(الصفحة 161)
للحكم الواقعي بالتنزيل، وقوله: «لا تشربه» نهياً عن شرب المشتبه فالموضوع مختلف لا تستأهل الجواب وعلى فرض كونها بصدد التنزيل فإطلاقه أيضاً لا يخلو عن مناقشة».
الرابع: ما أفاده بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريرات بحثه ـ ممّا حاصله: «إنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر قد يكون على وجه الإطلاق ومن جميع الجهات والآثار في مثله يثبت الجميع للمنزل كما إذا ورد: العصير خمر فلا تشربه أو قال: لا تشرب العصير لأنّه خمر، لأنّ لفظة «فاء» في المثال الأوّل ظاهرة في التفريغ ودالّة على انّ حرمة الشرب من الاُمور المتفرّعة على التنزيل وكذا الحال في المثال الثاني لأنّه كالتنصيص بأن النهي عن شربه مستند إلى انّه منزّل منزلة الخمر شرعاً وبذلك يحكم بنجاسته لأنّها من أحد الآثار المترتّبة على الخمر، وقد يكون التنزيل بلحاظ بعض الجهات والآثار ولا يكون ثابتاً على وجه الإطلاق كما هو الحال في المقام لأنّ قوله: «خمر لا تشربه» انّما يدلّ على انّ العصير منزّل منزلة الخمر من حيث حرمته فقط ولا دلالة له على تنزيله منزلتها من جميع الجهات لعدم اشتماله على لفظة «فاء» الظاهرة في التفريع حيث إنّ جملة «لا تشربه» وقوله: «خمر» بمجموعهما صفة للعصير أو من قبيل الخبر بعد الخبر أو انّها نهي وعلى أي حال لا دلالة له على التفريع حتّى يحكم على العصير بجميع الآثار».
وقد ظهر ممّا أفاده الاستاذ الماتن عدم كون قوله (عليه السلام) : خمر لا تشربه بصدد التنزيل بل كان مسوقاً لبيان الحكم الظاهري في مورد الشكّ. نعم قد عرفت كونه كاشفاً عن التنزيل في الجملة، مع انّه على تقدير التنزيل ومعقوليته في مورد الشكّ الذي لا مجال فيه إلاّ للحكم الظاهري نقول: إنّه لا فرق فيه أصلاً بين أن يقول: خمر لا تشربه أو يقول: خمر فلا تشربه فانّ الظاهر من الأوّل أيضاً كون النهي عن
(الصفحة 162)
الشرب متفرّعاً على وصف الخمرية التنزيلية أو معلولاً له فتدبّر جيّداً. وقد انقدح من جميع ما ذكرنا عدم تمامية الاستدلال بالموثّقة على نجاسة العصير وإن كان بعض الإشكالات على الاستدلال بها قابل الدفع كما عرفت. وممّا استدلّ به على النجاسة:
صحيحة عمر بن يزيد أو حسنته قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يهدى إليه البختج من غير أصحابنا فقال: إن كان ممّن يستحلّ المسكر فلا تشربه وإن كان ممّن لا يستحلّ فاشربه. بتقريب انّه يستفاد منها انّ للبختج حالتين: الإسكار وهي قبل ذهاب الثلثين وحالة عدم الإسكار وهي بعد ذهابهما والمستحلّ لا يأبى عن إهداء المسكر منه فلا يجوز شربه وبالجملة الرواية تدلّ على ثبوت حالة الإسكار للعصير وقد مرّ عدم اختصاص النجاسة بالخمر بل كل مسكر نجس.
وفيه: أوّلاً خروجه عن محلّ النزاع لأنّ الكلام في العصير غير المسكر ضرورة انّ المسكر لا يحتاج إلى بحث مستقلّ بعد التكلّم في نجاسة المسكر مطلقاً.
وثانياً: انّه لا دلالة للرواية على انّ البختج قبل ذهاب الثلثين مسكر كيف وهو خلاف الوجدان فانّ العصير العنبي المغلي بالنار لا يكون مسكراً ما دام كونه على النار. نعم لو اُخذ من النار وترك مدّة ينقلب إلى الإسكار ولعلّ قوله (عليه السلام): «إن كان ممّن يستحلّ...» إشارة إلى انّ من يستحل المسكر يستحل العصير العنبي قبل ذهاب الثلثين قطعاً.
وثالثاً: إنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية انّ للبختج قسمين: مسكر وغير مسكر ولا دلالة لها بل ولا إشعار فيها بكون مطلق العصير المغلي قبل ذهاب الثلثين مسكراً فانّ البختج كما عرفت يحتمل قويّاً أن يكون هو القسم المخصوص من العصير لا مطلق العصير المطبوخ فثبوت قسم له الإسكار في البختج لا يلازم وجود المسكر
(الصفحة 163)
في العصير مطلقاً.
ومنها: رواية أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن أصل الخمر كيف كان بدء حلالها وحرامها ومتى اتخذ الخمر؟ فقال: إنّ آدم لمّا اُهبط من الجنّة اشتهى من ثمارها فأنزل الله عليه قضيبين من عنب فغرسهما فلمّا ان أورقا وأثمرا وبلغا جاء إبليس فحاط عليهما حائطاً فقال آدم: ما حالك يا ملعون؟ قال فقال إبليس: إنّهما لي قال: كذبت فرضيا بينهما بروح القدس فلمّا انتهيا إليه قصّ آدم عليه قصّته فأخذ روح القدس ضغثاً من نار فرمى به عليهما والعنب في أغصانها حتّى ظنّ آدم انّه لم يبق منه وظنّ إبليس مثل ذلك، قال: فدخلت النار حيث دخلت وقد ذهب منهما ثلثاهما، وبقي الثلث فقال الروح: امّا ما ذهب منهما فخط إبليس وما بقى فلك يا آدم.
