(الصفحة 157)
بقي الكلام في هذا المقام في القيد المأخوذ فيه وهو الميعان بالاصالة فإنّ هذا القيد يوجب التوسعة من جهة والتضيق من اُخرى:
امّا التوسعة فمن جهة انّ المسكر لو صار جامداً بالعرض يكون نجساً إذا كان أصلاً مائعاً كما لو صارت الخمر منجمدة بسبب شدّة البرد أو غيرها من الأسباب وكذا غير الخمر من سائر المسكرات والوجه فيه عدم كون الانجماد من المطهّرات فكما انّ انجماد مثل الدم والبول لا يوجب تغيّر الحكم فكذلك انجماد المسكر خمراً كان أو غيره.
وامّا التضيّق فمن جهة إخراج المسكر الجامد بالأصل وإن صار مائعاً بالعرض كالبنج ونحوه والظاهر انّه لا كلام في عدم نجاسة المسكر الجامد بالأصل، انّما الكلام في دليله وربّما يقال في وجهه انّ دليل نجاسة المسكرات انّما هو الإجماع وهو دليل لبّي لابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منه وهذا القدر في المقام هو المسكر المايع بالأصل.
وفيه: أوّلاً عدم ثبوت الإجماع كما عرفت وثانياً عدم كونه واجداً لوصف الحجّية بعد احتمال استناد المجمعين إلى الأدلّة والروايات الواردة في الباب.
ويمكن أن يستدلّ عليه بما يستفاد من موثقة عمّار المتقدّمة التي كانت هي العمدة في نجاسة سائر المسكرات لاشتمالها على قوله (عليه السلام): «لا تصلِّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر» فإنّ ما يصيب الثوب ويسري إليه إنّما هو الخمر المايع والمسكر كذلك مع انّ جعل الخمر والمسكر فاعلاً للإصابة والثوب مفعولاً يشعر بذلك وعليه فالمسكر الجامد بالأصالة لا يستفاد نجاسته من الموثقة فلو صار مايعاً ولم يكن مسكراً بعد صيرورته كذلك فطهارته باقية قطعاً، وامّا مع بقائه على وصف الإسكار فلابدّ من إثبات طهارته من طريق عدم القول بالفصل ولا طريق لنا غير
(الصفحة 158)
ذلك فتدبّر.
المقام الثالث: في حكم العصير العنبي وقد نفى الإسكال عن حرمته في المتن إذا غلى بالنار ولم يذهب ثلثاه والكلام فعلاً في نجاسته وعدمها والظاهر انّ دعوى الإجماع أو اشهرة لا وجه لها بعد كون الأقوال في المسألة مختلفة والآراء متشتّتة وعدم اتّصافها على تقدير الثبوت بوصف الحجّية لوضوح المستند والحجّة فالعمدة هي الروايات الواردة خصوصاً بعد عدم كون نجاسة الخمر وسائر المسكرات على مثل هذه الدعوى متكية فضلاً عن العصير الذي هو محل البحث في هذه المسألة فنقول:
إنّ المهمّ في الاستدلال على النجاسة هي موثقة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول قد طبخ على الثلث وأنا أعرف انّه يشربه على النصف، أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال: خمر لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف يخبرنا انّ عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال: نعم. بتقريب انّ حمل عنوان «الخمر» عليه إمّا أن يكون حقيقياً ـ كما قد حكى عن جماعة ـ من انّ الخمر اسم للعصير، وامّا أن يكون تنزيلياً فمقتضى إطلاق التنزيل ثبوت جميع أحكامها له ومنها النجاسة كما عرفت.
وقد أورد على الاستدلال بالرواية لنجاسة العصير بوجوه من الاشكال:
الأوّل: انّ البختج لم يثبت انّه بمعنى مطلق العصير المطبوخ وان فسّره به جماعة كالمحدّث الكاشاني (قدس سره) بل الظاهر انّه عصير مطبوخ خاص وهو الذي يسمّى عندنا بـ «الرب» كما في كلام المحقّق الهمداني ومن المحتمل القوي أن يكون هذا القسم مسكراً قبل استكمال طبخه وعليه فغاية مفاد الرواية تحقّق التنزيل في خصوص
(الصفحة 159)
هذا القسم ولا مانع منه فقد مرّت نجاسة جميع المسكرات وعدم اختصاصها بالخمر.
والجواب: إنّ هذا لا يلائم مع الحكم بجواز الشرب في ذيل الرواية لأنّ ذهاب الثلثين لا يكون مطهراً للمسكر بوجه بل المسكر ما دام كونه كذلك نجس سواء ذهب ثلثاه أم لم يذهب.
الثاني: إنّ الرواية على ما رواه الكليني لا تكون مشتملة على لفظة «خمر» في الجواب الأوّل وانّما تشتمل على قوله (عليه السلام) : «لا تشربه» فقط ومن المعلوم انّ هذا القول لا دلالة له على النجاسة بل ظاهره مجرّد الحرمة، نعم في نقل التهذيب تكون الرواية مشتملة على لفظة خمر كما نقلناه وإن لم تنقل هذه اللفظة في شيء من الوافي والوسائل مع نقلهما الرواية عن الشيخ (قدس سره) وشدّة المراقبة في النقل وكمال التحفّظ عليه من دون زيادة ولا نقصان ولهذا تعجب صاحب الحدائق عن صاحبي الوافي والوسائل حيث نسبا هذه الرواية إلى الشيخ بدون اللفظة. فالرواية تكون مختلفة النقل وفي مثل هذه الموارد وإن كان لنا أصل عقلائي وهي أصالة عدم الزيادة ولا يكون معارضاً بأصالة عدم النقيصة لأنّ الغفلة الموجبة لأحد الأمرين كثيراً ما تصير سبباً للنقصان وقل ما يتّفق تحقّقها في طرف الزيادة ومقتضى ذلك ترجيح نقل التهذيب على نقل الكافي إلاّ انّ أضبطية الكليني في نقل الأحاديث، الناشئة من تمحضه فيه وفراغه به من غيره تمنعنا عن تقديم نقل الشيخ الذي كثير الابتلاء لاشتغاله بالعلوم المختلفة والفنون المتعدّدة وتأليف الكتب والرسائل فيها من الفقه والاُصول والكلام والتفسير والرجال وغيرها، وعليه فلا يمكن رفع اليد عن نقل الكافي لكونه أتقن من التهذيب خصوصاً مع وجود الاغتشاش فيه وعدم كونه كتاب حديث محض ومع عدم نقل الوافي والوسائل كلمة الخمر عنه، الموجب
(الصفحة 160)
لحدوث احتمال عدم ثبوتها في نسخة التهذيب الموجودة عندهما وتحقّق الاشتباه من النسّاخ في النسخ الاُخرى بزيادتها فيها.
