(الصفحة 396)
(ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حي عن بيّنة)(1) ومثلها من الآيات الكثيرة المستعملة فيها هذه اللفظة ولا يكون المراد منها إلاّ ما به البيان والدليل والحجّة.
ومن الروايات قوله (صلى الله عليه وآله) : «انّما أقضي بينكم بالبيّنات والايمان». فانّها فيه بمعنى الدليل والحجّة.
إن قلت: لو كانت البيّنة في الرواية بمعنى مطلق الدليل والحجّة فما وجه ذكر الايمان بعدها ولا يعلم له خصوصية موجبة لذلك؟
قلت: اليمين لا تكون من الأدلّة والحجج الشرعية بل هي بعد عدم الدليل والحجّة قاطعة للخصومة ورافعة للمرافعة.
وقوله (عليه السلام) في حديث مسعدة بن صدقة ـ الآتي إن شاء الله تعالى ـ بعد الحكم بحلّية الأشياء المشكوك فيها: والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة فإنّ البيّنة فيها أيضاً لا تكون بمعنى شهادة عدلين لعدم انحصار الطريق بها في ثبوت حرمة الأشياء وكون المراد من الاستبانة العلم كما لا يخفى.
إن قلت: على ما ذكرت لا يكون هناك دليل على حجّية البيّنة بمعنى شهادة العدلين في الموضوعات الخارجية المترتّبة عليها بعض الآثار الشرعية.
قلت: قد أفاد بعض الأعلام في مقام الاستدلال على ذلك ما مرجعه إلى انّ النبي (صلى الله عليه وآله) لمّا طبّق البيّنة بهذا المعنى اللغوي على شهادة العدلين في باب القضاء يستكشف من ذلك اعتبار شهادتهما وانّها مصداق الدليل والبيّنة وهذا يقتضي اعتبارها في جميع الموارد إلاّ فيما قام الدليل على عدم اعتبارها فيه وحيث لم يرد دليل يمنع عن اعتبارها في النجاسة كما منع عنه في الزنا لا يبقى شبهة في ثبوت
(الصفحة 397)
النجاسة بشهادة عدلين.
ويمكن الإيراد عليه بأنّ غرض الشارع في باب القضاء إنّما تعلّق بفصل الخصومة وقطع المنازعة المنافية للاخوة الثابتة بين أفراد المؤمنين وعليه يجوز أن يكون الشيء حجّة في باب القضاء من دون أن يكون كذلك في غير ذلك الباب كاليمين فانّه حجّة في باب القضاء فقط.
لا يقال: البيّنة في النبوي ـ المتقدّم ـ بمعنى ما به البيان والدليل والحجّة ولكنّه يستفاد من تطبيقها على شهادة العدلين انّها أيضاً حجّة ودليل معتبر مطلقاً.
لأنّه يقال: هذا التطبيق هل هو شرعي تعبّدي أو عرفي؟ فعلى الأوّل لا مجال للاسراء إلى غير باب القضاء لعدم وقوع التطبيق الشرعي في غيره وعلى الثاني يتوجّه السؤال عن انّه ما وجه التطبيق على شهادة العدلين فقط لعدم انحصار ما به البيان فيها عرفاً وثبوت المصاديق الاُخر أيضاً من كتابة ونحوها، فيستكشف من ذلك انّ البيّنة في النبوي بمعنى شهادة العدلين فقط ويشهد لذلك انحصار الحجّة بها في باب القضاء وقبح أن يقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : انّما أقضي بينكم بالبيّنات، بحيث كان المراد الاستعمالي مطلق ما به البيان والمراد الجدّي الذي يبتني عليه العمل خصوص شهادة العدلين. فالأولى أن يقال: إنّ المراد من البيّنة في النبوي خصوص شهادة العدلين ولا يمكن الاستدلال به على حجّيها في سائر الأبواب.
نعم يمكن أن يستدل على حجّية البيّنة المصطلحة مطلقاً بوجهين:
الأوّل: الإجماع.
وقد يناقش فيه أوّلاً بأنّه غير مسلم لمخالفة ابن البراج وافتائه بأنّ النجاسة انّما تثبت بالعلم فقط.
والجواب عنه انّ العلم في كلام ابن البرّاج هو ما يقابل الظنّ المطلق الذي اعتقد
(الصفحة 398)
الحلبي (قدس سره) ثبوت النجاسة به وفتوى ابن البراج تكون في مقابل فتوى الحلبي فمراده من ثبوت النجاسة بالعلم فقط نفي ثبوتها بمطلق الظنّ ولا يكون المراد انحصار طريق الثبوت بالعلم في مقابل الظنّ مطلقاً.
وثانياً: إنّه من المحتمل بل الظاهر استناد المجمعين في إجماعهم إلى النبوي المذكور بضميمة إلغاء الخصوصية من باب القضاء أو إلى رواية مسعدة بن صدقة، فالإجماع لا يكون تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام) وبعبارة اُخرى ليس له أصالة أصلاً.
والجواب عنه انّ مستند المجمعين ليس الروايتين المذكورتين لوضوح عدم تمامية إلغاء الخصوية من النبوي الوارد في باب القضاء ومناقشة بعض المجمعين في رواية مسعدة فالإجماع سليم عن المناقشة.