ومنها: موثقة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنّ نوحاً لمّا هبط من السفينة غرس غرساً فكان فيما غرس النخلة فجاء إبليس فقلعها إلى أن قال: فقال نوح: ما دعاك إلى قلعها فوالله ما غرست غرساً هو أحبُّ إليّ منها فوالله لا أدعها حتّى اغرسها، فقال إبليس. وأنا والله لا أدعها حتّى أقلعها فقال له جبرئيل: اجعل له فيها نصيباً قال: فجعل له الثلث فأبى أن يرضى فجعل له النصف فأبى أن يرضى وأبى نوح أن يزيده فقال له جبرئيل: احسن يا رسول الله فانّ منك الإحسان فعلم نوح انّه قد جعل له عليها سلطان فجعل نوح له الثلثين، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : فإذا أخذت عصيراً فطبخته حتّى يذهب الثلثان نصيب الشيطان فكل واشرب.
وأنت خبير بعدم ظهور شيء من الروايتين في نجاسة العصير. نعم يمكن أن يستفاد منهما الحرمة خصوصاً من الموثقة، والعجب من الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره)حيث حكى عنه انّه قال: «إنّ في هذه الأخبار دلالة واضحة على انّ عصير العنب إذا غلى بالنار أو نشّ بنفسه حكمه حكم الخمر إلاّ أن يذهب ثلثاه أو
(الصفحة 164)
يصير خلاًّ».
ومنها: حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان أبي يقول: إنّ نوحاً حين اُمر بالغرس كان إبليس إلى جانبه فلمّا أراد أن يغرس العنب قال: هذهالشجرة لي فقال له نوح: كذبت فقال ابليس: فما لي منها؟ فقال نوح: لك الثلثان فمن هناك طاب الطلا على الثلث. فانّ ظاهر قوله (عليه السلام) : فمن هناك طاب الطلا على الثلث، عدم كونه طيباً قبل الثلث ومن الظاهر انّ المراد بالطيب في المقام هو الطاهر في مقابل النجس.
وفيه: انّ الطيب إذا كان مستعملاً في الأموال يكون المراد منه الحلية كما يقال: طاب مال فلان أي صار حلالاً بعد كونه حراماً قوله: طاب الطلا على الثلث أي صار حلالاً بعد ذهاب الثلثين بعد كونه حراماً قبله ويشهد له ما ورد في حديث آخر من قوله (عليه السلام) : «فذلك الحلال الطيب ليشرب منه».
ومنها: ما ورد في حديث في الجواب عن السؤال عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته من قوله (عليه السلام) : «إذا تغيّر عن حاله وغلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وأنت خبير بأنّ نفي الخير لا دلالة له على النجاسة.
ومنها: ما ورد في فقه الرضا من انّ العصير إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فهو خمر.
ولا يخفى ما في الاستدلال بها من عدم حجّية الفقه الرضوي وعدم اعتباره عند الأصحاب وعدم ظهور دلالته أيضاً على النجاسة لأنّ الحكم عليه بكونه خمراً انّما هو من باب التنزيل لا الحقيقة ولم يثبت كون التنزيل انّما هو بلحاظ جميع الآثار والأحكام بل في اثر الحرمة الذي هو أظهر الآثار خصوصاً بملاحظة قوله: ولا يحلّ شربه بعد العبارة المتقدّمة.
(الصفحة 165)
وممّا جعله صاحب الجواهر (قدس سره) مؤكّداً لنجاسة العصير ومؤيّداً لها ما أفاده من قوله: «قد استفاضت الروايات بل كادت تكون متواترة بتعليق الحرمة في النبيذ وغيره على الإسكار وعدمها على عدمه مع استفاضة الروايات بحرمة عصير العنب إذا غلى قبل ذهاب الثلثين، وحملها على التخصيص ليس بأولى من حملها على تحقّق الإسكار فيه بل هو أولى لأصالة عدم التجوّز بل لعلّه متعيّن لعدم القرينة بل قد يقطع به لعدم ظهور شيء من روايات الحرمة في خروج ذلك عن تلك الكلية بل ولا إشارة».
وفي كلامه مواقع للنظر:
منها: انّ الروايات الواردة في الخمر والنبيذ والعصير لا دلالة لها على انّ الحرمة معلّقة على الإسكار وعدمها على عدمه بل لم يرد رواية واحدة بنحو ما ذكره من التعليق فضلاً عن استفاضتها أو تواترها. نعم وردت روايات في خصوص النبيذ ومفادها أنّ المسكر منه حرام وهذه الروايات مع ورودها في خصوص النبيذ لا تعرض فيها للتعليق. غاية الأمر انّ تحريم المسكر يستفاد منه عدم حرمة غير المسكر منه فاستفادة الحكم الكلّي ممّا لا وجه لها أصلاً.
ومنها: انّ ترجيح التخصّص على التخصيص ـ فيما إذا دار الأمر بينهما ـ انّما هو فيما إذا كان الترجيح موجباً لتعيين الحكم واستكشاف المراد. وبعبارة اُخرى مورده ما إذا كان المراد غير معلوم كما إذا ورد دليل عام مثل قوله: «أكرم العلماء» ودليل: «لا تكرم زيداً» وتردّد أمر زيد بين أن يكون المراد به هو زيد الجاهل حتّى لا يكون الدليل الثاني مستلزماً للتخصيص أو أن يكون المراد به هو زيد العالم حتّى يكون هناك مخصّص ففي مثل ذلك تجري قاعدة ترجيح التخصّص على التخصيص وتحكم بكون المراد من زيد ـ الذي يحرم أو لا يجب إكرامه ـ هو زيد الجاهل دون