(الصفحة 18)
ثانيتهما: رواية معلى بن خنيس وعبدالله بن أبي يعفور قالا: كنّا في جنازة وقدامنا حمار فقال فجاءت الريح ببوله حتّى صكّت وجوهنا وثيابنا ودخلنا على أبي عبدالله (عليه السلام) فأخبرناه؟ فقال: ليس عليكم بأس.
وهاتان الروايتان وإن قيل بضعفهما إلاّ انّه ينجبر بعمل الأصحاب واعتماد المشهور عليهما فتعارضان مع الأخبار الدالّة على النجاسة بالنسبة إلى الأبوال، وامّا الأرواث فلا دلالة لشيء من الأخبار على نجاستها بل قد صرّح في رواية الحلبي ـ المتقدّمة ـ بنفي البأس عن روث الحمير فمورد المعارضة هي الأبوال فقط. فحينئذ نقول: يمكن الجمع بين الطائفتين بحمل الأخبار الآمرة بالغسل عن أبوالها على حكم استحبابي لكونها ظاهرة في الحكم الوجوبي وصراحة أخبار الطهارة فيها فهي قرينة على التصرّف في تلك الأخبار وحملها على خلاف ظاهرها سيّما على مبنى الماتن ـ دام ظلّه ـ من كون ظهور الأمر في الإلزام والوجوب معلّقاً على عدم الترخيص في الترك، ونتيجة هذا الحمل هو التفصيل بين البول والروث بالحكم باستحباب الغسل في الأوّل دون الثاني، هذا بالنسبة إلى غير الموثقة من أخبار النجاسة، وامّا هي فتكون صريحة في النجاسة للتشبيه بأبوال الإنسان فيها أولاً وجعلها في رديف بول الكلب والسنّور ثانياً فيشكل الأمر في الموثّقة لمعارضتها مع أخبار الطهارة والحق تقديم أخبار الطهارة عليها للشهرة الفتوائية على طبقها التي تكون أوّل المرجحات في باب التعارض وتأيّدها بذيل موثقة ابن بكير حيث قال (عليه السلام): يا زرارة هذا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاحفظ ذلك يا زرارة فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إلى أن قال: وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شيء منه فاسد ذكاه الذبح أو لم يذكه.
(الصفحة 19)
والذي يسهل الخطب ويوجب الاطمئنان بالطهارة انّها مع هذا الابتلاء الكثير المشاهد بها خصوصاً في بلاد الأعراب ولا سيما في تلك الأعصار لو كانت نجسة لصارت من الضروريات والواضحات لدى المسلمين بحيث لم يشكّ أحد فيها ولم ينحصر المخالف في طهارتها بابن الجنيد والشيخ كما هو ظاهر.
الأمر الثالث: قد وقع الخلاف بين الأصحاب في نجاسة الأبوال والأرواث ممّا لا يؤكل لحمه إذا لم تكن له نفس سائلة كالأسماك المحرّمة ونحوها فذهب المشهور إلى طهارة بوله وخرئه، ونقل عن العلاّمة انّه تردّد في بعض كتبه وقد أفتى في المتن بالطهارة إذا لم يكن له لحم كالبق والذباب واستشكل فيما إذا كان له لحم وإن مال إلى الطهارة خصوصاً في خرئه.
والكلام في مستند المشهور لأنّ مقتضى عموم ما دلّ على نجاسة بول غير المأكول أو إطلاقه انّه لا فرق فيما لا يؤكل لحمه بين ما له نفس سائلة وبين ما ليس له نفس كذلك فلابدّ في إخراج ما لا نفس له من ذلك العموم أو الإطلاق من إقامة الدليل عليه، نعم طهارة خرء ما لا نفس له ممّا لا يحتاج إلى الدليل لعدم عموم أو إطلاق يدلّ على نجاسة خرء ما لا يؤكل لحمه بخلاف البول لقيام الدليل على نجاسته كذلك وهو روايات أظهرها رواية عبدالله بن سنان المتقدّمة، وحينئذ لابدّ لنا من إقامة الدليل على خروج البول فيما لا نفس له فنقول:
قد يتمسّك في ذلك بالانصراف بدعوى انّ لفظة «البول» منصرفة عمّا يخرج من الحيوان الذي لا نفس له فإنّ ما يخرج من مثله مجرّد مايع يترشّح منه ولا يطلق عليه عنوان البول.
وفيه انّ سيلان الدم وعدمه لا مدخلية له في إطلاق اسم البول على ما يخرج منه وعدمه كما هو غير خفي.
(الصفحة 20)
وقد يتمسّك في ذلك بموثقة حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام)قال: لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة. بتقريب انّ الرواية تدلّ بإطلاقها على عدم تنجّس الماء ببول ما لا نفس له كذلك ولا بدمه ولا بميتته ولا بغيرها ممّا يوجب نجاسة الماء إذا كانت له نفس سائلة.
وفيه انّها منصرفة إلى الميتة ممّا لا نفس له ولذا ذكرها الأصحاب في باب عدم نجاسة الميتة ممّا لا نفس له، ويرشدك إلى اختصاصها بالميتة ـ مضافاً إلى الانصراف ـ إضافة الإفساد وعدمه إلى ذات ما كانت له نفس سائلة لا إلى مثل ما يخرج منه فتأمّل.