الثاني: ما رواه الشيخ والكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم انّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك: وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة. فإنّ الظاهر انّ المراد من البيّنة فيها هي شهادة العدلين.
وقد استشكل على الاستدلال بالرواية بوجهين:
أحدهما: إنّها ضعيفة من حيث السند لوجود «مسعدة» فيه وقد ضعفه العلاّمة والمجلسي (قدس سرهما).
ويدفعه انّه قد ورد هنا تعبيرات يستفاد منها وثاقته; منها تعبير الشيخ الأعظم
(الصفحة 399)
الأنصاري (قدس سره) عن هذه الرواية بالموثقة في رسالة البراءة والاشتغال وهو يدلّ على اعتبارها عنده.
ومنها: ما عن الاستاذ الوحيد البهبهاني (قدس سره) من انّ روايات مسعدة متينة غير مضطربة توجد مضامينها في الروايات المعتبرة.
والعمدة في تصحيح رواية مسعدة هو وقوعه في سند بعض روايات «كامل الزيارات» الذي التزم مؤلِّفه ـ وهو محمد بن قولويه استاذ الشيخ المفيد (قدس سره) ـ في ديباجته بأنّه لا ينقل فيه إلاّ عن ثقات الأصحاب. ومن المعلوم انّه توثيق إجمالي لجميع رواة روايات الكتاب، ومن العجيب بعد ذلك انّ بعض الأعلام مع تصريحه بأنّ وقوع الراوي في سند بعض روايات الكتاب المذكور يكفي في وثاقته وجواز الاعتماد على خبره قد ضعف رواية مسعدة في المقام مع وقوعه في سند بعض تلك الروايات، فالمناقشة من حيث السند مدفوعة جدّاً.
ثانيهما: انّ البيّنة ـ في هذه الرواية ـ لم يرد منها معناها المصطلح عليه بل اُريد بهذا المعنى اللغوي وهو الدليل وما به البيان، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى انّه معناه لغةً ـ انّ المثبت في الموضوعات الخارجية غير منحصر بالعلم والبيّنة المصطلح عليها لأنّها كما تثبت بهما كذلك تثبت بالاستصحاب والإقرار. وقد استشكل بهذا الوجه أيضاً بعض الأعلام ـ على ما في تقريرات بحثه ـ .
والجواب عنه انّ المراد من البيّنة ـ في الرواية ـ لو كان هو مطلق الدليل والحجّة لم يكن وجه لذكر الاستبانة التي قد اُريد منها العلم قبل ذكر مطلق الدليل والحجّة لشمول المطلق له أيضاً فيكون من ذكر العام بعد الخاص ولا يعلم له وجه أصلاً.
نعم ذكر الخاص بعد العام ربّما يتداول إشعاراً بعناية خاصّة بالإضافة إلى الخاص، وامّا العكس كما في المقام فلا وجه له أصلاً إلاّ الترقي وإفادة عدم الانحصار
(الصفحة 400)
وهو خلاف ظاهر العبارة.
وإن كان المراد منها هو الدليل غير القطعي والحجّة غير القاطعة بشهادة وقوعها في مقابل الاستبانة فما المانع من أن تكون البيّنة المصطلحة من مصاديقها بل هي مصداق واضح لها.
فالأولى أن يقال: إنّ البيّنة في الرواية بمعنى شهادة العدلين كما كان كذلك في النبوي المتقدّم، وعلى ما ذكرنا يتحقّق الاختلاف بين الكتاب والسنّة من جهة استعمالها فيه في المعنى اللغوي مطلقاً واستعمالها فيها في المعنى الاصطلاحي كما في الروايتين.
وامّا ما استدلّ به لإثبات مرامه من عدم انحصار المثبت في الموضوعات الخارجية بالعلم والبيّنة المصطلح عليها وثبوتها بالاستصحاب والإقرار ونحوهما ففيه انّا لا نضائق من ذلك لكن رواية مسعدة لا تكون في مقام حصر الحجّة في البيّة والعلم ولا منافاة بينها وبين ما يدلّ على الثبوت بالاستصحاب والإقرار وعلى تقدير كونها ظاهرة في ذلك نرفع اليد عن هذا الظهور بمقتضى أدلّة المثبتات الاُخر.
نعم يبقى شيء وهو انّ الرواية واردة في مورد الحلّية والحرمة والكلام في باب الطهارة والنجاسة والجواب وضوح عدم الفرق بين الحكمين من هذه الجهة. فانقدح انّ رواية مسعدة تدلّ على حجّية شهادة العدلين في جميع الموضوعات الخارجية المترتّبة عليها بعض الآثار الشرعية، وتؤيّدها ما ورد في الجبن من انّه حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان عندك انّ فيه الميتة. وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة سنداً إلاّ انّ صلوحها للتأييد غير قابل للمناقشة.
رابعها: خبر العدل الواحد وقد استشكل في المتن في الاكتفاء به في مقام ثبوت النجاسة وكذا طهارة ما ثبتت نجاسته ونهى عن ترك الاحتياط في الصورتين ولكنّه