(الصفحة 182)
طبخ حتّى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف ثمّ يترك حتّى يبرد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. نظراً إلى انّها تدلّ على انّ ذهاب ثلثي العصير الذي هو عبارة عن أربعة دوانيق لا يعتبر أن يكون حال غليانه بالنار بل لو ذهب منه مقدار كثلاثة دوانيق ونصف بسبب النار وذهب نصف الدانق بعد رفعه عنها كفى ومن الواضح عدم الفرق بين مقدار من الثلثين وبين مجموعهما.
ولكن الحقّ انّها أيضاً لا تدلّ على كفاية الذهاب بمثل الشمس والهواء لأنّ ذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار أيضاً يكون مستنداً إلى النار لأنّها صارت موجبة لغليانه ومحدثة فيه الحرارة المستلزمة للذهاب والنقصان ففي الحقيقة مفاد الرواية انّ ذهاب الثلثين الذي لابدّ منه في الحلّية لا يلزم أن يتحقّق حال كونه على النار ومجاوراً لها بل يكفي في الحلّية ذهاب البعض كثلاثة دوانيق ونصف كذلك وذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار وأين هذا من كفاية قيام الشمس أو الهواء مقام النار في إذهاب الثلثين فتأمّل فما صرّح به السيّد من عدم الفرق ممّا لا يساعده الدليل.
ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في انّ حرمة العصير المغلي لا تختصّ بما إذا استخرج ماء العنب بالعصر بل تعمّ ما إذا خرج مائه من غير عصر ثمّ غلا بالنار أو بنفسه لعدم الفرق بينهما بنظر العرف أصلاً وإن كان عنوان «العصير» بمعناه الحقيقي اللغوي يختصّ بالأوّل إلاّ انّ الحكم عام لعدم مدخلية للعصر في ذلك بل الموضوع هو ماء العنب المغلي كما لا يخفى.
انّما الإشكال فيما إذا غلى ماء العنب في جوفه بحرارة الشمس قبل أن يخرج منه، والظاهر انّ هذه المسألة مجرّد فرض ولا يبتني على أمر واقع لأنّ الماء في جوف العنب لا يكون منفصلاً عن سائر الأجزاء بل هو مشتمل على لحم فيه رطوبة
(الصفحة 183)
كسائر الفواكه وعليه فلا ماء في جوف العنب حتّى يعرض له الغليان لأنّ الغليان كما مرّ هو القلب والتصاعد والتنازل ولا يتصوّر هذا في مثل العنب قبل خروج الماء منه، وعلى تقدير إمكان ذلك نقول الظاهر حرمته لشمول الدليل له وعدم الفرق بينه وبين غيره بحسب نظر العرف أصلاً. هذا تمام الكلام في أحكام العصير العنبي.
المقام الرابع: في حكم العصير الزبيبي والتمري ويطلق على عصيرهما النبيذ اصطلاحاً خصوصاً في عصير التمر كما عن صاحب الحدائق (قدس سره) كما انّه يطلق على عصير الزبيب النقيع والمراد من عصير التمر أو الزبيب ماء نبذ فيه أحدهما وصار ذا حلاوة لأجل المجاورة والملاصقة والكلام تارة في حكمه من حيث النجاسة والطهارة واُخرى فيه من جهة الحلّية والحرمة.
امّا من جهة النجاسة فالظاهر الاتفاق على عدمها ولكن عن المحقّق الأردبيلي (قدس سره)انّه يظهر من الذكرى اختيار نجاسة عصير التمر والزبيب، وعن مفتاح الكرامة إنكار النسبة .
وكيف كان فقد يستدل على نجاسة العصير الزبيبي ـ بعد البناء على نجاسة العصير العنبي ـ تارة بالاستصحاب التعليقي واُخرى بالاستصحاب التنجيزي أي استصحاب سببية غليانه للنجاسة فانّه ـ سابقاً ـ كان غليانه سبباً للنجاسة حسب الفرض والآن تستصحب تلك السببية ويحكم ببقائها.
ولابدّ أوّلاً من ملاحظة انّ الأدلّة الواردة في العصير الدالّة على نجاسته على ما هو المفروض هل يكون مفادها ثبوت حكم تعليقي مرجعه إلى انّ العصير إذا غلى ينجس بحيث يكون موضوع الحكم ذات العصير ونفسه، والغليان واسطة في الثبوت كالنار التي تكون واسطة لثبوت الحرارة لنفس الماء، أو يكون مفادها ثبوت حكم تنجيزي قد رتّب على العصير المغلي بحيث يكون الموضوع العصير
(الصفحة 184)
الموصوف بهذا الوصف؟ وبين الصورتين فرق فاحش في باب الاستصحاب ضرورة انّه لو كان الموضوع في قوله: «الماء المتغيّر بالنجاسة نجس» هو الماء الموصوف بوصف التغيّر وكان الونصف من مقدّمات الموضوع ـ كما هو ظاهر الكلام ـ فلا مجال لاستصحاب النجاسة فيما إذا زال التغيّر من قبل نفسه لتغاير الموضوع واعتبار وحدته في جريان الاستصحاب، وامّا لو كان الموضوع هو نفس الماء والتغيّر واسطة في الثبوت كما هو مفاد قوله: «الماء إذا تغيّر بالنجاسة ينجس» فلا مانع من إجراء الاستصحاب في الفرض بعد بقاء الموضوع الذي هو ذات الماء على ما هو المفروض.
