح عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة فإذا مسّه الإنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسّه الغسل فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه. بناء على انجبار سندها بالشهرة فانّ القطعة المبانة من الحي نجسة سواء اشتملت على العظم أم لا ويجب فيها غسل اليد مطلقاً كما يأتي ولكن وجوب الغسل ـ بالضم ـ يختصّ بما إذا كانت مشتملة على العظم على ما هو مقتضى المرسلة المنجبرة.
المسألة الثالثة: في ميتة الحيوان الذي ليست له نفس سائلة وكان طاهراً حال الحياة وقد ادّعى الإجماع على طهارتها في محكي الخلاف والغنية والسرائر والمعتبر والمنتهى ويدلّ عليها ـ مضافاً إلى الإجماع ـ روايات:
منها: موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سُئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البر، والزيت والسمن وشبهه؟ قال: كلّ ما ليس له دم فلا بأس.
ومنها: موثّقة حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام) قال: لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة. فإنّ القدر المتيقّن منها هي الميتة والحصر فيها
(الصفحة 56)
إضافي فيصير المعنى انّه لا يفسد الماء من الميتة إلاّ ما كانت له نفس سائلة.
ومنها: صحيحة ابن مسكان قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : كلّ شيء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس.
ونظيرها: ما عن أبي بصير في حديث قال: وكلّ شيء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس. ومن الواضح انّ نفي البأس في الروايتين ليس لأجل كون البئر معتصماً لا يفسده شيء ضرورة انّه بناء عليه لا فرق بين ما له نفس سائلة وغيره.
وبالجملة: أصل الحكم في الجملة لا ينبغي الإشكال فيه وانّما الإشكال في بعض المصاديق كالعقرب حيث وردت فيها روايات ظاهرة في النجاسة: كموثقة سماعة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن جرّة وجد فيها خنفساء قد مات؟ قال: القه وتوضّأ منه، وإن كان عقرباً فارق الماء وتوضّأ من ماء غيره. ويمكن أن يقال: بأنّه حيث كان العقرب من ذوي السموم يكون الأمر بالإراقة لأجل سمّه ولا دلالة له على كون الإراقة لأجل النجاسة فلا تعارض الروايات الدالّة على طهارته.
ورواية منهال: قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : العقرب تخرج من البئر ميتة قال: استق منها عشرة دلاء، قال قلت: فغيرها من الجيف؟ قال: الجيف كلّها سواء إلاّ جيفة قد اجيفت فإن كانت جيفة قد اُجيفت فاستق منها مأة دلو فإن غلب عليها الريح بعد مأة دلو فانزحها كلّها. فانّ الأمر بالاستقاء والتسوية بين العقرب وبين غيرها من الجيف يدلّ على نجاسته، ولكنّها ـ مضافاً إلى ضعف سندها وإلى عدم تحقّق النجاسة للبئر فلا يكون الأمر بالاستقاء دليلاً على نجاسته حتّى تكون دليلاً على نجاسة العقرب، وإلى دلالة الروايات المتعدّدة الواردة في النزح على عدم التسوية بين الجيف ـ معارضة في خصوص موردها مع صحيحة ابن مسكان