والتحقيق انّ ما لا نفس له من الحيوانات المحرّمة على قسمين: الأوّل ما لا لحم له أصلاً كالذباب والنملة والبق، الثاني ما كان له لحم معتدّ به. غاية الأمر انّه يحرم أكله، وما يدلّ على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه منصرف عن القسم الأوّل لأنّ المفروض عدم وجود لحم له حتّى يحرم وقد فرض في موضوع تلك الأدلّة وجود حيوان له لحم غاية الأمر اتصافه بالحرمة، فما ليس له لحم أصلاً لا يكون مشمولاً لتلك الأدلّة بوجه، وامّا القسم الثاني فقد عرفت انّ طهارة الخرء فيه لا تحتاج إلى الدليل لعدم عموم أو إطلاق يدلّ على نجاسة خرء ما لا يؤكل لحمه وامّا البول فمقتضى عموم الدليل الشمول وإن كانت دعوى الانصراف غير بعيدة فتدبّر جيّداً.
الأمر الرابع: قد حكى الخلاف في نجاسة بول الرضيع عن ابن الجنيد فانّه قال: «بول البالغ وغير البالغ من الناس نجس إلاّ أن يكون غير البالغ صبياً ذكراً فإنّ بوله ولبنه ما لم يأكل اللحم ليس بنجس» والظاهر منه نجاسة لبنه إذا أكل اللحم مع انّه غريب جدّاً كما انّ التقييد بأكل اللحم أيضاً كذلك لكن عن المدارك حكاية «الطعام» بدل «اللحم» عنه.
(الصفحة 21)
وكيف كان إن كان مراد القائل بعدم النجاسة عدم كونه نجساً بوجه بحيث لا يحتاج إلى الغسل وإلى الصبّ أصلاً فيرده ـ مضافاً إلى الروايات الكثيرة المتقدّمة الواردة في البول الدالّة على وجوب الغسل فانّها وإن كانت منصرفة ـ احتمالاًـ عن بول غير الإنسان إلاّ انّ دعوى الانصراف عن بول الطفل سيّما الذكر منه ـ كما هو المدعى ـ ممنوعة جدّاً. نعم لا بأس بدعوى الانصراف عن مطلق الإنسان في الروايات الآمرة بغسل بول ما لا يؤكل لحمه كما هو غير خفي ـ الروايات الخاصة الآمرة بالغسل تارة كموثقة سماعة قال: سألته عن بول الصبي يصيب الثوب؟ فقال: اغسله، قلت: فإن لم أجد مكانه؟ قال: اغسل الثوب كلّه. وبالصبّ والعصر اُخرى كصحيحة الحسين بن أبي العلاء في حديث قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصبي يبول على الثوب؟ قال: تصبّ عليه الماء قليلاً ثمّ تعصره. والمفصلة ثالثة كصحيحة الحلبي أو حسنته قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن بول الصبي؟ قال: تصبّ عليه الماء فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً والغلام والجارية في ذلك شرع سواء.
وإن كان مراد القائل بعدم النجاسة عدم كونه كسائر النجاسات بحيث يحتاج إلى الغسل بل يكفي فيه الصبّ فقط فإن كان المراد انّ الصبّ كاشف عن عدم النجاسة رأساً خصوصاً بعد عدم وجوب العصر مطلقاً أو في خصوص المقام ـ كما يأتي في محلّه ـ فالجواب منع الكشف والصبّ دليل على النجاسة ولا يكون حكماً تعبّدياً غير مرتبط بباب التطهير والتغسيل.
وإن كان المراد ثبوت النجاسة غاية الأمر كفاية الصبّ وعدم لزوم الغسل فنقول لا مانع منه بعد حمل الرواية الدالّة على لزوم الغسل على الصبّ بقرينة الرواية الدالّة على كفاية الصبّ فإنّ الصبّ أيضاً نوع من الغسل وإن أبيت إلاّ عن المباينة بينهما فاللازم التفصيل على طبق الرواية المفصّلة ولا يبقى فرق ـ حينئذـ بين
(الصفحة 22)
الغلام والجارية.
وامّا ما ورد في قضية الحسنين (عليهما السلام) في رواية الراوندي والجعفريات عن علي (عليه السلام)من عدم غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثوبه من بولهما قبل أن يطعما فلا تنافي ما دلّ على وجوب الصبّ لانصراف الغسل إلى ما يتعارف من انفصال الغسالة والشاهد عليه ما رواه الصدوق في معاني الأخبار من انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتى بالحسن بن علي فوضع في حجره فبال، فقال: لا تزدموا ابني ثمّ دعا بماء فصبّ عليه. ولا يبعد أن تكون القضية واحدة بل ورد في مولانا الحسين (عليه السلام) شبه القضية فقال: مهلاً يا اُمّ الفضل فهذا ثوبي يغسل وقد أوجعت ابني. وفي رواية: «فقال (صلى الله عليه وآله): مهلاً يا اُمّ الفضل انّ هذه الاراقة، الماء يطهّرها فأيّ شيء يزيل هذا الغبار عن قلب الحسين» مع ظهور كون هذه الروايات غير قابلة للركون عليها في إثبات الحكم.
وامّا رواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) انّ عليّاً (عليه السلام) قال: لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم لأنّ لبنها يخرج من مثانة اُمّها ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل أن يطعم لأنّ لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين. فمضافاً إلى مخالفتها للإجماع من جهة الحكم بنجاسة لبن الجارية وللاعتبار معارضة لصحيحة الحلبي المتقدّمة الدالّة بالصراحة على التسوية بين الغلام والجارية، مع انّ عدم وجوب الغسل في الغلام لا ينافي وجوب الصبّ لدلالة الدليل عليه كما هو غير خفي.
فانقدح من جميع ذلك عدم إمكان إقامة الدليل على مدعى ابن الجنيد بوجه.