(الصفحة 3)
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في النجاسات
والكلام فيها وفي أحكامها وكيفية التنجيس بها وما يعفى عنه منها
القول في النجاسات
مسألة 1 ـ النجاسات إحدى عشر: الأوّل والثاني: البول والخرء من الحيوان ذي النفس السائلة غير مأكول اللحم ولو بالعارض، كالجلال وموطوء الإنسان، امّا ما كان من المأكول فانّهما طاهران، وكذا غير ذي النفس ممّا ليس له لحكم كالذباب والبق وأشباههما، وامّا ما له لحم منه فمحلّ إشكال، وإن كانت الطهارة لا تخلو من وجه خصوصاً في الخرء كما انّ الأقوى نجاسة الخرء والبول من الطير غير المأكول 1.
1 ـ ينبغي قبل الورود في البحث عن الأعيان النجسة وتعدادها تقديم مقدّمة وهي:
انّ الظاهر كون النجاسة والقذارة في النجاسات العرفية والقذارات العقلائية أمر
(الصفحة 4)
وجودي مرجعه إلى ثبوت خصوصية موجبة لاستكراه العقلاء واستقذارهم وتنفّرهم وانزجارهم كالبول والغائط والنخامة، وامّا الطهارة في غير القذارات العرفية كالحجر والمدر فلا تكون أمراً وجودياً مضادّاً للنجاسة والقذارة، بل مرجعها إلى خلوّ الشيء عن تلك الخصوصية ونقاوته عن تلك الجهة الموجبة للاستكراه فليست الطهارة أمراً وجودياً قائماً بذات الأشياء الطاهرة وراء أوصافها وأعراضها الذاتية بحيث لو صار شيء بسبب الملاقات مع القذر قذراً ثمّ زالت القذارة بمثل الغسل لحدث فيه أمر وجودي مسمّى بالطهارة ويؤيّد ما ذكرنا تفسير النظافة بالنقاوة في أكثر الكتب اللغوية، ومن الواضح انّ معنى النقاوة هو انتفاء تلك الخصوصية المذكورة.
كما انّ الظاهر ـ على ما حقّقه سيّدنا العلاّمة الاستاد الماتن دام ظلّه في «رسالة النجاسات» ـ عدم كون النجاسة من الأحكام الوضعية الشرعية للأعيان النجسة حتّى فيما هو قذر عند العرف كالبول والغائط، وعدم كونه أمراً انتزاعياً من الأحكام الشرعية المترتّبة عليها كوجوب الغسل والاجتناب عنها في الصلاة، وعدم كونه أمراً واقعياً غير ما يعرفه الناس. غاية الأمر انّه كشف الشارع عنها ورتّب عليها أحكاماً بل لها مصداقان: أحدهما حقيقي وهو الذي يستقذره العرف فانّه لم يجعل الشارع له القذارة ولا يكون له اصطلاح خاص في القذر والنجس بل رتّب عليها أحكاماً، وثانيهما اعتباري جعلي كالنجاسات الشرعية التي لا يستقذرها العرف فانّه قد جعل الشارع لها النجاسة واعتبرها لها ورتب عليها أحكاماً بعد جعل النجاسة والإلحاق الموضوعي. غاية الأمر انّ الملاك في جعل القذارة لهذه الطائفة لا يكون واحداً فإنّ الظاهر انّ جعل القذارة لمثل الخمر انّما هو لأجل ثبوت المفسدة المهمة التي تكون في شربها فجعلها نجسة ليجتنب الناس عنها غاية الاجتناب، كما
(الصفحة 5)
انّ الظاهر انّ جعل النجاسة للكفارة انّما هي لمصلحة سياسية هي تجنّب المسلمين عن معاشرتهم ومؤاكلتهم لا لقذارة فيهم وهكذا.
ويدلّ على ما استظهره ـ دام ظلّه ـ عدم التعبير عن القذارات العرفية بالنجس ومثله في شيء من الأدلّة الشرعية والتعبير عن النجاسات الشرعية غير العرفية به فيها كما في المشركين المعبّر عنهم في الكريمة بـ «نجس» أو لحم الخنزير المعبّر عنه فيها بـ «رجس» وكذا في الرواية، وكما في الخمر المعبّر عنها في الرواية بالرجس وهكذا الكلب فانّ التأمّل فيها يرشدنا إلى عدم افتقار الطائفة الاُولى إلى جعل النجاسة بعد ثبوتها لها عند العقلاء وثبوت هذا الجعل في الطائفة الثانية من دون أن يقتصر فيها على مجرّد ترتيب الأحكام من غير جعل النجاسة فتدبّر.