وممّا يوجب قوّة الإشكال انّ هذه الموثقة هي أقوى مستند القائلين بالنجاسة ومن الواضح انّ الاستدلال بها عليها يبتني على وجود كلمة «الخمر» فيها ومع ذلك لم يستدلّ القائلون بالنجاسة بها إلى زمان الاسترابادي مضافاً إلى انّه لو كانت فيها هذه اللفظة لكانت الرواية من الأدلّة الدالّة على حجّية الاستصحاب مع انّه لم يستدلّ بها أحد عليها ولا يكون هذا التعبير معهوداً في أدلّة حجّيته.
وبالجملة لاحتمال الزيادة في الرواية مجال واسع واصالة عدم الزيادة لا تنفي احتمال ثبوتها من النسّاخ لمناسبة الخمر مع العصير فتدبّر جيّداً.
الثالث: ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في رسالة النجاسات ممّا حاصله: «انّ الحمل لا يمكن أن يكون حقيقياً لأنّ الموضوع المغلي المشتبه بين كونه على الثلث أو النصف ولا يجوز حمل الخمر حقيقة على مشتبه الخمرية فضلاً عن العصير المشتبه، ولا يمكن أن يكون تنزيلياً لأنّ المشتبه لا يكون منزّلاً منزلته واقعاً بحيث يكون محرماً ونجساً واقعاً ولو كان مطبوخاً على الثلث فانّ الظاهر من الرواية هو السؤال عن الحكم الظاهري وعن حال شهادة ذي اليد بالتثليث فالمراد بقوله: «خمر» انّه خمر ظاهراً ويجب البناء على خمريته للاستصحاب وهو وإن كان كاشفاً عن كون المغلي قبل التثليث نازلاً منزلة الخمر في الجملة إلاّ انّه ليس بكاشف عن إطلاق دليل التنزيل لأنّها لا تكون بصدد بيانه بل بصدد بيان حال الشكّ، وليس لأحد أن يقول انّه يمكن أن تكون الرواية بصدد بيان أمرين أحدهما تنزيل العصير منزلة الخمر والآخر التعبّد ببقاء خمريته لأنّ ذلك غير معقول بجعل واحد كما انّ دعوى انّ قوله: «خمر» يكون خبراً من العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه إفادة
(الصفحة 161)
للحكم الواقعي بالتنزيل، وقوله: «لا تشربه» نهياً عن شرب المشتبه فالموضوع مختلف لا تستأهل الجواب وعلى فرض كونها بصدد التنزيل فإطلاقه أيضاً لا يخلو عن مناقشة».
الرابع: ما أفاده بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريرات بحثه ـ ممّا حاصله: «إنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر قد يكون على وجه الإطلاق ومن جميع الجهات والآثار في مثله يثبت الجميع للمنزل كما إذا ورد: العصير خمر فلا تشربه أو قال: لا تشرب العصير لأنّه خمر، لأنّ لفظة «فاء» في المثال الأوّل ظاهرة في التفريغ ودالّة على انّ حرمة الشرب من الاُمور المتفرّعة على التنزيل وكذا الحال في المثال الثاني لأنّه كالتنصيص بأن النهي عن شربه مستند إلى انّه منزّل منزلة الخمر شرعاً وبذلك يحكم بنجاسته لأنّها من أحد الآثار المترتّبة على الخمر، وقد يكون التنزيل بلحاظ بعض الجهات والآثار ولا يكون ثابتاً على وجه الإطلاق كما هو الحال في المقام لأنّ قوله: «خمر لا تشربه» انّما يدلّ على انّ العصير منزّل منزلة الخمر من حيث حرمته فقط ولا دلالة له على تنزيله منزلتها من جميع الجهات لعدم اشتماله على لفظة «فاء» الظاهرة في التفريع حيث إنّ جملة «لا تشربه» وقوله: «خمر» بمجموعهما صفة للعصير أو من قبيل الخبر بعد الخبر أو انّها نهي وعلى أي حال لا دلالة له على التفريع حتّى يحكم على العصير بجميع الآثار».
وقد ظهر ممّا أفاده الاستاذ الماتن عدم كون قوله (عليه السلام) : خمر لا تشربه بصدد التنزيل بل كان مسوقاً لبيان الحكم الظاهري في مورد الشكّ. نعم قد عرفت كونه كاشفاً عن التنزيل في الجملة، مع انّه على تقدير التنزيل ومعقوليته في مورد الشكّ الذي لا مجال فيه إلاّ للحكم الظاهري نقول: إنّه لا فرق فيه أصلاً بين أن يقول: خمر لا تشربه أو يقول: خمر فلا تشربه فانّ الظاهر من الأوّل أيضاً كون النهي عن