إذا عرفت ذلك نقول: إنّ ظواهر الأدلّة التي استدلّ بها على نجاسة العصير مختلفة فانّ ظاهر بعضها جعل الحكم التنجيزي للعصير المطبوخ أو المغلي، وظاهر بعضها الآخر كمرسلة محمد بن الهيثم: «إذا تغيّر عن حاله وغلا فلا خير فيه» جعل الحكم التعليقي لنفس العصير بل وكذا خبر أبي بصير المشتمل على قوله (عليه السلام): «إن طبخ حتّى يذهب منه اثنان ويبقى واحد فهو حلال» فإن قلنا: بأنّ نجاسة العصير حكم تعليقي قد ثبت للعصير قبل غليانه ويتوقّف فعلية الحكم وتنجّزه على وجود المعلّق عليه وهو الغليان فلا مانع من استصحاب الحكم التعليقي الذي ثبت في العصير العنبي وابقائه في العصير الزبيبي. وامّا لو كان الحكم ثابتاً بنحو التنجّز فلا مجال للاستصحاب أصلاً كما عرفت.
نعم على فرض ثبوت الحكم التعليقي ربّما يستشكل في استصحابه من وجوه اُخر:
الأوّل: انّ موضوع القضية المتيقّنة غير باق في المشكوكة ولا اتحاد بين القضيتين في الموضوع أصلاً ولذا لا يمكن التمسّك بدليل حكم عصير العنب على حكم عصير
(الصفحة 185)
الزبيب ولا وجه له إلاّ تغاير الموضوع بنظر العرف.
واُجيب عنه بأنّ المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة لا وحدة موضوع المستصحب مع موضوع الدليل الاجتهادي، كيف ولو كان الموضوع في الدليل الاجتهادي متّحداً مع موضوع المستصحب لم تكن حاجة إلى الاستصحاب بل كان الحكم ثابتاً بنفس الدليل الاجتهادي، فانّه مع عدم زوال التغيّر الثابت للماء في المثال وبقاء الموضوع الذي هو الماء الموصوف بوصف التغيّر يكون الدليل المبين لحكمه هو نفس الدليل الاجتهادي الدال على انّ الماء إذا تغيّر يصير نجساً ولا حاجة إلى الاستصحاب بوجه.
والظاهر انّ هذا الجواب تامّ بالنسبة إلى مثال الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من قبل نفسه لأنّه إذا حدث وصف التغيّر يعرض له النجاسة بمقتضى الدليل الاجتهادي فإذا زال تغيّره من قبل نفسه وشكّ في بقاء نجاسته لا مانع من أن يقال: إنّ هذا الماء المشار إليه الموجود في الخارج كان نجساً والآن كما كان بمقتضى دليل الاستصحاب لا الدليل الاجتهادي لأنّه قاصر عن إفادة حكمه بعد زوال التغيّر ولا دلالة له عليه نفياً ولا إثباتاً.
ولكنّه بالإضافة إلى المقام غير صحيح لأنّ الموضوع في لسان الدليل الاجتهادي هو عصير العنب وهو الذي كانت نجاسته التعليقية معلومة على ما هو المفروض والموضوع الذي نشكّ في حكمه هو العصير الزبيبي وأين هذا من ذاك. نعم لو كان الحكم في السابق مترتّباً على العنب نفسه وشككنا في بقائه بعد صيرورته زبيباً لم يكن هناك مانع من أن يقال: إنّ هذا الشيء الموجود في الخارج كان في السابق محكوماً بحكم كذا والآن نشكّ في بقاء حكمه لأجل تبدّل بعض حالاته وصيرورته يابساً بعد كونه رطباً فتستصحب لأن تبدّل الحال لا يقدح في
(الصفحة 186)
بقاء الموضوع بل لو لم يكن التبدّل لم يحتجّ إلى الاستصحاب.
وبالجملة: القضية المتيقّنة عبارة عن «العصير العنبي إذا غلى ينجس» والقضية المشكوكة عبارة عن «العصير الزبيبي إذا غلى ينجس» ولا مجال لتوهّم الاتّحاد أصلاً خصوصاً بعد ملاحظة انّ عصير العنب هو ماء نفس العنب ويستخرج منه بالعصر ونحوه وامّا عصير الزبيب فهو ماء خارجي اكتسب الحلاوة من الزبيب الذي نبذ فيه فالعصيران متغايران بتمام المعنى فلا وجه للرجوع إلى الاستصحاب كما هو ظاهر.
الثاني: انّه لابدّ في جريان الاستصحاب من ثبوت حكم ـ وضعياً كان أو تكليفياً ـ أو موضوع ذي حكم قد شكّ في بقائه، وفي الاستصحاب التعليقي لم يثبت حكم في السابق مشكوك البقاء لأنّ الحكم الكلّي الإلهي الثابت لموضوعه الدال عليه قوله: «العصير العنبي إذا غلا ينجس» لا شكّ في بقائه فلا مجال لاستصحابه والحكم الجزئي ـ أي نجاسة هذا الفرد من العصير المسمّب بعصير الزبيب ـ لم يكن ثابتاً في زمان حتّى يثبت بقائه بالاستصحاب.
والجواب: إنّ كيفية ثبوت الأحكام مختلفة فانّها تارة تثبت لموضوعاتها بنحو الفعلية والتنجّز واُخرى بنحو الاشتراط والتعليق، والحكم التعليقي أيضاً أمر مجعول ثابت محقّق في دعائه ولا مجال لدعوى عدم ثبوته فهل يمكن الالتزام بأن جعل وجوب الإكرام لزيد على تقدير مجيئه قبل أن يتحقّق منه المجيء يكون كعدم جعله لعدم تحقّق شرطه؟! فالإشكال من هذا الوجه واضح الدفع.
الثالث: انّ الاستصحاب التعليقي معارض دائماً بالاستصحاب التنجيزي فانّ العصير الزبيبي كما انّه محكوم بالنجاسة لأجل استصحابها بنحو التعليق كذلك محكوم بالطهارة لاستصحاب الطهارة الثابتة له قبل عروض الغليان بلا ارتياب