إذا عرفت ما ذكرنا يقع الكلام بعد ذلك في أنواع النجاسات وأجناسها فنقول:
الأوّل والثاني: البول والخرء في الجملة ونجاستهما من كل حيوان غير مأكول اللحم مع ثبوت النفس السائلة له ممّا لا خلاف فيه بل كادت أن تكون ضرورية عند المسلمين في الجملة بحيث إذا سُئل كل مسلم عن كل واحد من أبوال ما لا يؤكل لحمه يحكم بنجاسته وإن كان من الممكن أن يتردّد في الحكم الكلّي لو سُئل عنه ومع ذلك فلا بأس بنقل الروايات الواردة في المقام فنقول: امّا ما ورد منها في البول.
فمنها: رواية عبدالله بن سنان قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه. وفي روايته الاُخرى: اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه. والظاهر انّهما رواية واحدة لاتحاد الراوي والمروي والمروي عنه ولذا لم ينقل الثانية في الحدائق بل اكتفى بذكر الاُولى، وتقريب الاستدلال انّ الأمر بغسل الثوب من تلك الأبوال يدلّ بالملازمة العرفية على نجاستها حيث إنّ إطلاق الأمر بغسل
(الصفحة 6)
الثوب يدلّ على وجوبه ولو بعد زوال العين وجفافه، ولو لم يكن الأمر لأجل النجاسة بل لأجل المانعية عن الصلاة مستقلّة كعرق الجنب عن الحرام ـ على قول قوي ـ لما كان إطلاق الأمر بالغسل وجيهاً.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن البول يصيب الثوب قال: اغسله مرّتين. والمراد من البول فيها امّا بول الإنسان فلا دلالة لها ـ حينئذ ـ على نجاسة مطلق البول ـ التي نحن بصدد إثباتها ـ وامّا طبيعة البول فتدلّ على المدّعى. غاية الأمر انّه خرجت منها الأبوال الطاهرة وقد ورد بهذا المضمون روايات متعدّدة مذكورة في الوسائل في الباب الأوّل من أبواب النجاسات.
وامّا ما وردت في الغائط:
فمنها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبدالله أو موثقته قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد. ودلالتها على نجاسة العذرة في الموارد المذكورة فيها بل وكونها مفروغاً عنها ومورد الشكّ هو الإعادة وعدمها واضحة لكن لا يثبت بها العموم المدعى كما لا يخفى.
ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) إذ مرّ على عذرة يابسة فوطئ عليها فأصابت ثوبه، فقلت: جعلت فداك قد وطئت على عذرة فأصابت ثوبك فقال: أليس هي يابسة؟ فقلت: بلى، قال: لا بأس انّ الأرض يطهِّر بعضهاً بعضاً. والاستدلال بها على عموم الحكم يتوقّف على أن يكون العذرة مدفوع مطلق الحيوان إنساناً أو غيره، طائراً أو غيره كما هو الظاهر من كلمات كثير من اللغويين حيث يستفاد منها عدم الفرق بين العذرة والغائط والخرء، ويؤيّده ما يظهر من جمع من الفقهاء في المكاسب المحرّمة من الجمع بين الروايات المختلفة
(الصفحة 7)
الواردة في بيع العذرة بحمل الناهية منها على عذرة غير مأكول اللحم أو خصوص الإنسان وحمل المجوزة على غيرها فانّ ظاهرهم صحّة إطلاق العذرة على مطلق خرء الحيوان.
ولكن يمكن الايراد على ذلك أوّلاً بعدم ثبوت كون العذرة لغة بمعنى مطلق الخرء فانّه يظهر من جماعة منهم الاختصاص بفضلة الآدمي مضافاً إلى قرب احتمال انصرافها إليها لو فرض كونها أعمّ لغة، وثانياً انّه لا دلالة في الرواية على نجاسة مطلق العذرة فانّ السؤال فيها دليل على كون مورده هي العذرة النجسة ضرورة انّه لا معنى للسؤال عن وطي العذرة الطاهرة وإصابتها الثوب كما هو ظاهر.
ومنها: رواية الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يطأ في العذرة أو البول أيعيد الوضوء؟ قال: لا، ولكن يغسل ما أصابه. والكلام فيها هو الكلام في الصحيحة المتقدّمة.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباهها تطأ العذرة ثمّ تطأ الثوب أيغسل؟ قال: إن كان استبان من أثره شيء فاغسله وإلاّ فلا بأس. ونظيرها ما رواه أيضاً عن أخيه (عليه السلام)قال: سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباهها تطأ العذرة ثمّ تدخل في الماء يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا إلاّ أن يكون الماء كثيراً قدر كرّ من ماء.
وقد انقدح من ذلك عدم تمامية الاستدلال بالروايات لعموم المدعى لكن الإجماع المحكي على ذلك بضميمة ارتكاز المتشرّعة على عدم الفرق بين البول والغائط يكفي في ذلك ويؤيّده تعليق الحكم بعدم البأس بما يخرج من الحيوان في بعض الروايات على مأكولية اللحم وبعض المؤيّدات الاُخر. هذا في غير الطير.
وامّا الطيور المحرّمة الأكل ففيها أقوال مختلفة: