(الصفحة 190)
الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر، وليس بمعنى مطلق الكتاب ولهذا نقل عن المفيد (قدس سره) انّه قال: صنّفت الإمامية من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عهد أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) أربعمائة كتاب تسمّى «الاُصول» ومعلوم انّ مصنّفات الإمامية فيما ذكر من المدّة تزيد على ذلك بكثير كما يشهد به تتبّع كتب الرجال، فالأصل أخصّ من الكتاب ولا يكفي فيه مجرّد عدم انتزاعه من كتاب آخر بل لابدّ أن يكون معتمداً.
وقال أيضاً: إنّ «الأصل» يؤخذ في كلمات الأصحاب مدحاً لصاحبه ووجهاً للاعتماد على ما تضمّنه، وربما يضعفون بعض الروايات لعدم وجدان متنها في شيء من الاُصول إلى أن قال (قدس سره) : إنّ سكوت ابن الغضائري عن الطعن فيه مع طعنه في جملة من المشايخ يدل على وثاقته حتّى قيل: «السالم من رجال الحديث من سلم من طعنه» ومع ذلك لم يطعن فيه بل قال: إنّ زيد النرسي وزيد الزراد قد رويا عن أبي عبدالله (عليه السلام) . وقال أبو جعفر ابن بابويه: إنّ كتابهما موضوع وضعه محمد بن موسى السمّان، وغلط أبو جعفر في هذا القول فانّي رأيت كتبهما مسموعة من محمد بن أبي عمير انتهى.
أضف إلى ذلك ان ابن أبي عمير قد روى عنه وعن كتابه وهو لا يروي إلاّ عمّن يثق به ومن أجله قد اشتهر بين الأصحاب انّ مراسيله كمسانيد غيره فضلاً عن مسانيده وهو من أصحاب الإجماع وفي غاية الوثاقة والعدالة والورع والضبط على ما يستفاد من تتبّع كتب الرجال.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا وثاقة زيد النرسي وثبوت الأصل له، والعجب من الصدوق (قدس سره) حيث إنّه مع تضعيفه كتاب زيد وإنكاره كونه له ـ كما عرفت ـ قد روى في «الفقيه» رواية عن ابن أبي عمير عن زيد النرسي مع التزامه في ديباجته بأن لا
(الصفحة 191)
يورد فيها إلاّ ما كان حجّة بينه وبين الله تعالى.
وامّا كون النسخة التي بيد المجلسي هي النسخة الصحيحة المطابقة لكتاب زيد النرسي فثباته مشكل جدّاً مع كثرة الفصل الزماني بينهما لكون زيد في سنة مأة وخمسين بعد الهجرة والمجلسي فيما يقرب الألف بعدها، وذكر انّ تاريخ كتابتها 374، وممّا يؤيّد عدم اعتبار تلك النسخة انّ صاحب الوسائل (قدس سره) لم ينقل عنها في وسائله مع كونها موجودة عنده على ما نقله الشيخ الخبير المتتبّع الشريعة الاصبهاني (قدس سره)اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ وجود الأخبار المروية في كتب الأصحاب عن زيد النرسي كتفسير علي بن إبراهيم وكامل الزيارة لجعفر بن قولويه استاذ الشيخ المفيد (قدس سره)وثواب الأعمال للصدوق وكتاب العروس لجعفر بن أحمد القمي وعدّة الداعي لابن فهد المعروف والزهد لحسين بن سعيد والكافي للكليني والفقيه كما عرفت بأجمعها في تلك النسخة يوجب الاطمئنان بصحّتها. ودعوى احتمال كون النسخة موضوعة وانّما أدرج فيها هذه الأخبار المنقولة في غيرها تثبيتاً للمدّعى وإيهاماً على انّها كتاب زيد وأصله، بعيدة جدّاً بعد عدم وجود الداعي إلى ذلك، والعجب انّ من جملة الأفراد التي وقعت في سند رواية كامل الزيارة المنتهية إلى زيد النرسي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) هو علي بن بابويه والد الصدوق وشيخ القميين الذي خاطبه الإمام العسكري (عليه السلام) في توقيعه بقوله: يا شيخي ومعتمدي، وعليه فيمكن المناقشة في النسبة إلى ولده الصدوق كون أصله موضوعاً فانّه كيف يمكن الجمع بين رواية الوالد عنه وبين اعتقاد الولد كونه موضوعاً ويؤيّده روايته بنفسه عن أصل زيد في الفقيه وثواب الأعمال كما عرفت.
والإنصاف: انّه لا دليل على وثاقة زيد النرسي ولو كان له أصل لأنّ ما قيل من ان ابن أبي عمير قد روى عنه وهو لا يروي إلاّ عن الثقة فهو رجم بالغيب لعدم
(الصفحة 192)
التزامه بذلك ولم ينقل إلينا التزامه أصلاً، ودعوى استفادته من التتبّع في الروايات مدفوعة بأنّه فرع ثبوت وثاقة جميع من روى عنهم وأنّى لكم بإثباته فمجرّد نقل ابن أبي عمير عنه لا يكشف عن وثاقته، وامّا ما عرفت من العلاّمة الطباطبائي من استفادة الوثاقة من طريق ثبوت الأصل له ففيه انّه لم يدلّ دليل على كون «الأصل» في الاصطلاح بهذا المعنى ومن المحتمل أن يكون المراد منه ثبوت كتاب له في اُصول العقائد من الإمامة وغيرها كما انّه يحتمل ـ قوياً تبعاً لسيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ أن يكون الأصل قسماً من الكتاب قسيماً للمصنف نظراً إلى انّ الأصل عبارة عن الكتاب الموضوع لنقل الحديث سواء كان مسموعاً عن الإمام بلا واسطة أو عنها، وسواء كان مأخوذاً من كتاب وأصل آخر أم لا، ولا يبعد أن يكون غالب استعماله فيما لم يؤخذ من كتاب آخر، وامّا المصنّف فهو عبارة عن كتاب موضوع لغير نقل الحديث كالتاريخ والتفسير والرجال ونحوها، والشاهد عليه مقابلة المصنّف بالاُصول في كثير من العبارات وجعل كليهما قسمين من الكتاب في بعضها وقول بعضهم في عدّة من الموارد: له أصل معتمد.
أضف إلى ذلك انّ اقتصار المشايخ الثلاثة من روايات أصل زيد النرسي على حديثين أو ثلاث أحاديث يدلّ على عدم اعتمادهم عليه مع وضوح كونهم مجدّين في نقل الأخبار وجميع الروايات وعليه فلم يثبت وثاقة زيد النرسي ولو كانت المناقشة في النسخة غير تامّة.
الجهة الثانية: في متنها وقد وقع فيه اختلاف، قال في المستدرك: «عن زيد النرسي في أصله قال: سُئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الزبيب يدق ويلقى في القدر ثمّ يصبّ عليه الماء ويقود تحته؟ فقال: لا تأكله حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث فإنّ النار قد أصابته، قلت: فالزبيب كما هو في القدر ويصبّ عليه الماء ثمّ يطبخ ويصفّى عنه الماء
(الصفحة 193)
فقال: كذلك هو سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصارت حلواً بمنزلة العصير ثمّ نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد. قلت: هكذا متن الخبر في نسختين من الأصل وكذا نقله المجلسي (قدس سره) فيما عندنا من نسخ البحار ونقله في المستند عنه، ولكن في كتاب الطهارة للشيخ الأعظم تبعاً للجواهر ساقا كذلك: عن الصادق (عليه السلام) في الزبيب يدق ويلقى في القدر ويصبّ عليه الماء؟ فقال: حرام حتّى يذهب الثلثان وفي الثاني ـ الجواهر ـ إلاّ أن يذهب ثلثاه، قلت: الزبيب كما هو يلقى في القدر؟ قال: هو كذلك سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فقد فسد، كلّما غلى بنفسه أو بالماء أو بالنار فقد حرم حتّى يذهب ثلثاه. بل فيه نسبة الخبر إلى زيد الزراد وزيد النرسي، ولا يخفى ما في المتن الذي ساقاه من التحريف والتصحيف والزيادة وكذا نسبته إلى الزراد».
