(الصفحة 390)
وقد يقال: بعدم جريان الاستصحاب حتّى على القول بتنجّس بدن الحيوان لأنّ زوال العين مطهّر لبدن الحيوان على الفرض فنجاسة بدنه انّما هي ما دام لم تزل عنه عين النجس.
وبالجملة: نجاسة بدن الحيوان تساوق بقاء العين عليه فكيف لا يجري الاستصحاب فيما إذا لم نقل بنجاسة بدنه ويجري فيما إذا قلنا بذلك؟!
والجواب عنه: انّه على القول بتنجّس بدن الحيوان يتحقّق كلا ركني الاستصحاب وهما اليقين بنجاسة هذا العضو ـ في السابق ـ الملاقى للثوب مع الرطوبة والشكّ في نجاسته الفعلية فتستصحب نجاسته ويترتّب عليه الأثر الشرعي وهو نجاسة ملاقيه الواجد للرطوبة وجداناً، وامّا على القول بالعدم فاللازم إثبات كون الملاقاة المؤثّرة مع عين النجس والأصل قاصر عنه، هذا كلّه حسبما تقتضيه القاعدة.
وامّا النصوص الواردة في مثل المقام:
فمنها: موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث كلّ شيء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلاّ أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضّأ منه ولا تشرب.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن الدود يقع من الكنيف على الثوب أيُصلّى فيه؟ قال: لا بأس إلاّ أن ترى فيه أثراً فتغسله.
وقد زعم بعض الأعلام ـ في الشرح ـ انّ هاتين الروايتين تمنعان عن جريان الاستصحاب على كلا المسلكين فيصير مفاد النص مخالفاً لمقتضى القاعدة نظراً إلى انّ الموثّقة مطلقة تشمل ما لو لم يرَ الدم في منقار الطير مع العلم بحالته السابقة ووجود الدم في منقاره في السابق وكون مورد الصحيحة بعينه ما نحن بصدده للقطع
(الصفحة 391)
بنجاسة الدود قبل خروجه من الكنيف ومع ذلك قد حكم (عليه السلام) بطهارته ما دام لم يرَ فيها عين النجس، فالحكم بالنجاسة منوط برؤية العين فيه، وامّا مع الشكّ في بقائها على الحيوان وعدمه فلابدّ من الحكم بطهارته لأنّ الاستصحاب انّما يقوم مقام العلم الطريقي لا العلم الموضوعي الذي هو الظاهر منها بعد القطع بعدم مدخلية خصوص الرؤيه في الحكم بالنجاسة إلى أن قال: «وحيث إنّه قد أخذ في موضوع الحكم بما انّه صفة وجدانية فلا يقوم الاستصحاب مقامه ومعه لابدّ من الحكم بطهارة الحيوان عند الشكّ في بقاء العين على بدنه وزوالها عنه بلا فرق في ذلك بين القول بعدم تنجّس الحيوان من الابتداء وبين القول بتنجّسه وطهارته بزوال العين عنه».
وفيه أوّلاً: انّه لا دليل على كون العلم المستفاد من الرؤية في الروايتين هو العلم الموضوعي إذ لا فرق بينه وبين العلم في مثل قوله (عليه السلام) : كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم انّه قذر. وقوله (عليه السلام) : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم انّه حرام. ولو كان العلم المذكور في الروايتين في المقام موضوعياً لكان اللازم الالتزام بأنّه لو شرب من الماء مع تلوّث المنقار بالدم واقعاً. غاية الأمر انّه لم يرَ في منقاره الدم فقد شرب من الماء الطاهر في الواقع لأنّ المفروض انّ جواز التوضّي والشرب واقعاً موضوعه عدم الرؤية والظاهر انّه لا يلتزم به.
وثانياً: إنّ مورد الموثّقة الطير المشكوك حاله ابتداء ولا إطلاق لها يشمل ما لو علم حالته السابقة فلو لاقى منقاره ماء ولم ترَ الدم فيه ولكنّه كان مسبوقاً بالنجاسة لا مانع من إجراء استصحاب بقاء العين فيه والحكم بنجاسة الماء.
وامّا الصحيحة فلا دليل على القطع بنجاسة الدودة ـ في موردها ـ قبل خروجها من الكنيف لعدم العلم بنجاسة جميع مواضع الكنيف، مع انّه في الصحيحة قال (عليه السلام):
(الصفحة 392)
اخلاّ أن ترى فيه أثراً فتغسله، ومن الظاهر انّ الضمير يرجع إلى الثوب ومن المعلوم انّه لو لم ير الأثر في الثوب فلا علم لنا بوجود الرطوبة المسرية وتحقّق الملاقاة المؤثّرة ومع عدم العلم بذلك لا يجري الاستصحاب أيضاً كما عرفت مفصّلاً هاتان الروايتان غير مخالفتين للقواعد بوجه فتدبّر جيّداً.
(الصفحة 393)
مسألة 3 ـ لا يحكم بنجاسة شيء ولا بطهارة ما ثبت نجاسته إلاّ باليقين أو باخبار ذي اليد، أو بشهادة عدلين، وفي الاكتفاء بعدل واحد إشكال فلا يترك مراعاة الاحتياط في الصورتين، ولا يثبت الحكم في المقامين بالظنّ وإن كان قويّاً: ولا بالشكّ اخلاّ الخارج قبل الاستبراء كما عرفته سابقاً 1.
1 ـ قد ذكر في المتن لثبوت النجاسة وكذا طهارة ما ثبت نجاسته عدّة طرق:
أحدها: اليقين الذي هو حجّة بلا ريب وحجّية جميع الحجج ترجع إليه ولا يرى فيها أقوى منه وقد تقرّر في محلّه انّ حجّيته لا تحتاج إلى الجعل أصلاً.
ثانيها: اخبار ذي اليد والظاهر انّ الملاك فيه مجرّد كون صاحب اليد من دون فرق بين من كان عادلاً أو ثقة وبين من لم يكن كذل.
وقد استدلّ على حجّية قوله واخباره ـ بعد ثبوت الاتفاق وعدم وجود المخالف فيها ـ بالسيرة العقلائية بضميمة عدم الردع عنها من ناحية الشريعة والظاهر انّ المنشأ انّ من استولى على شيء فهو أدرى بما في يده وأعرف بكيفياته وأعلم بأحكامه.
ويمكن أن يستدلّ عليها أيضاً بما ورد في حجّية اليد في الملكية واماريتها عليها من انّه لولا ذلك لما بقي للمسلمين سوق بتقريب انّ نفس عدم بقاء السوق بعنوانه لا يكون علّة للمنع عن عدم ترتّب الأثر على اليد، بل العلّة في الحقيقة هي اختلال النظام، فكل ما يوجب اختلال النظام فهو محظور في الشريعة ومنه عدم ترتيب الأثر على قول ذي اليد لأنّ من المعلوم ثبوت العلم التفصيلي لنا بنجاسة أشياء كثيرة من الذبائح والفرش والثياب والأواني حتّى أيدي المسلمين في زمان ولا علم لنا بعد ذلك بطروّ مطهر عليها بوجه، فلولا اعتبار قول صاحب اليد واخباره عن طهارتها لكان استصحاب النجاسة حاكماً بنجاستها جميعاً وهو ممّا يوجب الوقوع
(الصفحة 394)
في العسر والحرج ويلزم اختلال النظام كما هو ظاهر.
واستدلّ عليها بعض الأعلام ـ مضافاً إلى ما ذكر ـ بالأخبار الواردة في بيع الدهن المتنجّس الآمرة باعلام المشتري بنجاسته حتّى يستصبح به فانّه يدل على اعتبار قول صاحب اليد لدلالته على وجوب الاستصباح على المشتري عقيب اخبار البائع بالنجاسة.
وفيه: أوّلاً انّ إخبار البائع بنجاسة الدهن يحصل منه عادة العلم للمشتري حيث إنّ إخباره بتنجّسه الملازم لفوات منفعته الغالبية موجب لتنزّل قيمته ونقصانها ضرورة انّ الدهن المتنجّس قيمته أقلّ من الدهن الطاهر بمراتب والعاقل لا يخبر بنقصان قيمة ماله مع عدم كونه كذلك في الواقع فاخبار البائع في تلك الروايات موجب لثبوت العلم للمشتري عادةً.
وثانياً: انّه لا يستفاد من تلك الروايات وجوب ترتيب الأثر للمشتري على قول البائع واخباره مطلقاً إذ من الحتمل وجوب الاخبار على البائع ووجوب ترتيب الأثر على المشتري على تقدير حصول العلم له من اخباره لا مطلقاً فتدبّر.
وبعبارة اُخرى: محطّ النظر في الروايات وجوب الإعلام مطلقاً لا وجوب ترتيب الأثر كذلك، ويؤيّده انّه ربما يكون المشتري عالماً بالطهارة وبأنّ البايع قد خطأ في اعتقاد النجاسة واخباره بها.
وبما ورد في رواية ابن بكير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلاً ثوباً فصلّى فيه وهو لا يصلّي فيه؟ قال: لا يعلمه، قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: يعيد.
فإنّ ظاهر قوله: وهو لا يصلّي فيه انّه لا يصلّي فيه لنجاسته، وعليه فالرواية تدلّ على اعتبار خبر المعير بنجاسة الثوب المستعار بحيث لو أخبر بها يجب على المستعير أن يعيد صلاته.