والعجب من شيخ الشريعة (قدس سره) حيث إنّه لمّا أرى صراحة الرواية ـ بهذا المتن ـ في خلاف مدّعاه السابق أخذ في الإشكال والطعن على الأكابر فقال: هذا الذي اتّفق من هؤلاء الأكابر أمر ينبغي الاسترجاع عند تذكّر مثله والاستعاذة بالله العاصم عن الوقوع في شبهه. ثمّ نقل الرواية على طبق نقل المجلسي الموافق لما نقلناه أولاً عن المستدرك ثمّ قال ـ بعد كلام ـ : وأوّل من عثرت عليه ممّن وقع في تلك الورطة الموحشة والهوّة المظلمة الشيخ الفاضل المتبحِّر الشيخ سليمان الماحوزي البحراني فتبعه من تبعه، ثمّ ذكر وصية الفاضل الهندي في آخر كشف اللثام المتضمّنة للزوم الرجوع إلى كتب الأخبار في نقلها وعدم صحّة الاعتماد على الكتب الفرعية.
وأنت خبير بأنّه ينبغي أن يسترجع عند تذكّر مثل هذا الكلام من إطالة اللسان والطعن على الأكابر الأعلام فانّ الشيخ سليمان البحراني ـ على ما يظهر من ترجمته ـ كان زميلاً للعلاّمة المجلسي وعديلاً له وكان محقّقاً عالماً عاملاً فقيهاً محدثاً، وعن
(الصفحة 194)
بعض تلامذته انّ هذا الشيخ كان اعجوبة في الحفظ والدقّة وسرعة الانتقال في الجواب والمناظرة وكان ثقة في النقل إماماً في عصره، وحيداً في دهره، أذعنت له جميع العلماء، وأقرّت بفضله جميع الحكماء وكان جامعاً لجميع العلوم علاّمة في الفنون حسن التقرير عجيب التحرير خطيباً شاعراً مفوّهاً، ونقل ما يقرب منه عن صاحب الحدائق.
وبالجملة كان هذا الشيخ الجليل معاصراً للمجلسي وهو قد روى الحديث بالمتن المطابق لرواية الشيخ في الطهارة تبعاً للجواهر على ما أفاده المستدرك، وكيف يمكن نسبة الغلط والتصحيف إليه بمجرّد مخالفة حديثه لنسخة المجلسي بعد انّه يحتمل ـ قوياً ـ وجود نسخة اُخرى عنده غير ما عند المجلسي.
وكيف كان فالرواية مختلفة المتن لا مجال للاتكال على خصوص نسخة أصلاً.
الجهة الثالثة: في دلالتها والإنصاف انّ دلالتها على حرمة عصير الزبيب بعد الغليان ـ لو أغمض عن سندها واختلاف متنها ـ تامّة، وما يقال: من انّ التعبير في ذيلها بالفساد دون التحريم ـ على نقل المجلسي ـ لا يبعد أن يستظهر منه صيرورته معرضاً لطرو الفساد والإسكار عليه فلا دلالة له على الحرمة، مدفوع بانّ المتفاهم عند العرف من التعبير بالفساد في لسان الشارع هو الحرمة وليس من شأن الإمام (عليه السلام) بيان ما لا يرتبط بالشرع من فساده تكويناً أو إسكاره كذلك.
وقد يتمسّك للتحريم بروايات اُخر:
منها: صحيحة عبدالله بن سنان أو حسنته ـ المتقدّمة ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال: كل ع صير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. بدعوى شمولها ـ بمقتضى لفظ العموم ـ لعصير الزبيب أيضاً.
وفيه أوّلاً: انصراف العصير إلى خصوص العنبي، ويؤيّده انّه لا يصحّ أن يكون